وكان له حرف

بي دي إف| موقع الكتابة ينشر الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر العراقي أديب كمال الدين
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

أديب كمال الدين

* حرف على قيد الحياة

منذُ أن افترقنا

اندلعتْ أكثرُ من حربٍ

واجتاحتنا أكثرُ من زلزلةٍ وكارثة.

ومطرت السّماءُ علينا أكثرَ مِن مَرّة:

مطراً أسْوَد،

مطراً أحْمَر،

مطراً مليئاً بالشظايا.

منذُ أن افترقنا

أكلنا أكثرَ من نوعٍ من الأرغفة:

الرّغيف الملآن بالرّعب،

الرّغيف الملآن بالرملِ والحصى،

الرّغيف الملآن بالجوع.

ونُفينا أكثرَ من مَرّة:

إلى أرضِ الواق واق،

إلى أرضِ المجانين والحشّاشين والسُّكارى،

إلى أرضِ البِيضِ والسُّودِ والحُمْرِ والصُّفْر.

لا يهمّ.

المهمّ أنّني لم أزلْ أتصوّركِ على قيدِ الحياة

معَ أنّني متأكّد أنّكِ قد فارقت الحياة

في حربٍ من تلكِ الحروب

أو في مطرٍ من تلكِ الأمطار

أو في رغيفٍ من تلكِ الأرغفة

أو في منفى من تلكِ المنافي السّعيدة.

 

* حرف الحلم

في حلمي العجيب،

رأيتُ نقطتي سمكةً

وحرفي قمراً.

لم أصدّقْ بالطبع

فلستُ محظوظاً بما يكفي

لحلمٍ سعيدٍ كهذا.

ثُمَّ رأيتُ نقطتي مَلِكةً

وحرفي مَلِكاً على العرش.

فلم أصدّقْ أيضاً

إذ لم أكنْ أسطوريّاً بما يكفي

لحلمِ الملوكِ والذّهب.

لكنّي البارحة

رأيتُ نقطتي رصاصةً

وحرفي قنّاصاً.

فاستيقظتُ مرعوباً من النّوم

لأجدَ جسدي وقد غطّاهُ الدّم

من السُّرةِ حتّى العنق.

 

* حرف حياتي

كلّما تساقطتْ قطراتُ حياتي

مثل قطرات الماءِ ما بين أصابعي

شغلتُ نَفْسي بكتابةِ قصيدةٍ جديدة.

*

هكذا صارتْ قصيدتي قطرةً للنسيان

وقطرةً للهذيان.

معَ أنَّ الهذيان هو نسيان مُركّز

أو نسيان عُلّبَ ونُزِعتْ منهُ نواتُهُ وقشرتُه.

*

يا لها من حياة

تتساقطُ مثل قطرات المطرِ المُنهمرة

من غيمةٍ حامضيّة

لا يعرفُها إلّا أولئكَ الذين ضيّعوا شبابَهم الغضّ

في ملاجئ الحروبِ العبثيّة.

*

يا لها من حياة

تشبهُ قصيدةً دونَ عنوان

ودونَ كلمات على الإطلاق

لكنّ لها نهاية مُدوّية

يصفّقُ لها بحماسٍ

جمهورٌ جُمِعَ على عجلٍ

وحُشِرَ على عجلٍ

في قاعةٍ ضيّقة.

*

حياتي الآن عاصفةٌ حروفيّة

حرفُها الضحكُ الأسْوَد

ونقطتُها البكاءُ الأبْيَض.

*

حياتي تضيعُ كلّ يوم

بل كلّ ساعة

وأنا مُنشَغِلٌ عنها

بكتابةِ قصيدةٍ جديدة!

 

* حرف ثقب الأبرة

في ثقبِ الأبرة

وُلِدتُ، وعشتُ، وتغرّبت،

وكتبتُ قصائدَ لا تُحصى

عن الحُبِّ والحرمان

وعن الموتِ والهذيان.

هكذا خلقتُ حروفي حرفاً حرفاً

فأعطيتُ لكلِّ حرفٍ كوناً

ولكلِّ نقطةٍ نجمة.

في ثقبِ الأبرة

وُلِدتُ، وبكيتُ، وصلّيت،

وعشقتُ، وتَطَلْسَمْتُ، وتهت.

في ثقبِ الأبرةِ عشتُ حتّى……. مُتّ.

 

* حرف الطّين

اخترتُ حرفاً أحمر.

وبسرعةِ البرقِ تخلّيتُ عنه.

قيلَ لي:

لو أبقيتَ عليه لطيّرتكَ العاصفة.

ثُمَّ اخترتُ حرفاً أزرق

وتخلّيتُ عنهُ لكنْ ببطء.

قيلَ لي:

لو أبقيتَ عليه لاحترقتَ حدّ الجنون.

ثُمَّ اخترتُ حرفاً أسْوَد

وتخلّيتُ عنهُ أيضاً

شيئاً فشيئاً.

