وقوف متكرر.. وهذا لا يعني عدم الحركة!

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

حسام محمد دياب *

صدرت الطبعة الثانية من دار الشروق مؤخراً لرواية (وقوف متكرر) للكاتب (محمد صلاح العزب)، ليثبت أن له مشروعاً أدبياً قوياً، لا نعلم -وقد لا يعلم هو أيضاً- كيف سيحقق خصوصيته السردية، لكن بلا شك يبدو واعداً بإبهار لن يتوقف..

وقوف لا يساوي عدم الحركة:

(محمد إبراهيم).. اسم لا يحمل أي رنين مميز، وشخصية قد تجد منها آلافا في الشارع، لا يميزه أي شيء بالكاد، حتى أن اسمه مهمش للغاية في ثنايا صفحات تلك الرواية الجميلة، قد تتذكر -عزيزي القارئ- (هند) خطيبته، أو (منعم) الصديق الوفي الطيب، أو حتى (عبير) التي حاول إقامة علاقة غير شرعية معها، لكنك ستعجز إلى حد كبير عن تذكره بالذات، ولا يميزه إلا أنه البطل الذي قرر منه الكاتب الانطلاق للغوص في أعماق المجتمع المصري، لا ليحلل أو يشرّح الظواهر الاجتماعية، بل لينقلها لنا ببساطة واحترافية في آن واحد..

التنسيق الداخلي للفصول أقرب إلى تنسيق المجموعات القصصية، إذ إن عنوان الفصل في الركن الأيسر السفلي لصفحة يسرى يعقبها بداية الفصل في الصفحة اليسرى التالية، وهو تنسيق يتفق مع التكنيك السردي المستخدم، فالفصول ليست مرتبطة بترتيب زمني، فأنت تجد في الفصل الأول مثلاً رحلة البطل مع أسرته وخطيبته ليريهم “المُكنة” الجديدة التي استأجرها كي يقيم فيها لوحده بعيداً عن شقة العائلة في (مدينة السلام)، ثم بعد خمسة فصول يشرح لنا الكاتب كيف استطاع البطل إقناع أهله بتركه ينتقل إلى شقة بمفرده، وكيف لفّ مع صديقه (منعم) بحثاً عن غرفة رخيصة في أحياء مصر، ومعاناته من تعامل السمسار..

إذن فالرواية أقرب إلى دفتر يوميات تبعثرت صفحاته وصارت غير مرتبة زمنياً، فكل فصل مستقل يحكي جزءاً من صورة لا تكتمل إلا عندما تصل إلى فصل بعنوان (التي وافق أبوها بشكل مبدئي على الارتباط)، فعندها تصبح الأحداث مسلسلة وخاضعة لسطوة الزمن، وتنتهي مرحلة الشتات بين فصول متناثرة، وتتضافر حياة البطل المبعثرة في اتجاه وحيد بحثاً عن خلاص في النهاية..

لا يمكن تلخيص الرواية عموماً، فالأحداث عادية إلى درجة تقترب من الواقع اليومي، لكن الكاتب يحرص دوماً على جذب اهتمامك، بإثارة تفاصيل كامنة في الأحداث تجعلك تبتسم أو تتذكر موقفاً مشابهاً حدث لك أو لأحد معارفك، وهو هنا يتشابه مع الكاتب الكبير (خيري شلبي) في حرصه على إبراز الواقع بتفاصيل قد لا تراها العين، أو تعتادها لكثرة رؤيتها، ثم يجعلها تنتظم في مدارات الأحداث ليخلق عالماً مثل عالمك لكن أبعاده وزواياه أكثر عمقاً وغرابة، مثل المصور الذي يقوم بالتقاط صور لشقتك -التي تدخلها كل يوم منذ بداية حياتك- ومع ذلك تجد أن الصور تم التقاطها بزوايا فنية وأحجام معينة تجعلك ترى شقتك بعين مختلفة..

بل إن الكاتب يتحدى القارئ ويشوقه في آن واحد، في أول عبارة في الرواية:

“ستدعوهم كلهم إلى هنا: أباك، وأمك التي قالت في البداية: (يعني إيه عازب يسكن لوحده يعني؟!)، وهزت رأسها باستنكار، وأخاك، وأختك، و”هند” بنت خالك التي وافق أبوها بشكل مبدئي على الارتباط، ستفاجأ بها بعد ذلك طارقة الباب عليك دون أي إشارة سابقة لاحتمال مجيئها، سترى الأنثى الوحيدة التي نجحت في تسريبها إلى هنا معك بالداخل، فتنزل باكية وينتهي كل شيء”.

الكاتب في أول عبارة من الرواية، يتخلص من التوأمة والحالية التي يتقيد بها معظم الكتّاب الذين يستخدمون ضمير المخاطب (أنتَ) ليلجأ إلى الراوي واسع الاطّلاع، إنه يقوم بحرق جزء هام من أحداث الرواية -دون أن يستخدم تقنية Flash Forward– ويحكي لك موجزاً مختصراً عما سيحدث في النهاية، كأنه يقول للقارئ أن السؤال (ماذا يحدث) لن يعنيك كثيراً؛ لأن كل شيء واضح منذ البداية، المهم هو (كيف يحدث)..

وتكرار لا يعني دورية حدوثه:

لكننا سنحاول أن نجمع خليط الفصول المتناثرة، فعائلة (محمد إبراهيم) أصلاً من شبرا، وأخذ أبوه الشقة الحالية في (مدينة السلام) كنوع من “تخليص حق” في دين ماطل أحدهم طويلاً في رده للأب… يعمل (محمد) و(منعم) في مخزن أدوية، ثم تغلقه الشرطة؛ لأنه كان ستاراً لتجارة المخدرات، وهكذا يصبح تحت يد البطل وصديقه أدوية لا صاحب لها، يبيعانها ويجنيان مبلغاً يفتحان به محل ألعاب “بلاي استيشن” و”بلياردو”، لكن الشرطة تغلقه كذلك؛ لأنه تحول إلى ماخور ووكر مشبوه..

ثم يبدأ موضوع “المُكنة” هذا من (منعم) الذي يتعرف على فتيات “مش ولابد” عبر الشات في الفضاء السايبري، لكن النت موجود والفتيات موجودة، المشكلة الوحيدة في المكان. ويفكر الصديقان: لو أن لديهما شقة صغيرة في (وسط البلد) وعليها اسم شركة وهمي، لاستطاعا أن يستقدما فتيات الليل، بشرط ألا تتكرر الزيارات بمعدلات تثير ريبة الجيران. أما البطل فقد أخفى مؤقتاً عن صديقه نية الإقامة الدائمة في الشقة؛ لأنه كره (مدينة السلام) تماماً..

يجدان بصعوبة شقة عند نفق (أحمد بدوي)، ثم يتشاجر البطل مع صديقه؛ لأنه لم يشاركه ثمن الإيجار أو الأثاث، ثم تزداد وحشته بعد أن سُرق هاتفه المحمول، لكنه نجح في التعرف على (عبير) بالمصادفة أثناء ركوبه المترو، وعندما استقطبها إلى شقته وقبل فعل أيء شيء، جاءت (هند) لتخبره أن أباه متعب للغاية وعائلته بحاجة إليه، وبالطبع تكتشف وجود (عبير) وتخرج باكية لتنتهي علاقتها بخطيبها إلى الأبد، أما هو فقد سارع إلى أبيه ونقله إلى المستشفى، لكن بلا فائدة؛ لأنه انتقل إلى جوار ربه..

الرواية -كما أسلفنا- مليئة بالتفاصيل التي قد لا تبدو منطقية أحياناً لكنها مع ذلك قابلة للحدوث، هناك مثلاً (أم رضا) جارتهم القديمة التي كانت أمه تغار منها؛ لأنها تسعى وراء أبيه وكان يتلصص عليها في أيام مراهقته، هناك فتاة الليل (راندا) التي تبدو بريئة وجديدة على هذا المستنقع القذر ويعرف البطل أن اسمها مستعار وأنها في الفرقة الثالثة من كلية الحقوق في عين شمس، وكذلك نتعرف سريعاً على (يارا) ابنة د. “سليمان هلال” أستاذ إدارة الأعمال بتجارة قناة السويس، صاحبة الميول الشاذة والتي تترك “منعم”؛ لأنه حاول لعب دور الحبّيب بينما لا يمثل عندها إلا رقم موبايل في قائمة “الكونتاكت” لديها..

الأمر المثير هو لغة الحوار، فالكاتب يتعمد صياغتها في عامية صرفة تقربك تماماً من الشخوص وتجعلها نابعة من المواقف العامية في الشارع، كما أن الجمل السردية المستخدمة في الرواية قصيرة ومكثفة إلى أقصى درجة، مما يجعلك تشعر أنك لا تقرأ قصة أصلاً، فالكاتب حريص على جعل إيقاع الرواية سريعا وواضحا ولا يلجأ إلى الصور الجمالية في عباراته أو وصف الأماكن إلا في الضرورة القصوى، فالتركيز أولاً على بناء الشخصية وتركها تتصرف حسب أبعادها ومكوناتها النفسية.

كما أعجبني كذلك كسر الكاتب لحدة السرد اللغوي باللجوء إلى تشكيلات لوحات وإعلانات وقصاصات تقوم بإراحة عين القارئ، لكنه في نفس الوقت لا يلجأ إليها بكثرة، ويقوم بتوظيفها بعناية، مما يجعلها أكثر اتساقاً مع النص، وليس مجرد انقلاب على تقليدية السرد. مثال ذلك:

“لفَّ من أمامك بالسيارة وهو منصرف، فوجدته قد علق ورقة مكتوبة بالكمبيوتر على الزجاج الخلفي:

للبيع

موديل 72 معدلة

رخـصــة ســنــة

المخابرة/ 0127506191

الرواية تعبر حقيقة عن وقوف لا يساوي عدم الحركة، فالبطل ليس واقفاً بل يتحرك ويسعى لكن في نفس الوقت لا يستفيد من هذه الحركة إلا إشباع نزواته، فالوقوف هنا وقوف النفس عن مجاراة العالم الذي يموج أمامها وعدم رغبتها في التطور، أما التكرار فلا يعني بالضرورة دورية حدوث هذا الوقوف، بقدر ما صار سمة غالبة لمجتمع يعاني من أمراض مزمنة: القهر والكبت والعجز!

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* ناقد مصري

 

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم