وراء الفردوس لمنصورة عز الدين: لعبة السرد ومغامرة التأريخ

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 42
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

رواية " وراء الفردوس" ، لمنصورة عز الدين، لعبة في السرد ومغامرة في التأريخ.

هي ــ بداءة ــ  رواية داخل رواية. "مسودة" رواية اختبأت في طيات رواية اكتملت. رواية تكتبها "سلمى" الشخصية المركزية، كنوع من العلاج النفسي، التطهر.. ورواية أخرى كتبتها "منصورة"، ضمت سلمى نفسها و"مسودتها". هل تشبه الرواية التي كتبتها سلمى، الرواية التي قرأناها؟. لن نعرف أبداً.  نحن أمام روايتين: واحدة مخفية، تلك التي تنهمك سلمى طوال الوقت في كتابتها، تصحبها  أينما حلت،  رواية موجودة بالقوة وليس بالفعل، وأخرى معلنة، اسمها "وراء الفردوس".  كلتاهما كانتا تسيران أمام أعيننا. في الرواية الأولي نشاهد المؤلف في عذاباته ومكابداته ولا نرى نصه، في الثانية  نواجه النص ولا نعرف أبدا كيف كتبه المؤلف. حياة المؤلف في الأولى تساوي موت كتابته، بينما موت المؤلف في الثانية كفل تحققها. ربما كانت الرواية الأولى هي "الفردوس" الذي لا يتحقق، لذا لم تكتمل، بينما الثانية هي "ما وراء الفردوس"، تأويله، ومساءلته، حواشيه وهوامشه التي غدت متناً في ذاتها، لذا تمت. أخفقت المحاكاة إذن لصالح الخلق. أخفق الشخصي لحساب الملحمي، وغاب الصوت الواحد لتعلو الأصوات المتشابكة. إنه موقف جمالي أيضاً، حتى إن لم يكن تدشينه تم بشكل واع تماماً.

هكذا صارت الرواية الأولى موضوعاً للرواية الثانية. إنه تمثيل رمزي لفن الرواية نفسه: الرواية دائما تكتب رواية أخرى، شفهية، تدونها. الفارق الجوهري بين الروايتين ــ من ضمن فوارق كثيرة ــ أن “سلمى” المؤلفة كانت تكتب عن نفسها، حتى وإن حرفت حياتها، مستعينة بأناها كسارد يخط همه الضيق.. بينما استعانت مؤلفة “وراء الفردوس” بسارد عليم، يعرف الكثير غير أن تورطه نفسه خافت، واختلقت أكثر مما حرفت، اكتنهت العالم بالمخيلة وليس بذات مفردة،غنائية.

أعلنت المؤلفة عن حضورها في الهوامش، مُذكِّرة، حينا بعد آخر، أننا أمام روايتها. بدءاً بالإشارة لمقطع كان قصة في مجموعتها الأولى ” ضوء مهتز “، وكان يمكن ألا تفعل.. وتارات بتصويب أو تدقيق حدث داخل السرد  والتعليق عليه رغم أنه لم يكن من الصعب دمج ذلك في المتن نفسه، بدلا من كسر إيهامه المفترض عبر الهامش. اتنتا عشر هامش كان يمكن ــ فيما عدا الإشارة الأولى ــ أن تدخل في لحمة السرد، وما كان ذلك ليستعصي على سارد ملم، تديره المؤلفة، غير أنها لم تشأ..

 إنه اللعب. مؤلف واقعي أمهر من مؤلف فني، رهان غير مرئي، كسبه الأول  بإتمام روايته بينما ترك المؤلف الآخر مسودة مجهولة المصير!، رغم أنه هو نفسه مؤلف المؤلف الآخر!.