قيلَ لي:

لو لم تتخلّ عنه

لتحوّلتَ إلى نقطةٍ تقفزُ من موتٍ لموت.

ولذا اخترتُ حرفاً

لا أستطيعُ أن أذكرَ لونَه أو أسمّيه،

حرفاً أخرجهُ من قلبي

كلّ ليلةٍ سِرّاً وسطَ الظلام،

وأضعهُ أمامي وأبكي

بدموعٍ سُودٍ وزرقٍ وحُمر،

وأحياناً بدموعٍ من طين.

 

* حرف الحافّة

كُتِبَ عليكَ أن تمشي على الحافّة:

حافّة النّهر

أو الوادي

أو البركان.

ولنْ يُسْمحَ لكَ أبداً أن تمشي في الشّارع.

(الشّارعٌ مُلْكٌ للمُهرّجين والطّبّالين والأدعياء!)

إذنْ، تعلّمْ ألّا تغرق

إذا انزلقتْ بكَ حافّةُ النّهر.

أعرفُ أنّكَ لم تتعلمْ فنَّ العوم.

تمسَّك، إذن، بشجرةٍ أو بعشبةٍ أو بقشّة.

وتعلّمْ ألّا تسقط

إذا انزلقتْ بكَ حافّةُ الوادي.

أعرفُ أنّكَ لا تستطيع الطّيران.

تمسَّكْ، إذن، بصرخةٍ أو بحرفٍ أو بدمعة.

وتعلّمْ ألّا تحترق

إذا انزلقتْ بكَ حافّةُ البركان.

أعرفُ أنّكَ لا تستطيع أيّ شيء.

تمسَّكْ، إذن، بصخرةٍ أو بجمرةٍ

أو بأصابع عزرائيل.

 

* حرف الطّفولة

بعدَ أن مشى ألف عام،

فرحَ الحروفيُّ إذ وجدَ سرَّه مكتوباً على صخرة،

سرّه الذي يقول:

افرحْ يا مَن كنتَ وهماً فصرتَ طائراً

افرحْ فعمرُكَ اليوم يوم واحد.

*

جاءَ شابٌ يافعٌ وقال:

أريدُ أن أكتبَ الشِّعر

فَعلّمْني عشرةَ حروف

أكتب بها قصيدتي الكبرى.

فقلتُ له:

النّهر،

العيد،

الدّمعة،

القُبْلَة،

النّون،

السّين

السّكين،

النّقطة،

المنفى،

الموت.

*

بعدَ أن ضاعَ سبعين دهراً

وهو يعبرُ ليلَ نهار سبعةَ أبحر،

اتصلوا بهِ مِن هناك

قالوا: وجدنا طفولتَكَ الحافيةَ في السّوق

أسرعْ واشترِ لها حذاء جديداً

وإلّا ستبقى حافيةً حتّى الموت.

*

كانت الصّحفيّةُ الشّابةُ تسألُني

عن أثَرِ المكانِ في شِعْري.

فارتبكتُ

لأنّني لا أعرفُ لنَفْسي مكاناً

ولا أعرفُ لنَفْسي أثَراً

ولا أعرفُ أنّي لا أعرف!

 

* حرف السّنّارة

في براءةِ سنيني

اصطادتْ سنّارةُ الدّهرِ قلبي

ثُمَّ جئتِ أنتِ لتكملي مشهدَ الاصطياد.

هكذا صرتُ مثل سمكة

دخلتْ في فمِها المفتوح

سنّارتان.

*

هل كنتُ محظوظاً بهذي الفجيعة،

بكلِّ هذا الخسران؟

ربّما.

فذاكرةُ الموتِ توجعُ نبضَ الحروف

وتجعلُها تنزفُ ليلَ نهار.

ربّما.

فأنا لا أتوقّفُ عن إلقاءِ جُثّتي المُتعبة

في كلّ وادٍ أراه.

 

* حرف الشِّعر

شكراً أيّها الشِّعر

فأنتَ الوحيدُ الذي ينقذُني

حينَ أُصابُ بالاختناقِ العظيم

فأسارعُ لأتناولكَ: أكتبكَ على شكلِ قصيدة

أو مقطعٍ أو ومضةٍ خاطفة.

شكراً أيّها الشِّعر،

شكراً جزيلاً،

رغمَ أنّ الطّبيب

قد أوصاني أن أتناولكَ بحذرٍ شديد

خوفاً من أعراضِكَ الجانبيّةِ المُرعبة!

 

* حرف دَلْو السّعد

أردتُ لحرفي أن يكون

مثل ريش الببغاء الأخضر الأحمر

لكنَّ اللهَ أرادَ لحرفي أن يكون

لي ولأيامي السُّود

مثل دَلْو السّعدِ التي تدلّتْ في البئر

لتنقذَ يوسف من محنته الكبرى.

مقالات من نفس القسم