وكأن العالم داخل مقلاة

المشّاء
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

كنت أرفض دائماً الذهاب مع أبي إلى منزل عمتي في حلوان، لأنني لاأحب زوجها الذي يرفض أن يتوقف عن الإنجاب رغم تقدمه في العمر لأسباب دينية. كفتاة في الرابعة عشر أجرب مشاعري في رفض الآخر، كان أبي يحاول استمالتي بأنني سأرى عمرو هذه المرة بالتأكيد.

عمرو ابن عمتي والذي رافقني في المدرسة الابتدائية المشتركة في نفس الفصل، ثم فرقتنا المرحلة الإعدادية ولكننا ظللنا أصدقاء نتبادل الروايات والأحلام.،الوحيد الذي يرفض فكر الأب الدخيل على العائلة، بمجرد أن تبادلنا السلامات والقبلات ورغم وجود غالبية أفراد البيت المزدحم سألت: “أين  عمرو؟” فردت عمتي بابتسامة رقيقة: “مع ذكري”.

تعجبت من هذا الاسم الغريب فأصدقاء عمرو الذين أعرفهم جيداً هشام وأحمد ونادر، فسألت: “ذكري مين؟”. فرد الأب المتجهم: “ده عيل صايع أكبر من عمرو بكتير”. ثم وجه حديثه الى أبي قائلاً: “وهيبوظ الواد. طول الليل واقفين على الناصية ولا عارف بيرغوا في إيه؟”.

جاء عمرو متأخراً ونحن نستعد للرحيل، فبادرته: “مين ذكري بقى اللي سايبنا عشانه؟” فأجاب: “صديقي مصطفى ذكري.. ده عظيم لازم أعرفك عليه”.

لم يعرفني عمرو على مصطفى ولكنني عرفته، كما تغير عمرو واستقل وذهب الى ضفة أخرى لا يقف عليها أي من إخوته المحشورين في زورق الأب.

بعد سنوات عديدة كنت أصعد السلالم إلى حسني سليمان في توجس لأرى لماذا لم يرد عليّ بخصوص ديواني الأول، فتح لي ذكري الباب ونظر إليّ صامتاً،  فخرج حسن حماد من الغرفة المجاورة وقام بمهمة تقديم الأسماء للتعارف، حيث امتلأت غرفة الناشر بالزائرين فانتظرنا بالخارج قليلاً، ثم قال بمجرد معرفة اسمي إن “حسني كان يتحدث الآن بخصوص ديوانك”، وبدأ منذ هذا الوقت حوارنا، وعلمت في أي شئ أهدر عمرو وقته على هذه الناصية الثرية.

صرنا أصدقاء، فقد أخذت صداقة عمرو القديمة مع مصطفى وأخذت كتابه من شرقيات، ولم أخبره عن عمرو كصديق مشترك، لأنني لا أأمن ردود أفعاله غير المتوقعة والتي سمعت عنها كثيراً، وفي سهرة رأس السنة التالية في بيت أحد الأصدقاء، علمنا بصدفة عيد ميلادنا الغامض والمشترك، فقال: إذن نحن أقرباء من حلوان وقسم الفلسفة وكمان تاريخ الميلاد، أردت أن أضيف “وعمرو” ثم التزمت الصمت، كأشياء صغيرة أحب أن أخفيها عن الآخرين، مثل قطعة بازل ناقصة.

فقط تحسس جيوبك، قبل أن تبدأ في طلب رقم مصطفى، سيصيبه الضجر إن لم يكن معك شيء طريف وطازج أو حميم وصادق، سيغلق الباب في وجهك غير آسف، لأنك لم تقدر قيمة الدقائق التي وهبها لك من عمره الثمين.

