وردية

وردية
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

عبد اللطيف النيلة       

*خبزة الشعير:

    «كان يا ما كان في مراكش، رجل يدعى فليفلة، يعيش على النصب والاحتيال. وذات يوم أوشكت الشمس على الغروب وأرهقه السير دون أن يظفر بضحية. وإذ عضه الجوع فقد تفتق ذهنه عن حيلة أخيرة: أخذ يقطع الدروب مناديا بصوت وقور منهك: "ها دْوا التوكال! ها دْوا بوزلّوم! ها دْوا لَرياح!". ولما كاد يشرف على اليأس، نادت عليه امرأة من عتبة باب دارها، وسألته عن دواء علة حارت في علاجها. فقال لها بنبرة واثقة:

    – سيكون شفاؤك على يدي إن شاء الله. لكن ذلك يحتاج إلى.. إلى الخبز..

    – الخبز!

    – نعم.. هل أجد لديك خبزة من الشعير الخالص؟

    وحين أحضرت المرأة خبزة الشعير، وضعها فليفلة على راحة يده اليسرى، ومسح بيده اليمنى على رأس المرأة متمتما، ثم أغلقها نافخا فيها هواء من فمه، وهوى بها إلى أسفل باسطا إياها فوق الخبزة، وراح يقول بصوت مسموع:

    “يا مولانا انت الشافي.. انت العافي!

    فْ هادْ النعمة خرّجْ علة هادْ الولية!

    داويها راهْ دارتْ النية!”.

    وكرر كلماته ثلاث مرات، بينما كانت المرأة مسلمة إليه أمرها، بوجه طافح بالإيمان.

    واحتفظ فليفلة لنفسه بالخبزة، وابتعد بعد أن ودع المرأة التي دست في يده بضعة ريالات. واقتعد درجة بيت في نهاية الدرب، وتهيأ لإطفاء جوعه. لكن ما إن اقتطع مِزعة من خبزة الشعير، حتى انبعثت رائحة نتنة. ولما فحص “اللبابة” وجدها لزجة في سواد الفحم. عندئذ أدرك فليفلة، ببالغ الدهشة، أن الشافي العافي قد استجاب لدعائه».

*عنقود البلح:

    «كان يا ما كان طبيب متجول يدعى عابد، قدم إلى قلعة السراغنة في عام جفاف. ولفرط تقواه، كان يعالج المرضى مجانا، ولا يرد ما يجود به الكرماء. وذات يوم ساقته قدماه إلى قبيلة أولاد شعيب، منهكا وجائعا. كان الحر شديدا، والناس قد آووا إلى ظل بيوتهم. وكان صوته المبحوح الواهن قد شرخ سكون القبيلة، دون أن يلق نداؤه استجابة من أحد.

    وكانت تعيش تحت سقف بيت موحش، عجوز أقعدها المرض عن مزاولة عملها كقابلة. وفي اللحظة التي دنا فيها عابد من باب البيت تناهى إليه أنين. وحين قرع الباب، مرددا بما تبقى في صوته من قوة: “علاج لوجه الله!”، دعته القابلة إلى الدخول، فدفع الباب الخشبي الذي لم يكن موصدا، وتقدم..

    وفي زاوية من البيت، رأى القابلة مستلقية فوق حصير، وساقاها العاريتان تغطيهما بثور متقيحة. وبعد أن فحص عينيها وفمها، وجس نبضها، فك صرته، والتقط منها حُقا. وإذ فتحه تناول منه مسحوقا بلون التراب، ثم نثره فوق البثور، بينما القابلة ما فتئت تئن. وسألها، في حياء، شيئا من طعام، فأشارت معتذرة إلى عنقود بلح معلق بمسمار على الحائط المقابل. وأخذه عابد رغم أنه كان أصفر نيئا. لكنه لما غادر البيت، واقتعد الأرض تحت الظل الخفيف لشجرة زيتون، لاحظ أن حبات البلح بدأت تنضج واحدة تلو الأخرى. وأدرك، بإلهام من الرزاق، أن نضج حبات العنقود مؤشر على اندمال بثور العجوز: كلما جفت بثرة، نضجت حبة بلح!».

*قاعة الانتظار:

    لهثت وردية وتسارعت نبضات قلبها، حين شارفت، بعد عناء، نهاية الدرج. تمهلت قليلا ريثما تلتقط أنفاسها، ثم دلفت إلى العيادة، تحت أنظار المرضى الذين غصت بهم قاعة الانتظار.

    حين أجالت وردية نظرات مرتبكة فيما حولها، رأت مكتبا في جانب من القاعة، تجلس خلفه فتاة في مقتبل العمر بوزرة بيضاء. تقدمت نحوها، بخطوها البطيء. رفعت الفتاة رأسها، بعد أن فرغت من تسجيل موعد ما، وسألتها باشة عن حاجتها.

    – إني مريضة يا بنيتي.. عالجيني لا أراك الله مكروها.

    جمدت الدهشة السكرتيرة، لكنها وهي تتفحص هيئة وردية حدست أنها قد تكون متسولة، أو بدوية جاهلة، أو عجوزا خرفة، ضلت طريقها إلى المستوصف العمومي. قدرت حرج الموقف، سيما وأن القاعة غاصة بالزبائن، فأشارت إلى كرسي شاغر، وقالت لوردية:

    – اجلسي هناك يا لالّة. سأنادي عليك عندما يحين دورك.

    تهالكت وردية على الكرسي نابسة بتلك العبارة التي تستمد بها العون عادة:”آسيدي بلعباس!”.أغمضت عينيها، دون أن تشعر بنظرات المرضى الذين استغربوا عبارتها. أحست بالارتياح: أخيرا ستجد من يصغي إلى شكواها، ويعرف أنها مريضة فعلا. دائما تلمّح كَنّتها إلى تمارضها، أو تعمد إلى جرح إحساسها بتعليق ساخر، كأن تقول لها محتدة:

    – من أكل حقه فليغمض عينيه! أتظنين نفسك ما زلت صغيرة؟.. انظري إلى حفيدك هذا.. ما شاف ما تشوف، ومع ذلك فهو معلول دائما!

    لحظة فتحت عينيها، كانت القاعة ما تزال غاصة بالمرضى. سمعت السكرتيرة تردد أحد الأسماء، ثم رأت شابا مصفرا ينهض من مقعده ليتجه، صحبة السكرتيرة، إلى باب على مقربة من المكتب. أدركت عندئذ أن الطبيب يوجد خلف ذلك الباب، ولابد أن دورها أصبح وشيكا.

    عادت بها ذاكرتها إلى الزمن الجميل؛ قبل أن تضطر إلى أن تهجر القرية رفقة ولدها عبد الرحمان. رأت نفسها مقتعدة هيدورة، وعلى الضوء الخافت للشمعة تحكي لأولادها حكاية فليفلة النصاب أو عابد الورع أو غيرها من الحكايات…

    صار عدد المنتظرين لا يزيد على خمسة مرضى. خشيت أن يكون دورها قد فات. ربما نودي عليها، فلم تسمع النداء. اتجهت لتوها نحو السكرتيرة. كانت تحادث أحدا ما عبر الهاتف. وما إن وضعت السماعة حتى فوجئت بوردية منتصبة أمامها. بدا الامتعاض على وجهها، وهي تستمع إليها تستفسر عن دورها. أشارت بيدها ناحية المقاعد، وقالت نافدة الصبر:

    – لقد قلت لك اجلسي هناك حتى أنادي عليك.

    ارتخت وردية فوق الكرسي وقد بدأت مفاصلها تؤلمها. لبثت فاتحة عينيها تنتظر، حتى لا يفوتها النداء. لكن الذكريات جرفتها شيئا فشيئا، فانغلق جفناها دون أن تشعر…

    بوغتت بيد تهز كتفها. فتحت عينيها، فرأت السكرتيرة تهتف في وجهها: “أفيقي يا لالّة!”…

    – هل حان دوري؟

    – لقد حان وقت انصراف الطبيب..

    غصت وردية بريقها، ونزلت الدرج.

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون