وليمة من أجل الموتى

محمد عبد النبي: الترجمة تشبه أحياناً التبرع بدم الكتابة للغرباء من أجل كسب الرزق
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

شهادة: محمد عبد النبي

( 1 )

كنت قد كتبت: “ورأيت كأنني مدعو إلى حفل كبير، عربدة جماعية فى صحراء ليلية فسيحة، تحت صيف باسم النجوم. أدركت – لا أدرى كيف – أنهم سوف يشوون الخراف على نار موقدة فى الخلاء، ويدحرجون براميل النبيذ المعتق، ويستعينون بأمهر عازفي الوتريات، ويضربون خياما بيضا مزودة بالسجاد الفارسي والوسائد المريحة الناعمة، وخلافه. وعرفت- ولا أدرى كيف عرفت هذا أيضا – أن الشرط الوحيد للدعوة هو استعداد الضيوف للتعري التام، وفضح الذات، فابتسمت – في أوهامي – سخرية أو استهانة بالشروط، وقصدت السبيل.”

ولعلني كنت أشير، فيما كتبت، ولو من بعيد، إلى المولد الذى لا ينفض من حولنا أبدا، واكتشافي المفاجئ أننى واحد من المدعوين إلى وليمة…، وليمة تعبت فى تسميتها، فأحيانا هى الحياة وكفى، حاف بلا أية إضافات، وأحيانا أخرى كثيرة هى السؤال الذى لا يموت ولا يجاب عنه، وأحيانا هى الفن، بطبعية الحال، لكنها دائما وأبدا وليمة مفتوحة لمن يريد ويجرؤ، وكنت جريئا بكل تأكيد، وقتها على الأقل، وقت الدعوة الغامضة، كما كنت أيضا متفائلا للغاية، أكثر كثيرا مما أنا عليه الآن، أو هكذا يهيأ لي، عند قراءة تلك الصفحات القديمة.

( 2 )

كان أخي إبراهيم، الذي يكبرني بعامين تقريبا، هو أول من يلتحق بالجامعة فى الأسرة، وكم كان ذلك نصرا مظفرا. ابن العامل البسيط الذى لا يقرأ ولا يكتب يشق طريقه إلى الجامعة، هذا من نوع الأحداث التى نراها فقط على شاشة التليفزيون. دخل بمجموع لا بأس به فى الثانوية العامة إلى كلية العلوم – جامعة عين شمس، عامان والتحقت أنا بجامعة الأزهر، كلية اللغات والترجمة، ومقارنة بالسابقة الأولى لم يعد هذا شيئا متميزا على أى نحو، على الرغم من مجموعى 82 %، وعلى الرغم من فوزى بالرغبة الأولى التى لصقتها فى ملف تحديد الرغبات، كلية اللغات والترجمة – قسم الترجمة الفورية – لغة إنجليزية. كان أخى الأكبر ومازال نموذجا ومثالا من العبث بالنسبة لى أن أصبو لبلوغه أو التفوق عليه، هذا الإحساس كبر معى منذ طفولتنا، من النوع الذى يستيقظ لصلاة الفجر ويذاكر حتى فى أحلامه بصوت عال. وأنا منذ الثانوية الأزهرية كنت قد عرفت طريقى إلى التسكع والندوات وسهرات المقاهى وكل هذه الدراما المعروفة فى حياة من يميلون لربط حياتهم بهم الكتابة.

تعلمت تعليما أزهريا من المرحلة الابتدائية، ودخلت التعليم الدينى العريق بمحض المصادفة، حيث لم يجد والداى مدرسة عامة تقبلنى، لصغر سنى، خمس سنوات ونصف، عدا ذلك المعهد الأزهرى الذى شكر لهم فيه بعض أولاد الحلال، لأنه يُحفظ كتاب الله ،ويمنح التلاميذ جوائز مالية بين الحين والآخر، وقد كان.

(3)

كانت أفكارى عن الجامعة مشوشة، حتى ذلك الحين، أغلبها مستمد من التليفزيون وبعض الروايات، العاطفية غالبا، ولأننى كنت أعلم مسبقا أن جامعة الأزهر تفصل كليات البنين عن كليات البنات، فإن صورة الجامعة التى تظهر في أفلام من قبيل “خلى بالك من زوزو” بقيت حلما بعيد المنال. لم أكن مهتما كثيرا ساعتها بمسألة البنات، بنوع من تعالى الثعالب على كروم العنب، وإدعاؤهم مرارتها، قصر ذيل يعنى. على الرغم من كل هذا، فقد كانت لدى صورة أقرب إلى الواقعية، على عكس زميل المرحلة الثانوية البدين “سعد عجوة” الذى مر بي فى البيت، كما تعودنا أيام ثانوى، فى أول يوم من أيام الدراسة الجامعية، فى تمام الثامنة صباحا، لكى نلحق اليوم من أوله، لم يكن ينقص إلا أن يقول لي: “لنجلس فى أول تختة”. سخرت منه، لكننى ذهبت معه فى النهاية، بعد أن تغلب فضولى على رغبتى فى العودة للنوم الذى لم يكد يبدأ.

لم أشعر قط بالألفة مع جامعتي، جامعة الأزهر. لم أكون صداقات حقيقية، من النوع الذى قد يستمر بعد التخرج. وعندما أنبش فى ذكرياتي لا أجد لى معها إلا أقل القليل، وبشق الأنفس. بعد انتظامي فى جامعة الأزهر بعامين أو نحوهما، كنت قد ارتبطت بمجموعة من الطلاب الاشتراكيين بجامعة عين شمس، فصرت أتردد عليها أكثر مما أتردد على جامعتي. كان اغترابي بين الجامعتين مدوخا ومربكا، لكننى على الأقل فزت فى جامعة عين شمس بصداقات حقيقية، أولاد وبنات، وجمعتنا أفكار وأحداث ومغامرات، مظاهرات وتحزبات وتكتلات، وضرب مخدرات وتبادل للكتب وقصص حب هشة مثل غزل البنات، سرعان ما تذوب تحت نور الشمس أو تحت اللسان.

كنت أدخل جامعة عين شمس خلسة، من مكان محدد، ربوة عالية لا يحدها سور، تطل على ميدان العباسية، وتنزل بى فى منزلق حاد وخطر، فأجد نفسى بعد خطوات قليلة، فى قلب الحرم، فى قلب فيلم “الكرنك” هذه المرة.  

على عكس الجامعات الأخرى كانت جامعة الأزهر مثالا للجفاف والجفاء، لا تقع فيها العين على مساحات خضرة حقيقية، وكأنها كانت مجرد امتداد لمعسكرات الجيش وثكنات الشرطة المنتشرة فى مدينة نصر، صحراء جرداء يتناثر عليها الجنود المساكين أو الطلاب المساكين أيضا، ومن ناحية أخرى هناك القادة أو الأساتذة. لا تجمعات ولا أنشطة، إلا النذر اليسير التابع لإدارة الجامعة، وغالبا ما يتولاه طلاب الإخوان المسلمين، وكانوا على الدوام من كليات القمة، الطب والصيدلة والهندسة بفروعها. أذكر أننى رأيت معرضا ذات يوم، لطلاب الإخوان المسلمين، فانشرح صدرى، وقلت أتفاعل معهم، سألت أحد الطلاب الواقفين وراء اللوحات سؤالا لم أعد أذكره الآن، لكنه غالبا ما كان يدور حول سر تجنبهم للقضايا الطلابية، وعملهم المتواصل على قضايا خارجية مثل فلسطين أو العراق ما شابه، لم يجب على، وأظنه شعر بالحذر والتوجس منى، كان مسلحا بالأجوبة بقدر حسن ظنى، ولكن لعدم معرفته الشخصية بى، فلعله ظننى طالب أمن مدسوسا عليهم لأفسد المعرض أو أهز ثقة الطلاب بهم. كان الأساتذة، من جانبهم، يحبون هؤلاء الطلاب، ويلغون المحاضرات إذا تزامنت مع مسيرة مهمة، ولكن بعضهم وهو ما أسعدنى كثيرا كانت لديه أفكار ليبرالية، أو ربما ماض يساري وتاريخ فى سجون الأنظمة السابقة، وهؤلاء كان يشاع عنهم الجنون والإلحاد ويسخر منهم الطلاب وبقية هيئة الأساتذة.

