ينبت فيها الورد

ينبت فيها الورد
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

محمد الفخراني

فى اليوم التالى لولادتها بدأ ينبت فيها الورد.

خرجت من بين فخذى أمها مثل وردة تتفتح، والنساء الملتفات حول الأم يشعرن برائحة الورد وهى تتسرب من هناك لتعبئ الهواء، كانت الرائحة تزداد مع كل جزء يظهر من الطفلة التى أطلت برأسها، حتى ظهرت كاملة بلونها الوردى، فتناقلتها النساء بينهن ليتشممن جسمها، وعندما ضربتها إحداهن تلك الضربة الخفيفة أسفل ظهرها، تساقطت منها أوراق ورود صغيرة، وتطايرت رائحة خفيفة ستصاحبها طوال حياتها.

لم يكن باستطاعة الأم أن تخفى سر ابنتها، الذى كان معروفًا حتى قبل أن تخرج كاملة للحياة، فقط، كان من الغريب ألا ترى الابنة الورد الذى ينبت فيها، ولا تشم رائحته، لم تكن تلاحظ أوراقه وهى تطفو على الماء الذى تستحم به، حتى إنها لا ترفّ برموشها عندما تقطفه أمها أثناء نومها.

تلعب الطفلة مع أقرانها، وفى غفلة منها يقطفون وردة من ظهرها أو ساقها، فتشعر بوخزة بسيطة، وتلتفت إليهم لترى وردة فى أيديهم، لكنها لا تفهم كيف حصلوا عليها، هم أيضًا لا يمنحونها فرصة لتتأكد، فكلما نظرت إلى ساقها قطفوا وردة من ظهرها، وإذا مدّت يدها لظهرها قطفوا من جنبها، فيزداد ارتباكها، تصرخ، وتجرى لبيتها، تغلق بابًا على نفسها، وتتعرّى، تبحث فى كل مكان من جسمها عن أثر لوردة ولا تجد، تحكى لأمها، فتضمها إليها وتربت ورودها، دون أن يكون بمقدورها أن تقول لها شيئًا، فى الوقت نفسه لم يكن باستطاعتها أن تمنعها اللعب، لأنها عندما فعلت ذلك فى إحدى المرات، ذبلت طفلتها بمجرد أن لمسها الحزن، وبدأ جسمها يجف سريعًا، مثلما يفعل الورد عندما يشعر بالحزن، فتغادره حياته، أو يغادر هو الحياة التى تؤلمه.

لم يكن الورد ينقطع من الطفلة طوال العام، وحتى لا يتراكم على جسمها ويقتلها، كانت الأم الفقيرة تقطفه أثناء نومها، وتصنع منه باقات تبيعها، وكثيرًا ما كانت تُهديه لأهل القرية، فيعلّقونه فى زوايا بيوتهم، على أبوابهم، نوافذهم، بجوار أسرّتهم، يُزينون به شعر بناتهم، ويطبخونه فى مناسبات خاصة ليصنعوا أطباقًا حلوة، أو عندما لا يجد أحدهم شيئًا يأكله، حتى صار تفصيلة مشتركة فى حياتهم.

بسرعة، صارت الفتاة معروفة خارج القرية، وكانت قد فقدت اسمها منذ مدة طويلة، أو ربما نسيت أمها والنساء اللاتى كُنّ حولها وقت ولادتها أن يعطينها اسمًا وقد خدّرتهن رائحة الورد، وإذا كان مفهومًا أن أحدًا من بيتها أو شارعها أو قريتها لم يمنحها اسمًا، فليس مفهومًا أن أحدًا من البلاد الأخرى لم يمنحها لقبًا، فقد كانوا فى حاجة إلى كلمة أو جملة خاصة يطلقونها عليها، الأمر سهل جدًا، بإمكانهم أن يطلقوا عليها أىّ لقب يتعلق بكون الورد ينبت فيها، إلا أنهم، وبغرابة، لم يفعلوا، فكان كلٌ منهم يتحدث عنها بطريقة تختلف عن الآخر، لكنها تؤدى إليها فى النهاية، هل كانوا يحبون أن يتكلموا عنها وقتًا أطول، بدلاً من تلخيصها فى كلمة أو جملة قصيرة؟

 هكذا كانت، بلا اسم أو لقب، يأتون إليها ليحصلوا على وردة، يطلبون ذلك من أمها، بعضهم كان على استعداد أن يدفع ثروة مقابل أن يرى تلك الشابة فى ليالى اكتمالها، حيث تكون ملأى بالورد، ولا يمكن لأىّ كائن أن يصف وجهها، أو يتحمّل النظر إليه، أمها فقط تستطيع، رغم ذلك، كان جمال هذا الوجه يُبكيها فى كل مرة تجلس فيها على طرف فراش ابنتها النائمة، تتأملها، وتبكى هذا البكاء الجميل، بدموعه الرائقة الهادئة، فتسيل على خدّها مختلطة برائحة الورد، التى ترفرف بخفة فى روح الحجرة. 

