وقفة أنخل بينثون

خوان رولفو
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

خوان رولفو

ترجمة: عبد الله ناصر

توقف أنخل بينثون في المنتصف حيث يتفرع الطريق إلى أوثوماثين عبر فتحة ضيّقة تفضي إلى مزرعته للماشية “لاس بيرخينس”. مسح عرف الحصان، ورمى، تحسُبًا، قبعته العريضة خلفه، كي يتثبتوا من هويته، إذ أخبره حدسه بعد سنواتٍ وسنوات من اليقظة والانتظار أن ما لا يقل عن أربعة أو ستة أشخاص، وربما أكثر على وشك أن ينقضّوا عليه في ذلك المكان. لم ير أحدًا منهم، ولكن كان بمقدوره تقريبًا أن يستشعر أنفاسهم. ثم إنه لطالما خمّن حدوث هذا عاجلًا أم آجلًا، فإن لم يكن هناك فلا بد أن يقع في مكانٍ آخر. ما عجز عن فهمه هو السبب الذي يدعوهم إلى الانتظار كل ذلك الوقت، فحتى الحصان بدا ضجِرًا، يحرك رأسه في غيظ ويدور حول نفسه مبديًا رغبته الصريحة في ورود المنهل.
وقف أنخل بينثون أخيرًا على الرِكاب وصرخ حتى يسمعه الجميع: “فلننهِ هذا الأمر يا أبناء القحبة، أطلب منكم فقط ألا تطلقوا الرصاص على رأسي! خراء على أم من يفعل ذلك! هل سمعتموني؟”.
انهمر الرصاص في الحال من مختلف الجهات. يضربه من الخلف ومن جنبيه، دون أن يُصيبه من الأمام أو يمس الحصان المذعور، الذي اندفع مباشرةً نحو فتحةٍ في الجدار، كأن غريزة البقاء راحت تحثه للفرار من وابل الرصاص.
وهكذا وصل إلى مدخل “لاس بيرخينس” بالذعر نفسه، حاملًا سيده الذي مزقه الرصاص ولم يزل يتشبث بالحياة.
تجمعت الأخوات بينثون حول الحصان. حللنَ أربطة السرج التي اعتاد أنخل بينثون أن يعقدها حول خصره، ثم أنزلنهُ برفقٍ وحذر حتى حسِبن أنهن قادرات على مداواة جروحه، بيد أن التعافي من عشرين ثقبًا غير ممكن. وهكذا لم يتبق لهن غير التنهيد. “لا تبكينْ” قال أنخل. “لقد حان أجلي، لطالما تمنيت أن ألقى الرب بوجهٍ سليم”. ثم هوى رأسه وفاضت روحه.
وهكذا مات أنخل بينثون بجانب أخواته اللاتي ترك لهنّ الأب مزرعة لاس بيرخينس، ليعِشن عليها بعد موته فلا يحتجن لأحد. كان عقارًا غنيًا يتغذى على نهرين أبقيا أرضه رطبة، ويقع في وادٍ كبيرٍ مليء بالبساتين وأشجار الفاكهة. وهذا ما جعل أهالي أوثوماثين يحسدونه لاعتقادهم بأنه استولى على تلك الأراضي بغير وجه حق.
سواءً حيزت أوثوماثين بحق أو بغير حق فلن يتبين هذا الآن. ومن هنا كان يجب أن تبدأ القصة. دون ترانسيتو بينثون لديه خمسة أطفال أو لنقُل أنخل وانغراثيا وباث واينيس وسوكورو. لم يسبق له أن قتل أحدًا أو اغتصب امرأة ماعدا زوجته بالطبع. عاش كما يبدو حياةً هادئة وهانئة في أوثوماثين.
وأوثوماثين كما تعلمون تقع في سفح كواسيمولكو، الجبل الشاهق الذي تغطي قمته الغيوم والضباب على مدار السنة تقريبًا. لهذا يعتقد البعض أنه المكان الذي يولد فيه البرق ويقطنه الرعد. لا أحد يجرؤ على التوغل في أوديته ومنحدراته. ومن قبيل الصدفة يقف ثييرو رابون قبالته، غير بعيدٍ من كواسيمولكو. جبلٌ آخر يقال إن العواصف تسكنه. سواء كان هذا صحيحًا أم غير صحيح فهذا ما يقوله الناس هنا، وليس من السهل تغيير معتقداتهم.
كواسيمولكو يقف في أقصى الشرق، وهذا الموقع يجعل أوثوماثين تعاني في مقابل الشروق الذي يدوم للأبد، غسقًا عدوانيًا وليلًا متسرعًا، كأن أحدهم أخذ سكينًا وقطع قطعةً كبيرة من اليوم. ولهذا السبب عليك أن تشعل الأضواء بُعيد الخامسة عصرًا سواء في الصيف أو في الشتاء.
تسبب هذا في بعض الفزع عندما كان الناس لا يزالون يستخدمون الشموع قبل سنوات قليلة، خصوصًا أصحاب الأعمال التجارية نظرًا لوجود بعض اللصوص والعصابات الذين راحوا يستغلون ذلك في السلب والنهب.
وهذا ما جعل دون ترانسيتو بينثون أرملا، عندما خلط دون بروكوبيو أرجوتي، الذي كان أعمى مثل خفاش، بين زوجة بينثون وبين أحد المجرمين فضرب رأسها بمطرقة ما إن لَمَحها في دكانه. وقد شفع له تعرضه في الليلة السابقة للسرقة والضرب على يد حفنةٍ من لصوص بلدةٍ مجاورة.
كان أنخل بينثون في تلك الأيام قد بلغ الثامنة عشرة، وكان عمر أخواته يتراوح بين اثنتي عشر سنة وست سنوات.
دون ترانسيتو لم يبدُ مغتمًا، في الظاهر على الأقل، بل بدا شارد الذهن لأيامٍ أعقبتها عزلة مطولة حتى مَثَلَ أخيرًا، هو وابنه، أمام كاتب العدل برزمٍ كبيرة من المال للحصول على مزرعة لاس بيرخينس، وقد كانت من أملاك بروكوبيو أرجوتي، لذا بدا الأمر غريبًا بالنسبة لأهالي أوثوماثين إذ لطالما رفض بروكوبيو أرجوتي التخلي عنها كلما أبدى أحدهم رغبته في شرائها.
وبعد سنة، انجلت الحقيقة حين وجد أنخل بينثون أباه يتدلى من شجرة قابوق كبيرة بجانب أحد كهوف كواسيمولكو. كان الخطأ الوحيد الذي إقترفته السلطات في حق القتيل أنها علقت على الشجرة نفسها قائمةً بأسماء المطالبين بإنزال عقوبة اللص بالإضافة إلى أسماء من اختطفهم طلبًا للفدية. وقد كان من ضمنهم بروكوبيو أرجوتي.
كان بروكوبيو أول ضحايا أنخل بينثون. وعلى عكس أبيه ترانسيتو بينثون الذي أكد للحشد الذي أمسك به وشنقه أنه لم يقتل رجلًا ولم يغتصب امرأة وإلخ.. فإن أنخل بينثون راح يسعى لسنوات وسنوات خلف كل واحدٍ منهم ليغتاله. كان يقتلهم حيث يلقاهم، مترحلًا من بلدةٍ إلى أخرى، ومن مدينةٍ إلى المدينة التي تجاورها بل وكانت تواتيه الجرأة للعودة أعزل إلى أوثوماثين، على فرسه المرقطة التي كانت تغتاظ كلما ربطها إلى عمودٍ في المدخل، فيخطو في هدوء ويشتري المؤن ليحملها إلى مزرعة لاس بيرخينس.
حالما يراه الناس، يفرّون في ذعر أو يختلسون النظر إليه من خلف ستائر نوافذهم الدانتيل فلا يجرؤ أحدهم على تحيته فضلًا عن الحديث إليه، أما هو فينتبه لكل واحدٍ منهم فيومئ إليه بلمس قبعته.
لم يزر أحدًا باستثناء مُحصِّل الضرائب، وما إن يدفع ضرائبه حتى يشرع في محادثة طويلة. عاد مرةً بساقٍ جريحة. ومنذ ذلك الوقت صار يعرج بل ويجد صعوبةً في ركوب فرسه كلما استند على تلك الساق.
كنت قد علمت ببطولاته في المناطق النائية من رجل الضرائب نفسه، والحق أن قصة أنخل بينثون يجب أن تبدأ من هنا لا من اليوم الذي قُتِل فيه، ولكن تعرفون، يحكي المرء أحداث القصة كما تندفع من لسانه لا كما يود أن يحكيها.
لم يكن محصل الضرائب ينسب الكثير من حوادث القتل لبينثون، ولم يعتبره مسؤولًا عن كل أولئك الذين جرت تصفيتهم. لطالما كان يفضل هذا التعبير. ثم راح يضيف إليه لاحقًا: “عامة الناس هنا جهلة، وينجذبون إلى الأراذل. إنهم يخافون فقط من بينثون. الجبناء، تلك حقيقتهم. لو كان سفاحًا في الحقيقة، أو قاتلًا ذائع الصيت، وراح يتباهى في الجوار لنَصَبَ له أحد الرعاع كمينًا وقتله. اسمع، كنت فتى يافعًا عندما انتقلت إلى هذه البلدة الصغيرة البائسة، ومنذ ذلك الحين لم تمضِ نهاية أسبوع واحدة دون أن تُحمل جثة رجل إثر شجار تافه في البار. وفوق ذلك، يعتدُ النكرات بأنفسهم، تراهم يتشمسون على الأرصفة في أيام الأسبوع بدلًا من حرث الأرض أو إصلاح الأسوار التي توشك أن تسقط على منازلهم، أو مطاردة الخلدان، أو مكافحة الجراد الذي اجتاح سفح الجبل. لا، إنهم يفضلون السرقة. لقد سرقوا مني آلتي كاتبة وبادلوها بصندوق بيرة. جاء العاملون في البار ليعقدوا اتفاقا. أن يعيدوا الآلة بشرط أن أدفع ثمن صندوق البيرة. نعم، الكل هنا بالفعل يتفق على خداع جاره. وهاهم يرتعبون الآن من بينثون الذي لا يحمل حتى السلاح، لأنهم يقولون إنه قتل الكثير من الناس. اسمع يا سيدي، هذه البلدة تعُجُ بالسفلة ولا تصلح لشئ.”
– وهل يثق بك أنخل بينثون؟
– نعم، وسأتهمه بالقتل مع ذلك، وما كنت لأتراجع حتى لو انعدمت بعض الشواهد هنا وهناك.
– أية شواهد؟
– طيب، هناك حادثة أخته انغراثيا التي فرّت برفقة رجل لا أعرف حتى لقبه. لعلك تجهل أن دون ترانسيتو قد استحلف ابنه أنخل أن يعتني بأخواته. لقد سهّلت انغراثيا الأمر على ذلك الرجل ليخطفها بعيدًا. راح أنخل يتعقبهما حتى وجدهما ذات ليلةٍ في الجبل فأجهز على الرجل.
– بهذه البساطة؟
– كنت لأفعل الأمر نفسه، تذكر أننا نتحدث عن الأخت الكبيرة المسؤولة عن المزرعة وعن رعاية أخواتها الأصغر سنًا.
– لقد سمعت أنه كان بعيدًا طوال الوقت عن لاس بيرخينس، يطارد من خانوا أباه إلى أن قضى عليهم بلا رأفة.
– ممكن. كل شيء ممكن. لم يذكر لي غير ثلاثة رجال. كانوا أغنياء على ما يبدو. حدث هذا بعيدًا جدًا من هنا. أعرف بأمر رجلٍ من كابوركا، وهذه بلدة نائية جدًا، وآخر بالقرب من سان الدوفنسو. لكن من يدري.
– وبماذا ستخبرني عن حادثة أخته الأخرى إينيس؟
– في الحقيقة، لقد تبين أن ما حدث لأخته إينيس مطابق لما حدث لانغراثيا. لم تستأذن أخاها لتتخذ صديقًا وقد وجدها ذات يوم في حفل راقص في بلدةٍ تدعى كوبالا، على بعد ساعتين من هنا. ضربها وألقاها خارج الحفل ثم راح يطارد ذلك الشاب بصرف النظر عن هويته. ولما جُرِحت ساق الشاب قتله أنخل في الحال.
– وهكذا راح يراكم قتلاه؟
– لا، تمهل حتى أخبرك بما تبقى من القصة. إياك أن تظن أني أدافع عنه أو أحاول التقليل من فعلته. إذا اعتقدتَ أنه شيطان فأنت على حق. لا أزعم أنه كان رجلًا صالحًا. لا يا سيدي، الحياة مدمِرة، وبعد ما حدث لأبيه، من بين أمورٍ أخرى، فسدت روحه. أزعم أن أنخل كان خسيسًا، وأزعم أنه كان على علمٍ بذلك. وقد أدرك أنه لن يموت أثناء نومه، لذا لا أظنه سيمانع عندما تدق ساعته. إنه لا يفهم العطف، ولا أظنه سمع أحدهم يومًا يتحدث عن ذلك. أتعرف ما الذي لن أسامحه عليه أبدًا، ولن يغفر له الآخرون أيضًا، ما فعله بزوج شقيقته الصغرى سوكورو.
توسلت إليه أخواته الثلاث ليسمح بزواج سوكورو. أخبروه كم كان ميغيل ملائمًا لها. كان على وشك أن يتخرج مهندسًا وما إلى ذلك. وافق أنخل أخيرًا، بل وعرض أن يكون إشبينًا في حفل الزفاف. نسق مع الكنيسة واستأجر فرقة موسيقية. كان كل شيء جاهزًا. اكتظت الكنيسة وقد شهدت أخيرًا ما يمكن أن يصفح عن كل ما حدث في الماضي. غادر الجميع سعداء.
– شكرًا أخانا أنخل على ما فعلته لسوكورو ولنا، قالت أخواته الثلاث.
لم يبدُ أنخل راضيًا فقط، بل واقترح أن يرافق العروس والعريس حتى طرف أوثوماثين. ركب فرسه الحمراء قاطعًا الجانب الجبلي وقبل أن يغادر البلدة تراجع قليلًا.
– طيب يا صهري، ها قد حان الوقت لنقول وداعًا. ودون أن يتفوه بكلمةٍ أخرى سحب مسدسه وفرغه في ظهر ميغيل. أسقطت سوكورو نفسها من الحصان وهرعت لنجدة زوجها، ولكن لم يعد ثمة ما يمكن عمله.
– لنصعد الجبل، هيا نعُد إلى لاس بيرخينس. “سيظل ذلك مكانك دومًا بجانب أخواتك”.
عندما تمر هناك سترى الأخوات الأربع كأنهن رجال. تحرث إحداهن الأرض بمساعدة الثيران، والأخرى تطعم الحيوانات، والكبرى في المطبخ تسارع لتحضير العشاء.
قد يبدو ما سأقوله غير وارد، ولكنه حقيقي. كل النسوة اللاتي يعشن في لاس بيرخينس بقينَ عذراوات حتى اليوم*.
—-
*هذا المخطوط لم ينشر في حياة خوان رولفو، وكانت زوجته كلارا قد أفرجت عنها من ضمن ما أفرجت من مذكراته. وقد صنفه رولفو تحت مخطوطات “سلسلة الجبال” وهذا عنوان الرواية التي ظل يحدث الصحفيين عنها وإن لم يشتغل عليها كما يبدو. المسودة شبه نهائية، لولا أن رولفو كان يستخدم أكثر من اسم لشخصياتها فكأنه لم يستقر بعد عليها، ربما كان سيحررها أو حتى سيلغيها من الأساس. من يدري. رأت حرم رولفو أن تستبقَ الملام فأكدت في مقدمة النسخة الأسبانية على أن النصوص وإن لم تكتمل إلا أنها تمتلئ بروح رولفو وقد صدقت. الصورة بعدسة رولفو وهو لمن لا يعلم مهووس بالتصوير وفي جعبته آلاف الصور عن المكسيك ومن طالع ألبوماته سيرى بوضوح كومالا بيدرو بارامو والسهل المحترق أيضًا.
*نقلاً عن مدونة عبد الله ناصر  https://benelios.blogspot.com/

مقالات من نفس القسم