(4)

ورأيتى أصل إلى المكان الذى حددته الدعوة، قبيل غروب الشمس بقليل، ورأيتنا جميعا هناك، بلا استثناء تقريبا؛ كل الاتجاهات والتيارات والأيديولوجيات والأديان والعقائد والمذاهب والمدارس، بألوانها وأطيافها ودرجاتها. وكأننا، من أجل خاطر مناسبة سارة مثل تلك الوليمة، وضعنا جانبا، ولو إلى حين، المسائل الخلافية المعلقة، منذ الأزل تقريبا، وتاريخا حافلا بالمعارك والسجالات والدماء. وجلسنا إلى موائد خالية إلا من أدوات المائدة اللامعة بنظافتها؛ صحاف فارغة وصحون خاوية وأقداح مقلوبة على أفواهها. رحنا بخجل نتبادل الابتسامات، ونحن نتخيل بعضنا البعض عرايا، بعد أن تصل الوليمة لذروتها. كانت ابتسامات أمل وتشوف، بينما بالصدور يرتعش برعم اللهفة ويشتد عوده بسرعة، مع دخول الظلام.”

(5)

تشاجر طلاب جامعة الأزهر من سكان المدينة الجامعية بمدينة نصر مع الأمن، أو بالأصح ثاروا ضد عناصره، لما منع بعضهم من الدخول إلى مبنى المدينة، بسبب تأخرهم عن الموعد المحدد، من أجل مشاهدة مباراة كرة قدم مهمة. قام أحد الضباط بضرب طالب دراسات عليا، وأهانه هو وزملاءه، وما هى إلا دقائق ونزل الطلاب من غرفهم، هائجين فى الأفنية، وضربوا رجال الأمن، الذين طالما تعاملوا معهم وكأن الطلاب مجموعة مواشي، بل وسرقوهم – عينى عينك – بالتعاون مع الإدارة … “

 

واضح أننى كنت أستعين فيما أكتبه – أعلاه – بأحاديث شفهية أجريتها مع بعض الطلاب، عرضا فى الجامعة، أثناء وبعد أحداث الوليمة. لم أكن من سكان المدينة الجامعية، ولا مغتربا أساسا، ولم أدخلها إلا مرة واحدة، خلسة مع بعض الزملاء بالقسم، لآخذ مذكرات وأصورها وأعيدها فى اليوم نفسه. وكل ما أتذكره، من تلك الزيارة، هو أجواء الثكنة العسكرية المخيمة على المكان، وعلى قاطنيه من الشباب، وكلامهم عن زيت الخروع الذى يضاف للطعام ليحبط من فورانهم الجنسى، الذى لا تخمده زيوت العالم كله.   تمنيت لو عشت، مثلهم، بعيدا عن أهلى، وسط آخرين كثيرين مثلى أو غيرى، وأن أذوب فى قلب الجماعة، وكنت أعرف أننى أكذب على نفسى، وأن آخر ما أتمناه هو أن أذوب فى قلب أى جماعة، سواء كانت جماعة طلاب اشتراكيين أم أخوان مسلمين أم مجرد مغتربين فقراء يعانون الأمرين فى المدينة.

فقام الطلبة بضرب الضابط إياه، بل وأحرقوا غرفته. المهم أن د. عمر هاشم رئيس الجامعة، وصل قرب الفجر، والدموع تترقرق بين عينيه، واعدا بتنفيذ مطالب الشباب التى رفعوهات لحضرته، ومطالبا إياهم بالهدوء، وذكرهم، لكي لا ينسوا، أنهم طلبة الأزهر، الجامع والجامعة، منبر المسلمين فى كل موضع على الأرض، وأنهم فى نهاية الأمر، أبناؤهم، إلى آخر هذا الكلام….”

مازلت آخذ الكلام من فم بعض الزملاء، وقتها.

كل ما سبق جرى قبل أحداث الوليمة بأيام قليلة.

(6)

ولكننى كنت قد كتبت أيضا:

فى عام 1963 رسم سلفادور دالى لوحة الخريف يأكل نفسه، مصورا أسبانيا الحرب الأهلية، كشخص أسمر وحيد، تعددت أطرافه وامتدت أيديه الأربع بالملاعق والشوك والسكاكين، يغرسها كلها فى لحمه هو نفسه، جالسا – فى أمان الله – ليلتهم نفسه، ومن خلفه تتسع الأرض المقفرة القاحلة والسماء ذات المغيب المكفهر لا نهاية لحدودها، شأن أغلب خلفيات دالى الموحشة فى شسوعها.”