كانت القرية كلها تعرف ليالى اكتمال الشابة بالورد، وينتظرونها، وفيها لم تكن الأم تدع ابنتها تخرج، ولا تسمح لأحد أن يراها، فقط، تفتح نافذتها أثناء نومها، فتطفو رائحتها وترفرف، بينما تفتح القرية كل نوافذها وأبوابها، ويجلسون أمام بيوتهم، أو فى أىّ مكان يفضلونه، فتصلهم رائحتها، تفعل الأم ذلك أيضًا فى الأعياد والأيام الخاصة للقرية، فيقضون نهارهم وليلتهم فى رائحتها، يُطلقون الموسيقا، يرقصون ويغنون، بينما هى فى سريرها نائمة، وفى نهاية الليل، تغلق الأم النافذة، وتبدأ قطف ورود ابنتها.

 لم تعد الشابة تنزعج عندما يأتى أحدهم من خلفها وترى فى يده وردة، كانت تبتسم، تتساءل مع نفسها، وتتحسس عنقها أو ظهرها فلا تجد أثرًا لأىّ ورد، أيضًا لم يعد أحد يقطف الورد منها بقوة، إنما يقترب دون أن تشعر به، مثلما فعل أحدهم منذ قليل، ويمد يده ليقطف وردتها برفق، فلا تشعر به، كانوا يدفعون لأمها، فتأخذ منهم أحيانًا، وتتأكد فى كل مرة أن أحدًا لم يؤلم ابنتها، رغم أنهم جميعًا صاروا حريصين منذ مدة طويلة على ألا يؤلموها، ليس فقط لأن حزنها يتسبب فى جفاف كل الورد الذى يُزيّن بيوتهم، شعر بناتهم، ملابسهم، شوارعهم، ويغيّر مذاق طعامهم، لكن لأنهم أيضًا يحبون هذه الشابة التى تسعدهم، ولا تعرف أن الورد ينبت فيها.

 كانت الأم قد منعت ابنتها دخول الحدائق منذ كانت طفلة، حتى لا تضيع بين الأشجار، وكى لا تخطفها شجرات الورد، أو يُقنعنها بطريقة ما أنها تنتمى إليهن، وكثيرًا ما طاردت الأم شجرات الورد التى تأتى ليلاً، وتحوم حول نافذة طفلتها وينادينها “يا بنت، يا بنت”، دون أن يذكرن اسمًا معينًا، حتى تكاد تفيق من نومها، وقد حاولت الشجرات اقتحام البيت مرات كثيرة، فكانت الأم تضع خلف الباب بعض قطع الأثاث، أو تصدّه بظهرها عندما يفاجئنها، تسمعهن أحيانًا وهن يبكين، أو يغنين بطريقة لا تفهمها، بينما تفهمها طفلتها وترتعش أوراق الورد على جسدها، وتردد معهن الأغنيات، فتضمها الأم إلى صدرها وتخبئها هناك، وعندما يتعالى صوت الشجرات بالخارج، ويزداد ارتعاش ورد ابنتها، تُمسك بغصن جاف قوى، وتخرج لتطاردهن حتى يبتعدن، كانت تحرص ألا تؤذى أيًا منهن حتى لا تحزن طفلتها، التى لا تعرف لماذا تأتى إليها أشجار الورد.

 أحيانًا، كانت الطفلة تمنع أمها من مطاردة شجرات الورد بأن تتشبث بحضنها، فتبقى الأم بمكانها، وتراقب فى وجه ابنتها شجنًا عذبًا، وابتسامة كالماء، بينما تستمر الشجرات فى الغناء، وعندما تبدأ الأم قطف ابنتها يبدأن البكاء، أو يعلو غناؤهن حتى تنتهى، فيصمتن وينصرفن بنهنهات أو أغنيات متقطعة.

لم تتوقف الشجرات عن المجىء، يكبرن مع الإبنة، وتتنوع أغنياتهن، تلك الأغنيات التى صارت الأم تشعرها بعمق، وتعرف أن شيئًا ما سيحدث يومًا ما.

 ربما حدث ذلك الشىء ما فى واحدة من ليالى الاكتمال، عندما جاءت الأم وجلست على طرف فراش ابنتها، تأملت وجهها النائم، تحسست بعينيها وردها المكتمل، ولم تطاوعها يدها هذه المرة على قطفها، نبضٌ ما كان يقول لها “كفى”، فتركت باب البيت مفتوحًا.

فى هذه الليلة، بكت الأم أكثر وأجمل من أية ليلة أخرى، واكتمل الورد فى ابنتها أجمل من كل الليالى، ثم جاءت شجرات ورد شابة من كل مكان، دخلن البيت واحدة بعد أخرى، وهن يغنين أغنيات جديدة، ثم دخل بعضهن حجرة الفتاة وتوقفن حول سريرها، يتأملنها نائمة، ويلمسن وردها المكتمل، وعندما فتحت عينيها، همست لها إحدى الشجرات بإسم لم يُستعمل من قبل فى أىّ مكان، ابتسمت الفتاة، وعرفت أنه اسمها.

خاص الكتابة

 

 

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون