يوميات شهر أغسطس

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام
سوتونغ ترجمة: يارا المصري نظر المحققون إلى المشتبه به، في حادثة سور المدينة وهو ممسكٌ بالباب ويتطلع إليهم. كان صبياً في الرابعة أو الخامسة عشرة من عمره، وكانوا قد سحبوه من حمام السباحة إلى المخفر. لم يكن شعره قد جفَّ بعد، وتدلت خُصلتان متقاطعتان كالمقص على جبينه، وكان بنطلون السباحة عبارة عن قطعتي قماش لونهما أحمر، خيطتا معاً، وكانتا أيضاً تقطران ماءً على الأرض. انتبه المحقق إلى عيني الصبي المليئتين بالرعب، وكانت ذراعاه نحيلتين ورجلاه ترتجفان. كان من الواضح أنه مدرك بأنه أوقع نفسه في ورطة كبيرة. ما اسمك؟ صاحبُ الأنف السائلة. لم أسألك عن لقبك، هل نسيت اسمك، أم ماذا؟ "لي داشينغ.." لا يناديني أحد باسمي، كلهم ينادونني بصاحب الأنف السائلة، حتى أبي وأمي. في أي مدرسة تدرس؟  

في مدرسة “العَلم الأحمر الإعدادية” ونحن الآن في فترة الإجازة الصيفية، لا نذهب إلى المدرسة.

أنا أعرف أنكم في الإجازة الصيفية الآن، من غير المسموح لك التفوه بالكلام الفارغ، فلتجب على ما أسألك عنه، هل فهمت؟

فهمت، من غير المسموح التفوه بالكلام الفارغ.

حسناً، تحرك إلى الإمام واجلس. لا، لا تحرك نفسك، لا تحرك مؤخرتك، بل حرك الكرسي ناحيتك واجلس، كيف لك أن تكون بهذا الغباء؟ أنتم أيها المتشردون الصغار، أدمغتكم أغبى من أدمغة الخنازير.

متشردون صغار. همهم الصبي بصوت منخفض، أنا لست مشترداً صغيراً.

أنت لست متشرداً؟ إذا لم تكن متشرداً، فمَنالمتشرد إذن؟ آي، لا تقل لي إنك من الطلاب المجتهدين؟

لست كذلك. استدار الصبي بجسده، وحاد ببصره عن نظرةِ المحقق الساخرة، ونظر إلى قطرات الماء على الأرض، ثم نظف حنجرته وقال بصوت منخفض، العام الماضي كدت أن أكون من الطلاب الخمسة المتفوقين، لكنني خِفتُ أن يسخروا مني، فتعمدت الإجابة بشكل خاطىء على أسئلة الامتحانات. وتحدث معي وانغ ليانجو في هذا الأمر. أنا لا أخدعك، مَن يخدعك هو كلب.

مَن هو وانغ ليانجو؟

إنه المدرس المسئول، وهذا أيضاً لقبه، كل معلم في مدرستنا له لقب.

حسناً حسناً، من غير المسموح التفوه بالكلام الفارغ. أسألك الآن، هل أنت مَن رمى بهذا الحجر من فوق السور؟

اختلس الصبي النظر إلى المحقق، ثم أحنى رأسه، ولم يتحدث، فقط رسم كلمةً بإصبعه على ركبته.

لا تريد الاعتراف الآن؟ أنتم أيها المتشردون الجبناء، ترتكبون الفعل ولا تريدون أن تتحملوا مسئوليته.

لقد رميت هذا الحجر، ولم أتوقع أنه سوف يسقط عليهم تحديداً.

لماذا رميت الحجر؟

لا أدري. لقد دفعتني الشلَّة إلى رميه، لقد خدعوني، وجعلوني أرميه، لكنني شخصياً لا أجرؤ على رميه، هم جعلوني أرميه.

هل أنت غبي؟ أَليس لديك عقل؟ هم يقولون لك أن ترمي الحجر فترميه؟ أَلا أتعلم أن رمي الحجر من هذا الارتفاع الكبير يمكن أن يقتل أحداً.

لم أفكر في هذا الأمر. لقد كانوا أسفل السور، اعتقدت أننا رأيناهم ولكنهم لا يروننا، لم أتوقع أن رمي حجر يمكن أن يقتل أحداً، إذا كنت أعرف، لم أكن لأرميه من البداية.

