وقوف متكرر

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

علاء الجابري *

الرغبة الجنسية إذعان الحياة حتى الموت

(جورج باتاى)

كل هذه التغيرات المتسارعة التي تصيب الرواية على مستوى الشكل والتقنية واللغة والموضوع تجعلها أكثر الأجناس تماشيا مع المعدل اللاهث للتغيرات المجتمعية الحادثة,

فنجد -منذ فترة- نوعا من الكتابة الجديدة, تطرح جانبًا محاولات الترميز, أو الوقوف تحت لافتات ضخمة, لتتواضع أحلام مبدعيها حتى تصل إلى تقليد الواقعية ذاتها, مقتربين من معنى الحكي العادي للأمور الحياتية البسيطة, والوصول لكتابة جديدة, تطرح رؤية (ما بعد واقعية) صوب الأمور البسيطة, أو اليومية, أو الإنسانية، بالمعنى البسيط للكلمة.

الرواية الجديدة في هذا المعنى, تتوازى مع قصيدة النثر, ليس فحسب من جهة بساطة البناء, ومقاربة المسائل الأكثر بساطة, ولكن من جهة المباشرة وتجنب الخيال، والبحث عن الجمالي داخل المباشر، وإن تطرقت إلى الوقاحة, وتشعير القذارة.

إن المنحى الجديد الذي تتبعه رواية محمد صلاح العزب ((وقوف متكرر)) يقترب من أمور كثيرة في بساطة ومباشرة فنية, برغم ما يبدو في الوصف من تناقض. تدور الرواية حول شاب يهجر مسكن أهله, ويسكن -رغم معارضتهم- بمفرده في غرفة بسيطة, ليوفر مكانا لغرائزه الجنسية, وبعد البحث يعثر -مع ((منعم)) صديقه- على حجرة, وينجح في تسريب امرأة لهذه الحجرة, وتضبطه خطيبته ((هند)) التي جاءت تبلغه بتعب شديد يعتري والده, والذي يتوفى بعد نقله للمستشفى, وبالطبع تدخل -تبعا للكتابة الجديدة- حكايات فرعية كثيرة، مثل قصة الرحيل من “شبرا” إلى “مدينة السلام”، أو مشهد ممارسة الجنس في السيارة، أو محاولة استثمار مال حرام في مكتب للألعاب.

وهي القضية الأكثر بروزا في الرواية الجديدة, من حيث تجميع عدد من القصص الكثيرة المتلاحقة لتصل إلى ما يسمى ((novella أو الرواية القصيرة التي تعتمد على القصص القصيرة المتتابعة الحلقات, فتبدو الرواية حلقات مسلسلة متصلة المشاهد والأحداث الفرعية المتوالية, دون أن يعني ذلك خروج أحدها عن الإطار الكلي العام, وهو ما يبدو من استقراء عناوين الفصول التي تعتمد على تفعيل المكان مرة: “مدينة نصر”، “مدينة السلام”، والبحث عن الجنس مرة أخرى: “فيات 128″، “GAME OVER” .

تقوم الرواية على آلية سردية تحكم توليد الأحداث, حيث تعتمد على استيلاد حكاية كل مقطع من خلال عرض وفرة من الشذرات، ثم انتقاء إحداها, واستخراج السرد منها, ليُكوِّن موقف واحد بؤرة السرد, وهو ما يبدو منذ البداية, ومواقف عديدة منها: “لا تذكر من أيام شبرا الخيمة سوى القطار, والمؤسسة, وصوت مصانع النسيج في مرورك اليومي إلى المدرسة, والبنت منى أحمد التي ظلت تحبها حتى نهاية الخامس الابتدائي… تتذكر أيضا سعيد مغرفة, كان يسكن في الشرقاوية على الجانب الآخر من الطريق السريع…” ص13.

إن اهتمام السرد يتركز على لقطة واحدة من المسار الدائري لحركة الكاميرا, وهذا المسار الدائري يجعل كثيرا من الشخوص تدخل الرواية وتخرج منها دون أن تترك أثرا يذكر مثل “محمد الهندي, سعيد مغرفة, وأمه, سيد الميكانيكي, ياسمين وراندا, أم وهبة الجارة, والسمسار… وغيرها”؛ ليظل البطل محور الرواية بامتياز, ولتظل ذاته أساس اهتمامه, حتى إن هجر صاحبه الوحيد لا يسبب له تنغيصًا يذكر, ولا يحاول استرضاءه, أو العودة إليه.