امتدت يدى منذ قليل، بالتعديل والتنقيح إلى السطور القديمة، غرست الشوكة والسكين فى لحم صورتى القديمة، على الورق. لسعت أصابعى بزهرة السيجارة. لا بأس، كلمة هنا، وحرف جر هناك، لم تخرب الدنيا. لكن خط يدى فى الكتابة هو ما لفت انتباهى، بدا غريبا على، ولم أكن أعرف – وقتها – كيف تكون الكتابة بدون ورق وقلم، وأمام آلة غريبة وغامضة مثل الكمبيوتر، تنزع عن الفعل طابعه الحميم والقديم، ولم أتخيل أننى سأجد – بعد سنوات – فى الدق على أزرار لوحة المفاتيح حميمية أخرى وحمية متوقدة. فى أوراق تلك الفترة تحديدا لم يكن خطى جميلا للغاية، كما اعتدته خلال سنوات دراستى قبل الجامعية. حينما كانت أبلة من الأبلوات، فى المدرسة الابتدائية، تتوقف أمامه كثيرا وتقول لى بشغف غريب: “إنت مش بتكتب إنت بترسم”. فى أوراق أيام الوليمة، شاب خط يدى الجميل اضطراب ظاهر، كأننى أسرع بالكتابة قبل أن أنسى شيئا، أو ربما قبل أن أركض خارجا للعالم، فى موعد لا يمكن أن أضيعه، ربما إلى الوليمة المنعقدة ليل نهار، هناك مع الآخرين.

فيما بعد كتابتى ثم قراءتى للفقرة الخاصة بلوحة سلفادور دالى، بحثت عنها فعثرت عليها وأعدت تأملها، لاحظت أن الخريف، بخلاف ما كتبت منذ سنوات، من الذاكرة ودون الرجوع للوحة، ليس شخصا واحدا كما اعتقدت، بل هو أقرب إلى شخصين متصلين، باللحم، لحمهما، كأنهما توأم متصل من نوع خرافى، بلا ملامح متميزة لأى منهم، فالوجه مموه أو ربما مشوه، وللوهلة الأولى يبدو كل منهما وكأنه يحتضن أخيه، إلى أن يتبدد هذا الظن ما أن ننتبه للأيدى التى تدب أدوات تناول الأكل فى بدن الآخر: وليمة أخرى صغيرة. تذكرت وأنا أتأمل اللوحة أن الأبلة التى نسيت اسمها، لم تبتعد كثيرا عن الحقيقة، فكم وددت أن أرسم، وليس أن أكتب، لكن هذه قصة أخرى.

(7)

وعلى الرغم من كل شئ، كان هناك بعض أساتذة فى الكلية يحبوننى، ربما لأن بعضهم أدرك، سواء بقصد وسعى منى أم بفراسته وخبرته مع الطلاب، اختلافى وعكوفى على الكتابة، كنت قد أصدرت كتابا يتيما فى أوائل المرحلة الجامعية، وأتبعته، قرب الانتهاء منها برواية قصيرة وخفيفة، فى أضيق نطاق ممكن.

ومن هولاء الأساتذة واحد عجوز ودمه خفيف، نسيت اسمه بكل أسف كما نسيت العديد من أسماء هذه المرحلة. دخلت امتحانه الشفوى فى نهاية أحد الأعوام الدراسية، ولا تسعفنى الذاكرة إن كان الامتحان لمادة القراءة أم للترجمة الشفوية، المهم أنه كان يجلس إلى المكتب هو وزميل آخر له من هيئة التدريس، ويتسليان باللعب بالعيال الذين يدخلون عليهم، فيسأل أحدهم مثلا الممتحنين، وكنا ندخل أربعة أربعة، أو اثنين اثنين، حسب الظروف: لماذا يعطى أحدهم – ويشير إليه – انطباعا سخيفا بمجرد رؤيته، فينظر الطلاب الثلاثة الآخرون إلى صديقهم ويتبارون فى الفتك به، ويتضح فى النهاية أن الأمر كله أنه يرتدى تيشيرت مرسوم عليه علم أمريكا، ولعل الولد الريفى لم ينتبه لذلك بالمرة عندما اشترى التيشيرت أو استعاره ليذهب به للامتحان من أخ أو زميل معه فى المدينة.

أما فى ذلك اليوم الذى أتذكره الآن، بنوع من التباهى الخبيث والحنين المضحك، فإن الأستاذ لم يسألنى كما اعتاد أن يسأل الطلبة فى المادة التى دخلنا لنمتحنها، بل طلب منى أن أرتجل قطعة أدبية صغيرة، بما أنه كان يعرف ميولى، وقرأ لى شيئا بالفعل، وقلت لنفسى: جاءك الفرج يا ولد. وكان أسهل شئ بالنسبة لى أن أستلهم الموقف الذى أمامى مباشرة، فقلت ما معناه: لم ينعم بنوم حقيقى ليلتها، بسبب الحر والناموس وهواجس امتحان القراءة – ها أنا قد تذكرت المادة – فى صباح الغد… جملتان أخريان، وأوقفنى وطلب منى الانصراف وهو يبتسم لزميله الذى يشاركه امتحان الطلاب، ابتسامة غريبة ومقرفة، وكأنه أتاح له فرجة ما، نعم، لقد كنت للدقائق فرجة من نوع ما، كما كنت فى أحيان كثيرة أخرى، الكتكوت الفصيح، الطفل المعجزة، أو شيئا يستحق العرض فى سيرك ما، على سبيل الأعجوبة. بعدها فكرت، قلت لنفسى كان من الأشرف لى أن أطلب منه أن يمتحننى، حتى ولو سأنزل فى مادته خيرا لى من أن يعطينى التقدير لفصاحتى أو لميولى الأدبية أو – لنقلها بصراحة – لتسليته وسط أمواج الطلاب التى تتلاطم على مكتبه خلال ساعات الامتحان. فى نهاية الأمر رجعت لعقلى وتمنيت لو كانت الامتحانات كلها من هذا النوع، وخصوصا امتحانات المواد الدينية وحفظ القرآن الكريم.

كانت المواد الدينية تمثل لى عقبة حقيقية، خلال المرحلة الجامعية، على عكس المراحل السابقة التى اشتهرت فيها بتمكنى من الفقه والتوحيد، وطبعا النحو والصرف والعروض. وظللت أتساءل، بينى وبين نفسى أو على الآخرين من الطلاب عن جدوى وأهمية دراستنا لهذه المواد بينما نحن فى كلية غير دينية، كلية اللغات والترجمة، وعلينا أن نركز على اللغات التى نتعملها – أو يفترض بنا تعلمها – لكن المعضلة الكبرى، بالنسبة لى، لم تكن هى المواد الدينية بالمرة ولكن حفظ القرآن الكريم، الذى كان تراكميا فى المرحلة الجامعية، أى أننا نمتحن مقرر كل عام دراسى مع مقررات الأعوام السابقة عليه. ذهنى الذى كان رائقا ومتفتحتا ومستعدا للحفظ خلال المراحل الابتدائية والاعدادية والثانوية امتلأ خلال الجامعة بالكتب، الحمراء منها والصفراء، والروايات، عربية كانت أم مترجمة، والشعر تفعلية كان أم نثرا ، ولم يعد به مساحة خالية لحفظ القرآن، أو ربما أتوهم ذلك، وأن السبب الحقيقى هو عدم اقتناعى بأهمية الحفظ مثل الببغاوات، وهو موقف عصبى – متوتر – انفعالى أراه الآن أقرب إلى المراهقة الفكرية، على أية حال فذات ليلة بينما كنت أتأهب لواحد من امتحانات القرآن الكريم التحريرية لمقرر سنة جامعية سابقة، وأستعد بوجود مصحف صغير فى حقيبتى حتى أراجع منه قليلا قبل الدخول إلى اللجنة، اكتشفت أن مصحفى الصغير القديم صار متهالكا وتفككت صفحاته من بعضها البعض، وبينما أحاول إصلاحه وترميم صفحاته، لكى لا أضطر إلى أخذ المصحف الكبير الذى أحفظ منه فى البيت عادة، وسوس لى الشيطان بفكرة جهنمية فعلا، وهى أن آخذ معى، فى جيب القميص مثلا، صفحات السور التى لم أحفظها بعد، واعتبرت تمزق المصحف علامة مشجعة، واستسلمت – بإيمانى الضعيف وخوفى من أن أشيل المادة للسنة التالية – للغواية اللعينة، وفى اللجنة، وقبل حتى أن نتسلم ورقة الأسئلة، وضعت صفحات المصحف الممزقة تحت كراسة الإجابة، (بالطريقة)، دون أن ألفت نظر أحد. لم أستطع أن أغش منها، ولا أن أنجح فى هذا الامتحان، لأن المراقب اكتشف حيلتى الرخيصة، عندما أصر لسبب لم أعد أتذكره جيدا أن أغير مكانى، وأصررت على عدم القيام من مكانى، لأن صفحات المصحف الصغيرة كانت مفرودة ومتناثرة دون أى انتظام تحت كراسة الإجابة، وقد انتشرت هكذا نتيجة لمحاولاتى العثور على الجزء الذى جاء منه السؤال، وإذا بالمراقب بعد أن احتدم الجدل بيننا، يرفع كراسة الإجابة وتتناثر أوراق المصحف الصغير على الأرض، فأدرك أنا مدى خسة ودناءة فعلتى عندما ألمح أعين الطلاب والمراقب الذى راح يطقطق شفتيه اذدراء. أخذ منى الكارنيه ولم أنتظر لأرجوه العفو والسماح، بل لملمت صفحات مصحفى الجريح على الفور، وتركت له كل شئ، وغادرت بسرعة، ليس فقط لكبريائى الجريح وشعورى بالذنب، بل لأننى أيضا كنت قد سمعت أن محضر الغش لابد أن يوقع عليه الطالب بنفسه، حتى يصير محضرا وتتخذ الإجراءات المعتادة. بعدها التقيت بأحد طلاب تلك السنة الدراسية، وكان متعاطفا معى للغرابة، وأخبرنى بأن المراقب الطيب بحث عنى، بعد انتهاء الامتحان، ليعيد الكارنيه إلى، وأنه لم يرفع الأمر إلى أحد، واكتفى بضياع المادة على، ومغادرتى اللجنة مدحورا مذموما.

(8)

بعد أيام معدودة من أحداث المدينة الجامعية، وقد تم احتواؤها بالسياسة والمكر والوعود، خرجت جريدة الشعب لستكتمل بعض حساباتها مع أسماء بعينها فى الحكومة، أو ربما لم تكن تقصد أصلا سوى الفرقعة والإثارة، كأى صحيفة أخرى من ذلك النوع، فانطلقت الشرارة على الفور. عكف الخريف على التهام نفسه، وأكل لحمه الحي فى وليمته الصغيرة. كان الطلاب، لكى لا ننسى، قد تذوقوا لتوهم نبيذ العافية والاستطاعة، وأثبتوا أن زيت الخروع غير كاف للتثبيطهم. غير أنهم هذه المرة واجهوا ما هو أضخم من ضباط المدينة الجامعية، وأيضا – وربما لذلك تحديدا – لم يتقدم أحد هذه المرة لاحتواء غضبتهم، لا رئيس جامعة ولا وزير ولا خفير، ولعل أحدا لم يعتقد أن الشرارة ستتحول فى ثوان إلى حريق هائل كالذى حدث. وعلى الرغم من ذلك فقد تعاطف معهم الرأى العام، الرأى العام المؤمن، الرأى العام الذى بدا وكأنه بلا أى مشكلات أخرى تؤرقه إلا صدور رواية تمس الذات الإلهية والرسول عليه أفضل الصلاة والسلام.

وجد الأولاد أنفسهم محاصرين بجنود الأمن المركزى، بوجوههم السمراء فجة الملامح، غشم ولا يتفاهمون، أميون مئة فى المئة، ولا تزيد مطالبهم فى الحياة عن مطالب الإنسان البدائى. ولعل مرآهم أفلح للحظات فى تذكير بعض الطلاب بأخوة وأقارب لهم، يعانون الظروف نفسها، ولعل مرأى الطلاب أفلح للحظات كذلك فى تذكير الجنود بأخوة وأقارب لهم، نجحوا وفلحوا، مثل هؤلاء، وشقوا طريقهم إلى الجامعة. للحظات فقط، فسرعان ما بدأ الضرب والطحن وإطلاق الرصاص المطاطى. نحن الآن فى فيلم “البرئ” على الأرجح.

(9)

بعد يومين فقط من اندلاع شرارة الأحداث الأولى بين صفوف الطالبات تحديدا، وفى مدينتهن الجامعية هذه المرة، حين صادرت إدارتها مقال محمد عباس المنشور فى الشعب، والذى كان ما قدح زناد الغضب، وبعنوان: من يبايعنى على الموت، اعتقلت قوات الأمن الثلاثاء التاسع من مايو عام 2000 أكثر من مئة طالبا من الحرم الجامعى. وكان آلاف الطلبة قد تظاهروا مساء الأحد 7-5-2000 ثم نهار يوم الإثنين؛ احتجاجًا على إعادة طبع رواية الكاتب السوري حيدر حيدر “وليمة لأعشاب البحر“.