هل تعرف هذين الشخصين؟

الشاب والفتاة؟ لا أعرفهما، نحن نذهب ناحية سور المدينة لنلعب، ورأيناهما بضع مرات، فهما يتقابلان في هذا المكان، وفي كل مرة يختاران مكاناً بين الأعشاب الكثيفة للجلوس، ونحن……، نحن…….

وأنتم ماذا؟

ونحن في الأعلى……، ننظر إليهما من أعلى السور، خجل الصبي قليلاً، وكان يحاول بقوة أن يمنع ابتسامة ظهرت على وجهه، وقال: هما يكونان……، هما يكونان……، يقول زعيم الشلِّة إنه يعرف هذه الفتاة، فهي تعمل في صالون “اللمسة الجديدة”، وإنها قصَّت شعره من قبل.

كم مرة رأيتموهما؟

لا أتذكر بوضوح، وعلى كل حال، فإننا عندما نذهب في الساعة الخامسة بعد الظهر، يمكن للعديد من الناس أن يروهما، أنت تعلم أن “حديقة رينمين” تقع هناك، فهما يشتريان التذاكر من البوابة الخلفية للحديقة ويدخلان.

هل تتعمدون الذهاب لرؤيتهما فقط؟

لا يمكن أن تقول مُتعمداً. احمر وجه الصبي فجأة، وأحس أن دماغه تلف وتدور وأصبح مشتتاً، حتى صوته بدا متردداً، وأصبح يتمتم بكلامٍ غير مفهوم، قال، في الحقيقة هما…، في الحقيقة هما ليسا بـ……، هذا….، في الحقيقة هما يختبئان هناك ويتحدثان.

فأنتم تسترقون السمع عليهما إذن؟

لم أسمع بوضوح، لم أسمع بوضوح ما يقولان، في إحدى المرات رأيت الفتاة تبكي، بعد أن بكت بلحظات بكى الشاب، وحالما بكى الشاب ضحكنا نحن. واعتقدنا أنهما رأيننا، والمرة القادمة لن يأتيا إلى هذا المكان، لم أتوقع أنهما بهذا الغباء، فقد قَدُما في اليوم التالي إلى المكان نفسه. إنهما غبيان جداً، فقد ظنا أن هذه الأشجار والأعشاب الكثيفة سوف تحجب الرؤية ولن يراهما أحد، لكنهما لم يتوقعا أننا نراقبهما من فوق السور.

تراقبونَهما؟ إذن لِمَ رميت هذا الحجر؟

لا أدري، أحنى الصبي رأسه مرة ثانية، وقهقه وهو يعد على أصابعه، ثم سأل فجأة، هل ماتا؟، هل أصاب الحجر الشاب أم الفتاة؟

هل كنت تريد أن تصيب الشاب أم الفتاة؟

لم أُرِد إصابةَ أيٍّ منهما، فقط أردت إخافتهما قليلاً.

هل عدنا لجدالك الماكر هذا؟.. إذا كنت تريد أن تخيفهما حقَّاً، لماذا اخترت حجراً كبيراً كهذا، في حين يمكنك اختيار حجرٍ صغيرٍ جداً؟

أنا فقط حملت الحجر، أما زعيم الشلِّة فهو الذي اختار الحجر، وقال إنني ضعيف لدرجة أنني لا أستطيع أن أحمل كيس قمامة.

ماذا؟

قال إنني جبان، هو دائماً يقول إنني جبان.

هو قال إنك جبان، فغمرتك الجرأة والشجاعة. يجعلك تذهب لقتل الناس، فتذهب لقتل الناس؟!

هل هما بخير؟ هل مات أحد؟، كان الصبي يراقب تعابير وجه المحقق. تنهد الصبي ببطء، وارتسمت على وجهه ابتسامة مطمئنة لم يستطع أن يخفيها وقال، لم يحدث لهما مكروه، هما بخير، أنتم تريدون إخافتي فقط.

هل تجرؤ على الضحك والمزاح؟ إذا ضحكت مرة أخرى فسيكون لي تصرف آخر معك.

لم أضحك. أخفى الصبي وجهه براحة كفه، وهمهم بصوت منخفض، هل الضحك دليل ضدي أم ماذا؟!.

سكت المحقق برهة، ثم أشار إلى الكلمات في دفتر التحقيق برأس القلم الحبر الجاف، لم يكن هناك الكثير من الكلمات على كل حال، فقط قام بتعديل علامات الترقيم التي نسيها سهواً.

أين ذهبت بعد الحادثة؟

ركضت، عندما سمعت صرختهما الحادة، ركضت على الفور، فقد اعتقدت أنني قتلت أحدهما. ركضت إلى المنزل، وكان الجو حاراً جداً، فوقفت أمام المروحة لعلَّها تعطيني بعض الهواء البارد، ولكنها لم تفلح في ذلك، فخفت أن تأتوا للقبض عليْ، عندها ركضت إلى حمام السباحة، سبحت لمسافة خمسمائة متر، لا، بل اقتربت من ألف متر، رأيتكم بعدها تقفون هناك، لم أكن أريد التسلل والهرب، ولهذا سلَّمت نفسي لكم ولم أفكر في العواقب.

هل سبحت فقط؟ أَلَم تذهب إلى مكان آخر؟

لم أذهب إلى أي مكان. نظر الصبي بارتباك إلى المحقق، ثم قال، كنت أشعر بالحر الشديد، فذهبت إلى حمام السباحة لأسبح.

أنت تكذب. دعك من هذه الألاعيب وتأدب، أين ذهبت بعدما نزلت من فوق السور؟

أنا لا أكذب، مَن يكذب هو كلب، لقد خِفت، ولهذا ركضت إلى المنزل، وكنت أشعر بالحر الشديد، ولم تفدني المروحة، فذهبت إلى السباحة، أنظر إليَّ، فمازلت أرتدي ملابس السباحة.

حسناً، ماذا عن الشاب والفتاة؟

لم يشاهدانا، حملق الشاب بعينيه، وحينما لم يرَ أحداً أحس بالارتياح، وحك رأسه، ثم هربا، هذا يدل على أنهما بخير، ربما أصاب الحجر قدميهما، وأعتقد أنه أصاب قدم الفتاة، لأن صوتها كان أعلى من الشاب.

إخرس!، لقد حققنا في ملابسات القضية مسبقاً، وكانت خطيرة، إنَّ هناك دماً على طول الطريق الصغير إلى جانب البوابة الخلفية للحديقة، وحرس المدخل قالوا إنهم لم يروا شاباً أو فتاة.

ما المشكلة في ذلك إذن؟ كان الصبي يرف بجفنيه ويسأل.

أنا أسألك أنت. كُف عن هذه الحركات وتأدب، لعلك نقلت الجثث إلى مكان آخر؟ أين نقلتها؟

أنت تتفوه بالحماقات!، ولأن الصبي كان قد وصل إلى مرحلة قاسية من الرعب والذعر، نسي بسببها المكان الذي كان فيه، فما كاد ينهي كلامه حتى أدرك أنه تكلم بفظاظة وخشونة، فوضع أصابعه في فمه وعضَّ عليها، وكأنه يريد أن يُرجع هذا الكلام إلى فمه مرة أخرى. وفجأة أحس بشعره الأسود اللامع يقف من الخوف، وفي النهاية بكى بحرقة وهو يقول…، أنت تريد إخافتي فقط، هما بخير، ولم يموتا، كيف يمشي الأموات على الطرق، كيف للطريق أن يكون عليه آثارُ دماء؟

هل تبكي الآن، بعدما قتلت أشخاصاً تبكي، أنتم أيها المتشردون الصغار، لا تبكون إلَّا عندما تحين ساعتكم.

دفن الصبي وجهه في كفه وشرع في البكاء من جديد، يبكي ويتحدث، إنهما لم يموتا، لِمَ تكرر كلمة جثث؟، لا يمكن أن تقول على الأشخاص الأحياء إنهم جثث.

بدا أن مستوى الصبي الدراسي ليس سيئاً للغاية، فعندما أعطاه المحقق ساعة لتسجيل اعترافاته، سجلها الصبي في عشرين دقيقة فقط، كما كانت كتابته مرتبةً ومنطقية، وقد أطال الصبي في وصف مشاعره ونفسيته، هل رمى الحجر أم لم يرمِ الحجر؟ هل رمى حجراً كبيراً أم صغيراً؟ وكأنه يصف حكاية تدور حول أناسٍ طيبين وأعمالهم الطيبة، وعندما قرأها المحقق، لم يعرف هل يضحك أم يبكي، وقال له بسخرية إنَّ كتابتك لا بأس بها.

كان الصبي يعي سخرية المحقق منه، لكنه استغل هذه الفرصة لإبراز مهاراته، وقال، أنا الأفضل في صفي في كتابةِ المقال، وكان المدرس وانغ ليانجو يعطيني دائماً مائة من مائة في مادة المقال، كان غرضه الأساسي تشجيعي على الكتابة، كانت كتابتي للمقال جيدة.

درجاتك في ارتكاب الجريمة جيدةٌ أيضاً، يمكنني أن أعطيك مائة من مائة، تقتل الناس وتعرف أيضاً كيف تخفي جثثهم.

لم ينطق الصبي، والتفت بوجهه ناحية النافذة، كان الوقت حينها ليلاً، وكانت نظراته تتأرجح في دوائر عديدة في الغرفة، وفي النهاية وقعت عيناه على ساعة المحقق، فسأله بجبن، كم الساعة الآن؟

لماذا تسأل؟ لعلك تريد العودة إلى المنزل للنوم؟

هل الساعة الثامنة والنصف الآن؟ إذا كانت كذلك، فإنني عادةً في هذا الوقت أكون في المنزل أكتب يومياتي.

يوميات ماذا؟ هل تسجل كم جريمة ارتكبتها في اليوم؟

كتابة مذكرات، هو الواجب الذي أعطاه لنا المدرس وانغ ليانجو، كل يوم نكتب صفحة، وسوف نسلِّمها في بداية الدراسة، وفي الحقيقة، كتابة المذكرات ممتعة للغاية، يمكن أن تضيِّع بها الوقت في المساء.

لا داعي لتسليم واجبك الصيفي، الذهاب إلى المدرسة ليس من شأنك الآن، فسوف تُطرد منها.

تبقى لي ثلاث صفحات، العطلة الصيفية ستنتهي بعد ثلاثة أيام. كان الصبي جالساً أمام الطاولة محدقاً في الورق والقلم الحبر، وتردد لحظة، ثم عاد وطلب هذا الطلب العجيب: أعطني فرصة لكتابة مذكراتي، وأنت لا تستجوبني الآن على كل حال، أريد أن أسجل مذكرات اليوم من فضلك. في نهاية المطاف، وافق المحقق على طلب الصبي، وكان الفضول هو السبب الأكبر لموافقته، كان يريد أن يعرف ماذا سيكتب هذا الصبي في مذكراته.

مذكرات الصبي  “لي داشينغ”

الثامن والعشرون من شهر أغسطس من عام1974، صباحاً.

تهب الرياح الشرقية بقوة، ويرفرف العلم الأحمر، وتشرق أنهارُ وجبالُ وطننا.

ذهبت اليوم إلى حديقة “رينمين” للتنزه واللعب، وعند مروري بموقع بناء، سمعت فجأة شخصاً يصرخ بخوف وذعر، وكأن حجراً سقط من أعلى المبنى، وبالصدفة سقط على أحد المارة. في هذه اللحظة الحرجة، اندفعت غير عابئٍ بسلامتي، وحملت العجوز المصاب بين يدي.

كانت رأس العجوز تنزف وكأنها نبعٌ فوار ينهمر على ثيابي، والدماء تغطي قميصي الأبيض الجديد، وقد أزعجني قليلاً تلوثُ القميص بالدم، ولكنني ما إن خففت قبضتي وقررت ترك العجوز، حتى لاحت في مخيلتي صورُ جميع الشخصيات البطولية اللامعة أمثال “لي فنغ”، “وانغ جي”، و”تشيو شاو يون” وغيرهم، وفكرت أن جميع هذه الشخصيات البطولية التي كانت تعمل من أجل حماية الناس وممتلكاتهم، لم تكن تهاب شيئاً، حتى الموت لم تكن تهابه، فهل سأخاف أنا من بعض الدماء؟

 بعد التفكير في هذا كله، امتلأ قلبي بروح الثورة وبجميع العواطف السامية، حملت العجوز على ظهري، وهرعت إلى المستشفى، وكانت دماء العجوز تقطر على طول الطريق، وعرقي يقطر أيضاً على طول الطريق، وطوال الطريق وأنا أفكر في الإسراع أكثر فأكثر لإنقاذ العجوز، ونسيت تلطخ القميص بالدماء ونسيت التعب، وفي النهاية وصلت المستشفى، وتم إسعاف العجوز. سألني الطبيب عن اسمي، فأجبت، أن مَن يفعل شيئاً طيباً لا يجب أن يُذكر اسمه، إنه من واجبي أن أنقذ هذا العجوز، هكذا قلت.

وياله من يومٍ ذي معنى..!

صمتٌ طويل انتاب المحقق بعد قرائته لمذكرات الصبي، وشحب وجهه، وقام بقطع ورقة اليوميات من الدفتر وطواها، ثم وضعها في الدرج. وتذكر قول الصبي أن كتابة هذه المذكرات هي واجبه في العطلة الصيفية، وحقَّاً هكذا تُكتب المذكرات. كان المحقق يدرك أن الصبي يريد أن يوصل إليه نوعاً من التفسير، ولكن المحقق لم يكن يحتاج إلى هذه الطريقة لشرح موقفه. وقال للصبي فحسب، إن مذكراتك اليوم ستُسَلَّم لي أنا.

بعدها أصبحت القضية موضوعاً طواه الزمن. وقد وجد المحققون الشخصين المعنيين فيها. كانت الفتاة بالفعل تعمل في صالون “اللمسة الجديدة”، وكانت فتاة جميلة بعينين مسحوبتين، وضفيرتين طويلتين تنسدلان على صدرها وشعرٍ يغطي جبينها. لم يظهر أي أثر لجرح، وحسب خبرة المحققين، إذا كانت قد أصيبت بالفعل من الحجر، فإن الطبيب سيقوم بإزالةِ جزءٍ من شعرها الأسود الجميل لخياطة الجرح.

أنكرت الفتاة علاقتها بالقضية، وقالت إنها لم تذهب قط إلى هذه الحديقة، وإذا ذهبت ستذهب برفقة والديها، فكيف إذن ستذهب للجلوس بين الأعشاب هناك؟، بعدها بعدة أيام، وجد أمن الحديقة الضحية الثانية، وكان قدم  لتوه من رحلة عمل، ويتذكر المحقق أن هذا الشاب كان موظفاً متوسطاً في إحدى المؤسسات الكبيرة، وعند رؤيته، ستعرف تماماً أنه شاب ذو مستقبل بلا حدود، شخص مفعم بطاقة الشباب، وكان ثمة جرح على وجهه موضع شك، لكن الموظف شرح ببساطة سبب الجرح، قال إنه كان في فندق خارج المدينة، وسقط على السلم أثناء عودته ليلاً إلى غرفته، هكذا ولا شيء آخر. كان الشاب يتحدث بلهجة صارمة حازمة وهو ينكر أنه ضحية في هذه القضية، وقال، إنني مشغول جداً في عملي، من أين لي بوقتٍ أذهب فيه إلى الحديقة؟

وفي الحقيقة، فقد تخلى المحققون عن هذه القضية لعدم جدواها، وعرفوا بوضوح أن الشاب والفتاة من المستحيل أن يحلا لغزها، لأنهما ليسا طرفاً فيها، وقال المحقق لأحد زملائه، تباً، مَنْ يوافق على الاهتمام بقضية كهذه مريبة وغير واضحة وغير نزيهة، وإذا لم يهتم بها أحد فلا بأس، لكننا تساهلنا مع هذا الصبي النذل.

كان المحقق يقصد بالصبي النذل “داشينغ”، وكان حينئذ طالباً في السنة الثالثة من المرحلة الإعدادية. وظل المحقق يحتفظ بالورقة التي كتب فيها الصبي مذكراته الخاصة، ظاناً أن المسألة ما هي إلَّا مسألة وقت حتى يقع الصبي في يديه مرة أخرى، ولكن العجيب أن المحقق لم يرَه مرة ثانية، ولعلَّه ليس متشرداً كما زعم.

بعد مرور عشرين عاماً على تلك الحادثة، كان المحقق على وشك التقاعد من مهنته المحببة إلى قلبه، وعندما كان يرتب حاجياته لأخذها، وقع بصره على الورقة التي كتب فيها الصبي يومياته، وتذكر الحادثة. لم يتمالك نفسه من الابتسام والضحك وهو يمسك الورقة الصفراء القديمة، وكان بجانبه زميل شاب تملكه الفضول، فأمسك الورقة وبدأ بقراءة ما فيها، وبعد قراءة نصفها قال: يا لاو لين، ما الذي يُضحك في هذه الورقة؟، عندما كنت في تلك السن كنت أكتب مذكرات كهذه، كتبت كثيراً منها.

وبالطبع، لا يدري الزميل الشاب حادثة أسوار المدينة التي وقعت قبل عشرين عاماً من الآن، ولم يجد لاو لين في نفسه الرغبة لإخبار زميله بالأمر. فمزق الورقة ببطء، وقال، معك حق، كانت كتابة هذه المذكرات رائجة في ذلك الوقت، لا شيءَ مميزاً فيها.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*نُشرت في مجموعة (الفرار عام 1943) الصادرة مع مجلة دبي عدد مايو 2015

يارا المصري مترجمة مصرية 

مقالات من نفس القسم