ذكري كاتب السيناريو لديه سيناريو متوقع لكل الأحداث. كنا نتحدث في الهاتف حين أخبرته أنني ذاهبة للقاء  صديقي الشاعرالمعروف، فوجدته يقول بتلقائية: “لا تذهبي!”، وحين تعجبت من هذه النصيحة  الغريبة، قال: “انت حرة.. هيجيبلك وردة حمراء وهتكون فضيحة في الهناجر”، ضحكت طويلاً وأنا أراهنه على سوء ظنه، فهو إنسان ناضج وصديق عزيز وشاعر متميز.

في الهناجر كنت أبحث عن مائدة الشاعر وقد نسيت أمر الوردة النابتة في خيال ذكري، وما أن قام الشاعر ليصافحني حتى ظهرت وردة حمراء كبيرة في يده الأخرى يقدمها لي في محبة مرتبكة، قلت بصوت مسموع: “الله يخرب بيتك يا ذكري”، وحينما تعجب الشاعر متسائلاً أجبته: لأننا كنا نتحدث في الهاتف قبل نزولي وهذا سبب تأخيري آسفة جداً.

حاولت طوال اللقاء أن أخبئ الوردة عن أصدقاء زوجي الذين يملؤون المكان، فغضب الشاعر من قسوتي كشاعرة في معاملة الوردة الرقيقة، ولماذا أبدو قاسية تماماً عكس أشعاري المرهفة.

في طريق العودة أخبرت ذكري فضحك في ثقة وقال: “سيسب زوجك في القصيدة القادمة لأنه أحق بك منه، وتسلمت إيميلا بعد يومين بالقصيدة المنتظرة، ولم أخبر ذكري.

بمرور الوقت تعلمت الكسل الجميل وصرت أفرح فرحاً حقيقياً وأنا ألغي موعداً، فالذهاب للقاءات التليفزيونية هو رمز للتخلف ومقابلة أنصاف الموهوبين هو أمر مثير للشفقة، والاعتذار عن الأمسيات والندوات واجب مقدس، والانشغال بتطريز خيمة العزلة هي الرياضة اليومية، أما التسلية الوحيدة فهي مشاهدة فيلم لتارانتينو، برجمان أو تاركوفسكي، لست أنا فقط من يتأثر بذكري بل أنا وعمرو.

 وحين ضبطت نفسي أغلق هاتفي طوال اليوم منعاً لاستقبال المكالمات وقبل أن  يتمكن مني مباشرة مرض السوشيال فوبيا الذي أقاومه منذ طفولتي، أعلنت انقلابي على مصطفى وصرت أقرأ كتب أصدقائي كتدريب يومي على العودة لحياتي القديمة، لا أريد أن  يضيع عمري في البحث عن الزمن الضائع ولن أحلم ببورخيس  كل يوم، كما أنني أحب أن أذهب أحياناً للقاء الأصدقاء حتى لو سيحملون وروداً، وسأتعلم ألا أخجل من الورد وسأبتسم للقصائد التي تكتب بسذاجة، وسأستمر في كتابة السيناريوهات التي  لا يتحقق منها شيء، الحياة الفارغة مهدئ خفيف أبتلعه من حين لآخر، لكنني لم أخبره عن الصفعات التي تلقيتها من الكتب التافهة، ولا كدمات  التناقض التي زادت حدته بين الليبراليين الجدد،

وفي جلسة غير مرتب لها، وبعد أن يعيد إلى مكتبتي  كتاباً صغيراً عن هيدجر،  تصفحه سريعاً ثم أخبرنا بما ينوي فعله في الحادية عشر مساء، لقد قررأن يعلمنا  فلسفة “الاسكالوب”، فيعطي منتصر القفاش بصلة صغيرة ليقشرها، ويرفض منتصر بدوره هذا الدور الهزيل، ويستبدله بصنع السلاطة كاملة، بينما يقف ذكري في المطبخ بتركيز شديد، وكأن الطعام سينضج في رأسه .. وكأن العالم داخل المقلاة.

جيها

مقالات من نفس القسم