تبدو ذاتية البطل في الرواية متوازية مع اهتمامه بالجسد, دون سواه, أو على الأحرى اختراقه لتابو الجنس الذي يدفعه صوب هجر المنزل, بحثا عن الذات التي لا يكتمل تحقيقها لديه سوى بفعل الجنس, فيهجر المنزل بحثا عن الجنس “في الوقت الذي لم تكن لديك صديقة واحدة توافق حتى على الخروج معك إلى حديقة الحيوان”. ص48.

يعد التابو الجنسي واحدا من أبرز مجالات التحريم على المستوى الاجتماعي على الرغم من كون الجنس واحدا من أبرز الشواغل الشخصية لدينا, حتى يحضر الجنس بشدة في النكت والألغاز الحديث العادي, ونظل نتفرج ونمصمص الشفاه وحين يخترق أحد هذا المجال, أو حين يعلن ذلك على وجه أدق, ونحن في ذلك نشبه المتفرجين في السرح, والذين يجلسون ماتصقين بعدما برر العرف الاجتماعي ذلك, ولكن اقتراب ممثل من آخر بشكل حميمي يحبسهم يتوقعون حدثا جللا, ولكن الجنس الآن معرفة وضرب, بعيدا عن الشهوانية.

المعرفة الشهوانية تنأي بالجسد عن اعتباره آدءة انتهاك, والطقوس التي تضيفها الرواية على فعل الجنس تصل به إلى المستوى العقلي, بعيدا عن الغريزة الساذجة, لترادف بين الشعور والوح, فالمرأة الآن حلم يصعب تحقيقه في ظل العرف الاجتماعي (الزواج) لسباب مادية وأخرى مجتمعية, فهل أفلحت الرواية في طرح جديد لجنس أم قصرت عن استكمال الدرب إلى نهايته أم شدتها مواضعات فنية ومجتمعية, فخافت من سوابق الإجهاز على محاولات التجريب فأجمحت عن استكمال المشوار, على معنى أن نسأل هل ظلت مأسورة في تراكمات ثقافة, أو موروث ينأى بالجنس عن نظرة الرواية المفارقة للربط بين الجنس والبحث عن الذات على الرغم من بداهة اقتران الذبول والموت بالإعراض عن الجنس برمته.

إن الرواية تريد الإلماح إلى اقتران الغريزة والمعرفة, وكأن حياتنا لا تقوام لها بدون ذلك الخيط المشدود بين طرفين أصيلين هما الجسد والروح, إذ بها يكتمل الوجود الإنساني في أبهى صورة, ولعل امتعاد الشاب, بطل الرواية, عن حقيقة الجنس من خلال الاستمناء مردود لكونه فعلا يقوم على الخيال الأحادي, بعكس مفهوم الجنس الحالي الذي هو أخذ ورد, فضلا عن تقديم المرأة تمارس الجنس برغم براعة زوجها فيه (( الحاجة الوحيدة اللي فالح فيه… بس أنا بحب نقلع هدومنا كلها وهو مش بيرضى وكمان أنا بكرهه ص63)) لتطرح ثورة لا تحرر فيه المرأة جسدها وحده من هذا القهر الوحشي, بل تحرر فيه جسدا الرجل أيضا تحر الجسد بمعناه المطلق, فليس الإنسان, رجلا كان أو امراة إلا هذا الجسد الحي, هذا الجسد المقموع.

يحضر الجنس, بوصفه مظهرا للمعرفة, في ثنايا الرواية, حتى في أشد لحظات مأساوية, حين يموت الأب نجد اهتمام البطل بعض الصراع بين أمه وأم رضا, فيرصد ((عانتها الكثيفة من حافتي الكيلوت الأبيض..)) وقد تنحو صوب العلاقة مع الجنس الآخر كلية, ففي أشد لحظات الأزمة نجده يفكر في الممرضة.. ((تخرج الممرضة الجميلة التي قلت في نفسك أنك سترجع بعد خرج أبيك وتتعرف عليها ص73)) وهي التي تحضر حتى أثناء العزاء ((.. فكانت أنفاسها دافئة في إذنك, تحاول صرف الصورة وتلوم نفسك لكنك تعرف أنك بعد أن يهدأ الموضوع ستجد أي حجة لتذهب إليها ص79)).

إن المقابلة بين الممرضة وخطيبته القديمة ((هند)) يترادف مع البحث عن الذات بعيدا عن خطيبة مفروضة عليه.

إن الرغبة في الجنس الآخر تعادل الرغبة في الحياة ذاتها, على أساس تواصلها, ولحظة الإنجاب, ووجود روح جديدة يأتي من خلال فعل الجنس ذاته.

تبحث اللغة في الرواية عن تحقيق الات بشكل أكثر وضوحا حيث تسرد الرواية أحداثها من خلال تبئير سردي يقوم على زاوية ضمير المخاطب, الذي يبدو في أغلب أحواله دالا على صيغة المونولوج الداخلي ( ظاهره الحوار وباطنه المونولوج) ومن هنا يتدخل منطق الضمير السردي من منطق الزمن في كلية على الحكاية المستقبل بصيغة الماضي, وكأنه يلج على الموازاة بين قدم الموضوع وصيغة اللغة المختارة, ليصل إلى مستوى أعمق يريد الـأكيد على الأحداث على الرغم من الحديث عن بعضها الأتي, وبعضها الماضي بصيغة ذاتها, حيث يتم تفعيل التوقع بشكل لا يفلت منه شيء, في المستقبل.

إنها الدائرية التي تحتكم في الشخوص وردود أفعالهم لتتوازى مع تسلط الجنس على الذات البشرية منذ القديم.

إن هذه الصيغة توفر – من ناحية أخرى – مغازلة للمروي عليه, أو القارئ المفترض لنص. ليفرز بعدا دالا يناوش القارئ ويورطه في عملية السرد وأجواء الأحداث, ودائرية لغتها.

ربما يريد البعض في اللافتات المنقولة داخل الرواية نوعا من كسر الإيهام بالتعبير المسرحي الشهير, حيث نجد (دقيقة المحمول ب50 قرش- ولافتة تحمل إعلان بيع السيارة) مما قد يضيف نوعا من الواقعية الشديدة على العمل برمته, غير أن ثمة توازيا بين لافتة ومعنى أساسي من معاني العمل, فالأولى توازي مع الاتفاق على الجنس الفمي الذي يقوم به البطل, تتكلم إذا دفعت وتمنعك بنت البغاء إذا دفعت لها.

أما اللافتة / الإعلان عن بيع السيارة فهي تتوازي مع نهاية فترة السيارة برمتها كمايز مع البطل تجنح الرواية صوب استخدام لغة عادية, وهي السمة البارزة في الكتابة الروائية الجديدة غير أن رواية ((وقوف متكرر)) تضعنا أمام تغير مفهوم ((الأدبي)) الذي ظللنا نراه مناقضا للعادي, ومردافا لتخييلي ومناقضا – كذلك – للواقعي.

الكتابة الجديدة ترى ((الوهم)) مناقضا للخيال, وترى المباشرة مناقضة له, إذ تحاول إعلان قيمة الحقيقة على غيرها من القيم, حتى لو كانت قيما من نوعية ((وجهة النظر)) و ((الفن)) و ((المردود)) و ((المجاوزة)). إنها تتنازل عن المكانة الخاصة للأدب دون أن تتنازل عن فنيته الرائعة.

الكتابة الجديدة ترى في اللغة الجادة – إذا جاز التعبير – أكثر قدرة على التحمل الرسالة, وأكثر موضوعية من سواها من اللغات, ولا ريب أن الأمر غير محسوم على نحو ما اختاروا, إذ إن ((الحقيقة)) نفسها مفهوم لا يسهل أن نقع على طبيعته.

على ضوء (المعنى)) الكلي الرواية يبدو الانحياز للغة العادية من ازدراء, وربما إنكار, احتواء الأدب / الحياة على قيمة مركزية يمكن الالتفاف حولها تارة, ومجوزتها أخرى, ففي الاتكاء على اللغة العادية تصدير للرسالة على حساب التعبير عنها, تصدير القيمة على حساب الفنية, وتقديم للوضوح على حساب التأويل, تقديم التأمل الذاتي على حساب ((الرونق)) وغيره من موروثات تحاول الرواية بالأساس مناوشتها.

لا ريب بتحمس النظرة السليمة لإعطاء الأديب الحق في معالجة موضوع الجنس كما يريد, غير أن الإفراط في هدم المجاوف قد يتوازى مع مخاوف دخول كتابات رخيصة, ولكنها ضريبة الانفتاح الفكري والتجريب, وإذا كانت رواية محمد صلاح العزب رواية جديدة فإن لها مرتكزات من الفنية والموهبة الحقة, غير أن التيار الجديد برمته يحتاج إلى شيء من الاحتراز فليس كلهم مثل العزب, يستطيعون معالجة الجنس دون ابتذال, وبلغة عادية دون تنازل عن الفنية.

لعل أبرز ما أنجزته رواية العزب أنها وصتنا صوب نظرة أخرى للجنس, وطرح على المنشغلين باللغة العادية, وهو شأن الأعمال الرائعة التي تقود النقد وتطرح عليه مسارات جديدة.

ــــــــــــــــــــــــــــ

* ناقد مصري

 

عودة إلى الملف

 

مقالات من نفس القسم