لا تقل لنا لماذا وكيف وما لا ندرى، فلم يتبق لنا إلا الإيمان. لا طعام ولا ثياب ولا صحة ولا تعليم. فقط الإيمان،أهذا كثير علينا؟ مرفأ أخير لنا، لؤلؤة صلبة ستبقى تقاوم الزوال والانهيار، مادامت دماؤنا تمور فى أوردتنا“.

الكلام السابق لم آخذه من فم أحد، لم ينطق به لى أحدهم أصلا، تخيلتهم يقولونه. “نحن لم نقرأ شيئا يا عم، ولا نريد أن نقرأ حتى، نحن لدينا الكتاب الجامع لكل حكمة وكل تشريع وكل قصص. لكن الأمر مؤكد، وليس فيه أى مبالغة أو تدليس أو معارك سياسية ووجع الدماغ هذا كله. الفقرات التى استشهدت بها الجريدة تعيب فى الذات الإلهية وفى الرسول، صلى الله عليه وسلم، ماذا تريد أكثر من هذا؟ أننتظر حتى يهدموا الجوامع على من فيها لكراهيتهم للإسلام والمسلمين؟ والكل مسئول، من كتبها، ومن سمح بإعادة طبعها، ومن يرأسه، ومن يرأس من يرأسه، حتى أكبر رأس فيك يا مصر. إنها بلد الأزهر، يجب ألا ينسوا هذا. تركنا التفكير والتحليل والتعقل لك ولأمثالك ممن ماتت نخوتهم وتغربوا واغتربوا، فلتتركوا لنا حق الغضب“.

ويُذكر أن نحو 50 طالبًا أصيبوا خلال المواجهات مع الشرطة، بعضهم بالرصاص المطاطي – حسبما ذكر مسئول في قسم الطوارئ بالمستشفى الذي نقلوا إليه – حيث لا يزال نحو 10 منهم تحت العلاج، كما أصيب 3 من رجال الشرطة؛ نتيجة رشقهم بالحجارة، في حين أشارت بعض المصادر إلى احتمال وجود حالة وفاة لإحدى الطالبات).

ومن مصادر أخرى عديدة:

(فى الثامنة من مساء اليوم الأحد يعقد المؤسسون لتجمع المثقفين المستقلين اجتماعا ثانيا، فى آتيليه القاهرة، لمزيد من التشاور حول شكل وأهداق ووسائل عمل التجمع المقترح، وكان الاجتماع الأول قد عقد فى مقهى ريش، مساء الجمعة 23 أبريل 2000، وقد عكس الحضور الكبير إحساسا عاما بضرورة فعل شئ ما، ولكن أحدا لا يعرف ما هو). (وفى مؤتمر غضبة شعب مصر، ضد سب الله والرسول والقرآن، هاجم محمد عمارة الجميع أو من أسماهم بأصحاب فكر الغرائز من أول طه حسين وحتى نصر أبو زيد…. تأخرت الندوة إلى ما بعد صلاة المغرب، ليتمكن المتحدثون من عمل مقابلات مع مذيعة البي بي سي). (وورد فى بيان مجمع البحوث الإسلامية حول رواية وليمة لأعشاب البحر أن الرواية لم تكتف بذلك [ أى الخروج عن الآداب العامة وإهانة المقدسات] بل حرضن صراحة على إهانة جميع الحكام العرب، ووصفتهم بأقبح الأوصاف، مما يعف المقام عن ذكرها، وطالبت بالخروج عليهم والثورة ولو بإراقة الدماء). (وهكذا جاء د. أحمد عمر هاشم، رئيس جامعة الأزهر إلى الطلبة الغاضبين، وأكد لهم كلام صحيفة الشعب ثم طالبهم بالعودة فى هدوء إلى حجراتهم، لكن أساتذتهم فيما بعد ألغوا الامتحانات وطلبوا منهم الاستمرار فى ثورتهم المقدسة ضد الردة والكفر العلنى…” (وهكذا تحولت رواية كتبها السورى حيدر حيدر قبل عشرين عاما عن الاعتقالات والتعذيب فى العراق إلى مادة للصراع السياسى فى مصر…)

قصاصات صحف وعلامات بالأقلام الفسفورية الملونة على بعض السطور هنا وهناك، فماذا كنت أبغى من وراء كل ذلك حقا؟ وقتها، لم أكن أعرف تحديدا ماذا سأجنى بتسجيل وقصقصة تلك الملاحظات والأخبار والتحقيقات. لعلها محاولة لتثبيت لحظة شعرت فيها بقدر كبير من الارتباك والخطورة، أو ربما تحسبا للظروف ودراء للنسيان – صديقى القديم، أو حتى تجميعا لمواد بعض الوقائع التى صد تصلح ذات يوم آت فى توشية نص أكتبه عن همومى الذاتية الخاصة ببعض الهموم الجماعية العامة، كما جرت العادة فى القصص والروايات، ومثلما تلوح لى خلفيات دالى المرعبة، فى أفق يشي بالضياع والتيه.

(10)

طال انتظارنا، تحت سماء فسيحة الظلام ومبرقشة بنجوم متفاوتة القوة، للوليمة التى وعدنا بها. لم يأت أحد، ولم يخدم موائدنا إنسان، ولم يسأل عنا مخلوق حي. انشغلنا لبعض الوقت بالتعارف الحذر، وتناقشنا فى أمور عامة، تبدلنا الآراء المتريثة والانبطاعات الحذرة، دون تورط فى مواضيع شائكة. يعجب واحد هنا بوجه واحدة هناك، ويتقرب أحدهم من آخر، فى المعسكر المعادي، وهكذا مضى الوقت، واقترب الليل من منتصفه، دون شراب أو طعام أو حتى أطباق مقبلات صغيرة تعيننا على الصبر. أكلنا الجوع، وتلاعبت بنا هواجس شريرة، ونحن فى الانتظار، وقد توقفنا عن الابتسام وإثارة الثرثرات. لا نبيذ ولا موسيقى ولا شواء، ولا طيف شاحب للبهجة. وقعنا فى الفخ وكان ما كان، نتبادل النظرات الخرساء مثل أسرى، لا يجمع بينهم سوى قيد واحد كبير. وبين حين وآخر، يمسك أحدنا بسكين أو بشوكة، دون أن يدرى ماذا يفعل بها“.

 

وهذه قصاصة حديثة نسبيا: ” تظاهر طلاب جامعة الأزهر الأسبوع الماضي احتفالا بيوم الطالب الأزهري. اختار الأزهريون ذكري الانتفاضة ضد رواية “وليمة لأعشاب البحر” يوما سنويا باعتباره يومهم. ارتدي الطلاب الزى الأزهري وعبروا عن تمسكهم برسالة الدفاع عن الأمة ومقدساتها“.

عجيب. لا يتبقى من حياتى إلا يومياتى القديمة، أولا تتبقى من حياتى القديمة إلا يومياتى وقصاصاتى وأوراقى. الأعجب من هذا أن تتشكل – مع الوقت – ذكرياتى، ويعاد تشكيلها تدريجيا، ومرة بعد مرات، وفقا لما حرصت على تدوينه فى تلك الصفحات الصغيرة المسطرة. أدركت فيما بعد مدى خطورة ما نختار أن نبقى عليه بالتدوين والتقييد والكتابة. هنا لا تعود الكلمة – أى كلمة – حبر على ورق، هذا ما علمنى إياه تعليمى الأزهرى الذى مازلت إلى اليوم أعتز وأفخر به حقا وصدقا رغم كل شئ. هنا تصبح الكلمة هى كل ما بأيدينا، بدونها نضيع ونتلاتشى، تصير البرهان الوحيد على مرورنا من هنا، الذى يصير فى لمح البصر، هناااااااك.

لم نعد تستطع مقاومة الجوع أكثر من هذا، والفجر يزحف بجيوش ضوئه الفاضحة فوقنا. ومتأخرا للغاية، اكتشفنا أنه لا رجاء فى الرجوع إلى حيث أتينا. لقد خدعنا، جميعا، وانتهى الأمر، ولابد أن نواصل البقاء، بأى ثمن وبأى طريقة. ولهذا كله، كان لابد أن تبدأ الوليمة، على كل حال. لابد أن نجد ما نغرس فيه تلك السكاكين…”

ـــــــــــــــــــــــ

[شهادة نشرت في مجلة أمكنة العدد الكتاب العاشر سبتمبر 2010]

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم