وَحْيُ الرَّاء

موقع الكتابة الثقافي art 56
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

ناصر الحلواني

كان المفتاح لجَدِّهِ، نٌحاسيا مُصفراً، تكتنف ضخامته نقراتٌ سُود، وعلى حلقته محفور اسمه “نون”، وضعه في ثقبه، وأغلق سطوحه على سمائه الخاصة، وحمائمه المسافرة، وصُررِ أسراره، وهبط السُّلَّم الخشبي، يتأمل درجاتَه، لرائحته صوت بحر، ولثقَلِه عليها أريج نِزالٍ خَاضَه قبل الآن، على مشارف جبل قَاصٍ، صلَّى في سهله، وفيه رآها، مجبولة من صَخرِه، رُمحية القدِّ، وللَوزِ عينيها عطر مدينة فتحها، فأسماها “رَنْد”.

وكان الشارع الصغير، محفوفا بالسُرُجِ المضيئة، تُملِّسُ بنورها على قبابِ البلاطات المصفوفة حتى آخر الضوء، يحلِّقُ ومئذنة سامقة، ويسكنُ إلى حافة الأهلَّة في سماوات القباب.

والبيوت عتماتها دفء سَكَنَ في مداخلها، وتحت الحروف البارزة لقصائد منحوتة في أعلى الأبواب الموَارَبة، تتعلق في صدورها وجوه أُسْدٍ من معدن صلد، لِبَدُها مصقولة، وتحتها قطع الحديد المحطوطة بيوتاً لدقِّهَا. 

وكانت العَشيَّة تحمل ناسها إلى مقاصدهم الليلية، وتعود بَرحلِهم إلى سُكناها، إلى مصابيح الزيت تنتظر في أول البيت، يرتاح نورها إلى شوق القاعِدَة تنتظر الجائي مِن كّدِّ يومِهِ، مسرِّجة سِراجَها لدخوله إلى راحته.

يشيع السكونُ بعدما سَكَّت الدكاكين الباقية ضُلَفَها، ويصير الليلُ والشارعُ مملكةً للمزاليج المعلَّقة في جنبات الأبواب، وللمفاتيح العائدة إلى سيَّالات أصحابها، مطرَّزة في نواحيها أسماؤهم وحروفُهم الأولى، وللعارفة الآيبة من باديتها، تحمل في غَلقِها وَشوَشات الرمل، وخبايا الريح، ومغاليق الأسرار، تحُطُّ مثل وحي في جسد العتمة الصغيرة الصاحية، تستدفئ بشحيح النور، وقوارير قهوة صهباء، مصهللة بفضل الضحكة الغانية لأم الخير، تُشعل بها كلَّ ما سكن بين قدحِ وقدح.

كان المساء مزاجا من البكاء المنتهي وصهد لقاء الأصحاب، أنسبُ ما يكون لاحتمال رسالة، وأصعب ما يكون للفرَدَانِيَّة واحتبال وحي، في مثل مساء تدوس فيه الحوافر الصليبية طرقات القدس، في مثل مساء يحلم فيه “الناصر” بالمريَّة، في مثل مساء تدق فيه الأجراس، الممهور عليها أسماء صُنَّاعها، في منارات المآذن، في مثل مساء سيكون ذات مساء.

هكذا كان المساء الذي سامر فيه الأصحاب، حول أقداح القهوة، وقطع المخلل الملحية، مثل محارات عَلَقت بجنبات سُفن حفرها في خشب المنضدة الصغيرة، يلتَمُّون حولها ويتحاكون، ويرنون إلى الداخلةِ، تتدثر بالسواد المشغول بِخَرجِ النَّجَف، وملاليم الذَّهبِ، والتِرتِر الملوَّن، والخيوطِ المغزولة بتموجات شعرها الفاحم، المنسدل في غير عناية، ويحدثون :

ـ “تُرى ما اسمها الليلة؟”

ـ “أزميرالدا”.

ـ “عَرِيب”.

ـ “كارمن”.

ـ “بُثَينَة”.

ـ “لُبنَى”.

ـ “هي الليلة رَنْد”.

قال دون أن يسمعهم، دون أن يروه داخلا خلفها، تحمل نبوءاتها في غَلَقِهَا، المغطى بوشاح غير بال، مشغول الحواشي برسوم ونقوش، وحدها تعرف معانيها، وجميعهم يدركون سحرها. ينادونها، تصير إليهم، تبسطُ أسبابَ وَحيِهَا، ومعارفِهَا، فيسود صَمت، يتكئ إلى مجالسهم، ويتراكم تحت المنضدة الصغيرة، ويعودُ مثل صدى إلى منطقها، فتُحَدِّثُ:

ـ “أنتَ نُون”.

فيعود بذاكرته إلى المساءات الماضية، حين رآها، تسبقه عبر طرقات لها رائحة الآس، ونور نهار مشغول باليد، يناديها، لا تَردُّ، وتمضي في طريقها، تلتف بإزار له لون النبيذ المطعون بالشمس، تدور ودوران الدروب، تُلمح له بطَرْفِ وِشَاحِها، المرفرِف خلفها حيث تصير، يتبعُ خطوها، في نعلها الجلدي المرسوم بصباغ الحِنَّاءِ، وعلى سَمعِها يتلو:

أأسلبُ ، من وصالِكِ ، ما كسيتُ

وَأُعزَلُ ، عَنْ رِضَاكِ ، وَقد وَليتُ

وكيفَ ، وفي سبيلِ هَواكِ طوعاً

لَقـــِيتُ مِـنَ المَــكَارِهِ مَا لَقِيتُ

فَدَيتُـكِ ليس لي قلــبٌ فأسْـلُو

ولا نفْــسٌ فـآنــفُ إن جُـفِيتُ

فـإن يكُــنِْ الهــوَى داءً ممــيتاً

لمـَنْ يَهــوَى فـإني مُـستَــمِـيتُ([1])

كانت تُحوِّمُ خفيفة، تسابق النَّهار، وتحُطَُ مثل لمعة في عيون العيال يلعبون بِنَحْلاتِ الخشب، وطائرات ورق الكُرَّاسات، يدوسون بحفائهم في مسارات مَشيِهَا، وتروحُ تُملَّسُ على الأجساد المطروحة جنب الحيطان الباردة، يتكلفتون بجلابيبهم البسيطة، ويحلمون بالأرصفة.

ويحلُّ قَمرٌ، فتكون إلى وَسَعَايَةِ الليل، تمرُّ بكفِّها على كفِّ كنَّاس يلمُّ بقايا اليوم، مِزَق ورق، بقايا الخطوات، ووهلات الهوى والتعب، وتغادر إلى نور نارٍ بعيدة.

يَشُوفُها تهبط جَنبَ امرأة تقعد أمام رَكيَةِ نار، تكسر عيدان الجَريد الناشفة، تَحُطُّها في الجمر، وتكلم نفسها عن سنين عمرها التي مرَّت من غير وَلَد، وعن رجُلِهَا الذي كانت تنتظره عند شُبَّاكها، لأجل أن تسعد برؤياه وهو يِهِلُّ عليها من أول الزقاق، وعن قعدتِها في الشوارع سنين، تجمعُ كَسْرات الخشب والخبز، لأجل الدفء واللقمة، وعن حكاياتها لأُناس لا تراهم عن الذي كان وما صار، والذي صار وما كان.

وكان يبُصُّ عليها من بعيد ولا يخطو إليها.

ربما استطاع أن يغادر نومه، أن يستسلم للرؤيا ويُعاني البُعدَ، أن يبقى في حال الحُلم، أو يصحو، ولكن ما كان له أن يبدِّلَ مسارات المنام، أو أن يغيِّر أسباب الحلم.

وكان يدرك أن المستحيل قابل للنفاذ؛ شرط أن يكون القُربانُ مناسبا، فيعود إلى العارفة بأحواله، تجوسُ بِبَنانِها في رَملِ صحرائها المفرُود على منديلها، في أطرافه تعاويذ مرسومة بِصِباغ لا يبلى، ترمزُ إلى ملامح خروج، وأشباه للاستحالة، تحوي دوائر مقسومة، وتفاصيل وجوه، ونقطة نور مثل نجمة في فضاء “ن”.

يسألها: “أتعرفين؟”

ـ “مثلما يعرف الحلم قلب صاحبه”. تقول.

وتلمع عيناها، وتطرق، فتفرح روحه، ويرنو إلى صبابة عشقه تسري في أنحائها.

…………………………….

([1]) قصيدة للشاعر القرطبي ابن زيدون.

*الفصل الثاني من رواية “مطارح حط الطير”

*اللوحة للفنان السوري خالد الساعي

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون