يونس في أحشاء الحوت

صديقي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

منتصر القفاش

حينما أصدر الصديق ياسر عبد اللطيف ديوان جولة ليلية أشرت في المقال الذي كتبته عنه أن قصائد الديوان تحفل بتلك اللحظات التي يصل فيها التوتر بين عناصر المشهد إلى أقصى نقطة ممكنة، فالقصائد  تتم كتابتها أو رصدها من تلك اللحظة الدرامية القصوى التي مازالت عالقة في الذاكرة  والتي في نفس الوقت تتيح للقارئ أن يتخيل ما لم يرصد في القصيدة أو ما لم يتم الحديث عنه. ، فاللحظة القصوى المكتفية بنفسها دون تمهيد أو تفسير سابق قادرة على أن تجعل القارئ يشاركها الرؤية وتأمل المشهد الذي تكمن شعريته في كتابة اللحظة التي يصعب تكرارها أو التي تمثل نقطة تحول.

وإذا كان الرهان الجمالي في الديوان هو تلك اللحظة القصوى المكتفية بذاتها فإنه في كتاب يونس في أحشاء الحوت يفك طيات تلك اللحظات ويصل ويضفر بين امتداداتها المتباعدة زمنيا

الراوي في هذا الكتاب شغوف إلى أن يبدو دقيقا في ذكر التواريخ ومعالم المكان ومعلومات محددة عن الشخصيات قد تصل أحيانا إلى ذكر الاسم ثلاثيا أو التنقيب في القواميس عن معنى الاسم أو تحديد أن رواية سيد هارتا بترجمة أنور كامل،والتدقيق في وصف المأكولات متعددة الجنسيات في المول وغيرها من أشكال الدقة، ورغم هذا الشغف فإن هناك دائما شيئا يفلت من هذه الدقة ويستعصي عليها، هناك دائما ما يجذب كل هذه الدقة إلى منطقة في السرد يصعب تحديدها. وهذا الملمح هو ما يجذبني إلى تلك القصص ويدفعني إلى إعادة قراءتها.

وتلك المفارقة بين الدقة وما ينفلت منها ويستعصي عليها هي ما يختبرها ويعيشها الراوي في كل قصص الكتاب. فمع كل هذه الدقة نجد الراوي يكتب مثلا ” وجدتها واقفة بجواري، زميلتي في روضة الأطفال، عايدة رائد راضي. كان أبوها يملك صيدليةً بجوار منزلنا، ومع ذلك اختفت من حياتي بعدها، وظللت أذكر اسمها هكذا، ثلاثيا، مرتبطا بهذا الموقف فقط. كأن حضورها التاريخي قد جبه ومحاه حضورها اللحظي في ذلك الموقف الغابر”

فالحضور التاريخي لأحداث وشخصيات قصص الكتاب، والذي لا يتردد الراوي في إثباته وإعلانه قد تبدده وتجبه لحظة لا تكف عن الحضور رغم مرور الزمن.  فاللحظة التي لا تنسى هي التي تظل قابلة لتأويلات مستمرة وقابلة إلى مواصلة الحياة رغم تباين المراحل التي خاضها الراوي.

كما أن هذه الدقة تشمل سرد الأحلام بتفاصيلها وتفسيرات الطبيبة النفسية لها، لكن في الوقت نفسه أو القصة نفسها “ترتيب الأرفف ” يكتب الراوي ” وكان العثور على هذا الشريط في الحلم بمثابة استرداد لقيمة مفقودة، أو قل مبعثرة.. ولست أدري هل حدث في الحلم نفسه، أم في حلم لاحق أني فقدت الشريط في النهاية، واستيقظت وأنا أقلب بين الأرفف باحثاً عنه. وكنت مقتنعا في صحوي، وربما لا زلت، أن ذلك الشريط الأبنوسي وجِدَ بين يدي ذات يوم..”

وليس الأمر هنا مجرد إزالة الفواصل بين الحلم والواقع فقط، وأن الشريط الذي حلم به له وجود خارج الحلم، بل إن تلك الدقة في ذكر التفاصيل والتفسيرات تتضمن ما لا نقدر إلا على الاقتناع بوجوده رغم عدم وجود دليل مادي عليه. وكأن هذا المستوى من الدلالات التي يصعب حصرها أو تسميتها في قصص الكتاب يتأكد ويمعن في الحضور كلما توغل الراوي أكثر في ذكر التفاصيل التاريخية والمكانية بدقة. 

عودة إلى الملف

 

مقالات من نفس القسم