 كان يمكن للّعبة أن تتحول إلى تماهٍ محكم، يذهب بعيدا، فلا نعود نعرف أي رواية نقرأ. كان يمكن أن يتفرق نسب الرواية عمداً بين مؤلفين ــ أو مؤلفتين ــ وأن يتوزع دمها بين ساردين يتبادلان الأدوار، غير أن إرادة السارد أبت، مفضلة أن تكون اللعبة في اتجاه آخر: أن تشعر بأن الرواية التي لم تظهر تامة  من قبل أن تخط يد سلمى حرفا فيها، بينما تظل متعطشا لاتمام الرواية التي اكتملت فعلا.

تلك المغامرة الجوهرية في تشكل بنية النص،  منحته قدراً غير هين من سبل تحققه الفني. لقد خلقت مبدئيا الحبكة الرئيسية التي يلتم حولها العمل، وهي حبكة توحي بطبيعتها أن ما هو قادم من سرد سيمنحها الصدارة، كفضاء فني مثير يغري بالاشتغال. غير أن  السارد يجعل من تلك الحبكة نفسها ــ في مستوى تالٍ ــ حبكة فرعية، ذلك أن مهمته كانت إعادة تكوين ما هو مقوض بالفعل لحظة بدأ السرد. ثمة حوار آخر بين البنية اللعوب تلك، ولغة السارد الراسخة، التي تلائم وضعية التأريخ. السارد الذي يوحي بأنه لابد أن يُصدق، حتى في التفاته للغرائبي وغير المعقول. إنها لغة تجوب شخوصَها لو صح التعبير. تعود بالزمن للخلف وقد تتقدم به للأمام مستبقة ما سوف يحدث.

ليس عبثاً أن تجيء الفقرة الافتتاحية محملة بكل ذلك التواشج بين مفردات الطبيعة، في شكلها الأولي والطبيعي والبري.. و التي تقدم للظهور الإنساني، تمهد للحظة انبثاقه، توسع له، كأنه يخرج من بينها، أو كأنه محض مفردة كبقية المفردات. بل إن تقديم الإنسان نفسه يجيء مقترنا ــ بفعل التشبيه ــ بالصفة الحيوانية البرية.

 ” كنمرة هائجة نزلت سلمى رشيد درجات سلالم بيتهم الثماني، يتبعها خادم يرزح تحت ثقل الصندوق الخشبي الضخم الذي يحمله… بدت غير مهتمة بالحر القائظ الذي نفثته تلك الظهيرة الأغسطسية، ولم تنتبه للثعبان الأسود الذي أطل برأسه من بين كومة القش القريبة قبل أن يختفي بداخلها من جديد، ولا للفأر الرمادي السمين الذي مرق بسرعة هاربا من المشهد الذي احتلته هي. على مقربة اختفت حرباء مشاكسة بين أوراق العنب المتدلية عناقيده بزهو من التكعيبة المدهونة بلون برتقالي بهت بفعل الزمن “.

 هذا مفتاح أولي لأشخاص متماهين مع وجودهم الطبيعي، مصدقين لغرائزهم. أقصد تحديدا الأشخاص الذين سبق وجودهم دخول التصنيع بقيمه  في فضاء الرواية، وظهور الجيل التالي في الرواية.. مفتاح يجعل من الطبيعي بعد ذلك أن تسلم ” بشرى ” زوجة صابر جسدها بسهولة لـ”جابر” ــ في علاقة محرمة ثم في زواج ــ وكلا المؤسستين يمكن أن تخاصمهما امرأة أخرى في مكانها ببساطة.. يتسق ذلك أيضا مع “رشيد” والد سلمى النزق. يتسق مع “لولا” أخت ثريا ــ أم سلمى ــ التي تدخل علاقة جسدية مع شاب تحبه، بل وتترك نفسها إلى أن تنتفخ بطنها، قبل أن تنتحر.

سؤال الجسد حاضر بقوة ضمن هذا الإطار، والأدهي أنه معبر عنه من قبل شخوصه، الخارقة للتابوهات رغم ضيق العالم الاجتماعي وقيمه وأعرافه المقيِّدة، ورغم أن وعي شخصيات عديدة منها لا يحفل بتعقيدات الوعي الجدلي وأسئلته العميقة.

تقدم “وراء الفردوس” مقاربة لطبقة ناشئة شهدتها سبعينيات القرن الماضي، لتلتحق بركب الطبقة الرأسمالية.. متجاوزة ــ في قفزة ــ الطبقى الوسطى نفسها في شكلها المتعارف عليه. الرواية تقترب  من ريف الدلتا في حقبة مفصلية، بدأ فيها التحول من قيم الإقطاع لقيم التصنيع.. من خلال الأرض بالذات ــ بكل ثقلها الثقافي والروحي ــ التي جرى تجريفها لتصير مادة لصناعة الطوب الأحمر. هذا العالم الذي يحضر للمرة الأولى في الرواية المصرية، يبدو جزءا من مسكوت عنه واسع بمعنى ما. يدعم خصوصيته أن الوعي الكامن خلفه هو وعي شخصية ثلاثينية الآن، شهدته كجزء من طفولتها، وازدهر وخبا قبل أن تتجاوز هذه الذات منحنى طفولتها. إنه هنا الموقف العام، ليس للمؤلفة أوالسارد، بل للمؤلف الضمني  ــ وفق أدبيات السرد ــ ذلك الضمير الأشمل لكل عمل روائي، والذي يستحيل القبض عليه متجسداً رغم ذلك. ارتفعت البيوت بينما انخفض سطح الأرض بعد تجريفه. يالها من مفارقة!. هذا الانتقال سيشكل قطيعة ما مع التماهي بالطبيعة الذي أسلفت إليه، في الجيل التالي.

التصنيع، كأفق، يخلق قيماً نقيضة تماما، في مقدمتها بزوغ  الفردية مقابل انسحاب قيم الانضواء في سياق المجموع. غير أن ذلك، في سياق قرية  مثل تلك الحاضرة في “وراء الفردوس”، يظل جزءاً من مراوحة مربكة. نعم.. ثمة  فردية وسمت حياة من جاءوا في سياق المرحلة الجديدة، وخلقت توحدهم: سلمى، وجميلة، وخالد.. مقابل الجمعية التي اتسمت بها حياة سابقيهم.. حتى أن خالد عندما يشاهد إيذاء اخته سلمى على يد الشيخة في “الكُنَّاب”، لا يحرك ساكنا. الشيخة نفسها لم تكن تعاقب سلمى لسبب ديني في الملبس وحسب، بل لصعقتها القيمية في “فرد” يخالف قيم القطيع. رغم ذلك يظل الارتباك قائماً في سياق بقي نصف مديني نصف ريفي.

إن المكان ــ غير المسمى ــ يبقى إشكالية، كونه يظل ريفا يستعير  قيم التمدن من القرى والمدن المجاورة ، أو يحاول.  لقد دخل قيم التصنيع بشكل فوقي بينما ظل على مستوى  البنية التحتية غارقاً في قيم  الإقطاع. ربما يفسر ذلك سؤالاً لحوحاً: لماذا تم تنكير اسم القرية، بينما تم الإعلان عن أسماء كافة القرى والمراكز والمدن الأخرى المتعالقة بعالمها في الرواية؟.. من سنباط لبلبيس لميت دمسيس  وصولاً لطنطا والقاهرة؟. إن الاسم ــ حسب الرواية ـ هو الكائن نفسه. كائن بلا اسم هو كائن لم يحقق استقلاله في الوجود بعد.

القرية ليست بها مدرسة حتى هذه اللحظة، ولا كهرباء، ولا كنيسة ــ في إشارة لغياب التعددية الدينية ــ ولا أماكن للهو. قيم التصنيع أتت كبنية فوقية ناتئة، لم تنبع من قاع البنية التحتية، فحدث الصدع. نحن أمام شخصيات نصف ريفية نصف متمدنة. لقاء الريف بالمدينة لا يتحقق: مارجو ميشيل  تنفر من عايدة، رغم أنها قبطية مثلها. مصطفى يتزوج من قاهرية برجماتية  تأنف من زيارة البلدة.. حتى عندما يصمم بيتا  ريفياً يفشل في جعله متساوقا مع البيئة التي تضمه، ربما لو كان بيتا في القاهرة ما وقعت المشكلة.

 حتى  الوجود الواقعي في “وراء الفردوس”  يظل مشدوداً بقوة للعالم الأسطوري، المفارق في تفسيره للعالم. لقد خلق التحول إلى التصنيع ميثولوجيات جديدة  بدلاً من أن يزيح القديمة. هكذا ساد الاعتقاد بأنه لابد من قربان بشري لكل مصنع جديد، يكون كبش الفداء فيه أحد العاملين. بهذه الطريقة جرى تفسير ميتة “صابر” البشعة عندما حول ” خلَّاط ” المصنع جسده إلى كتلة من اللحم المفروم. التفسير المنطقي بقى غائباً. حتى ” وابور المياه ” الذي يمنح القرية كلها حياتها ووجودها ” ذُبح له طفل صغير ” حسبما تؤكد ” رحمة “، جدة سلمى. ثمة إصرار على تحويل كل ما هو “وضعي” لـ” طبيعي “. تلك المؤاخاة، فقط، هي التي تسمح باستقباله، غير أنه يظل جسداً ناتئاً.. ويجب ألا ننسى أن التصنيع هنا جاء على حساب الوجود الطبيعي للأرض تحديداً.. وكأن القربان لابد من وجوده تكفيرا عن ذنب الانبتات عن الوجود الأصلي.

يبدو سؤال “العائلة” في القلب من ذلك العالم، جوهرياً في “وراء الفردوس”.. مثلما كان في “متاهة مريم ” وإن بتشكل آخر. الرواية تقدم محاولة عميقة لقراءة تاريخ عائلي. تقارب العائلة كقبيلة، ككيان قوي، كتمثيل رمزي للسلطة في شكلها العميق القار، وليس “الأسرة” في معناها المديني الضيق والهش. تبدوالعائلة أقوى بكثير من حقيقتها بفعل وجودها الرمزي وتمثلها الغرائبي في بعض حناياه. الجد الغائب ــ في متاهة مريم ووراء الفردوس ــ  يبدو ذلك الإله غير المرئي، الحاضر طوال الوقت دون تمثل جسدي مرئي. بانتقال  العائلة من قيم الإقطاع إلى قيم التصنيع، يتفتت البيت، مركز السلطة الأحادي، إلى عدة بيوت. تتفتت الأحادية الأبوية الألوهية  إلى تعددية أبوية بشرية، لها بؤر، يحتل كل واحد في الأخوة الثلاثة الذكور: سميح، وجابر، ورشيد، واحدة منها.

لنلاحظ أن الرواية تقدم ” سلمى ” في أول سطر باسمها الثنائي: ” سلمى رشيد “، وهي تقنية لم نتعودها في تقديم الشخصية الروائية، التي غالباً ما تبدأ وجودها باسمها المفرد. هذا تأكيد أولي على أن “الفرد” هنا ليس كل شيء، حتى لو حارب للحصول على فرديته تلك، ورغم كل التحولات السابقة التي حققت له قدراً من الانزياح عن الجماعة.

لنلاحظ أيضاً أن  عالم العائلة دائما يستعاد عبر وعي أحدث، وتلعب الشفاهية التي تنقل سيرته من جيل لجيل دور البطولة. عالم من التكهنات بحقيقته، تستعيده الذاكرة، محرفاً بالضرورة وغير مكتمل. هو هنا أيضا عالم ما قبل الكتابة، حتى أن ما يتركه الجد مكتوباً ضمن أوراقه، نكتشف أنها رموز تستعصي على الفهم. سميح ــ أكبر الأبناء ــ يتعلم القراءة خصيصاً ليتمكن من فهم ما كتبه الأب، غير أنه يفشل في النهاية. رغم ذلك يبدو قدر الكتابة محكوماً بالفشل، بدليل رواية ” سلمى ” التي لا تكتمل أبداً. الشفاهية تتيح التحريف، وإخفاء العورات، وتضخيم مناطق القوة. تتيح تاريخاً أقرب للمقدس، أكثر تماسكاً ونصوعاً من تحققه، أما الكتابة فلا.

في هذا السياق يجيء الحضور اللافت لعالم الحكايات الشعبية، الشفاهية، والقابلة للتحريف أيضاً حسب المغزي الذي يقصده منتجها.  إن الحكاية الشعبية ــ كخطاب ــ تتواشج مع عالم الرواية وتعمقه. الحكاية الشعبية من أقرب الأشياء التي تقرب الماثل من الخفي في المخيلة الجمعية، بل  إنها تغدوــ عند مجتمعات ما ــ أقرب للنصوص المقدسة. هي  تتحقق وفق منطق “المعقولية” وليس “المصداقية”. في الحكاية الشعبية ثمة أشياء ملائمة تماما لسياق رواية مثل وراء الفردوس: انها نتاج الوعي الجمعي القابل للتحريف حسب كل راوي، وحسب موقعه الايديولوجي أو يقينه. هي على جانب آخر توائم السياقات غير المدينية أكثر، وتؤاخي بين الموجودات من طبيعة وأشياء وبشر. هذا نفسه عالم “وراء الفردوس”. الكتابة تعارض الحكاية، عندما تحكي ثريا حكاية “كمونة” لسلمى، مبتورة، وتكملها المؤلفة في هامش.. تكملها في الحاضر بفعل الكتابة بعد أن عاشت في الماضي على هذا النحو شفاهة. إنها  الكتابة التي تكمل ماضي سلمى الشفاهي، أو تصححه وتضبطه إن شئنا الدقة، مثلما تحاول هي نفسها أن تفعل.  بل إن المؤلفة ذاتها أعادت كتابة الحكاية “بتصرف” ومن الذاكرة، كما تشير في هامش آخر.. كانها بدورها تكتب الحكاية التي تخصها في سياق خدمة السرد، وفق وجهة نظرها.. وكأنها محض محاولة من ضمن محاولات كثيرة محتملة.

تتحقق شخوص “وراء الفردوس” في ضوء غرائبي، غير أنه نابع بالأساس من داخلها. كل شخصية تحمل شذوذها الخاص، عنفها الكامن، وتناقضاتها الفادحة.على جانب آخر تحضر العلاقات المتشابكة بين الشخوص، مبنية في معمار شديد الإحكام.

   إن سلمى تتحقق روائياً في ظل  تناقض جوهري. هى “من ذلك النوع  من الناس المؤمنين بأن كل فعل إنساني لابد له من مبرر منطقي. لم تتعلم أن المبررات الحقيقية من الصعب الإمساك بها، حتى بالنسبة لصاحب الفعل نفسه “. هكذا يجري توصيفها بدقة صفحة 122، رغم أنها “عادت إلى بيت أبيها مدفوعة بحلم !”، مثلما نعرف مبكراً جداً، صفحة 10.

عالم سلمى الواقعي تديره في الحقيقة أحلامها العنيفة، بينما عالمها المتخيل ــ المتمثل في كتابة رواية ــ لا يتحقق لأنها تبحث عن مبررات منطقية له!.المفارقة فادحة في تلك الشخصية الروائية. إنها تقرأ الواقع بالوهم، وتطمح في قراءة الوهم بمبررات الواقع وشروطه. إنه فصام ما. فصام تعانيه سلمى أيضاً في علاقتها بنفسها، باعتبارها ” جميلة ” بالأساس.. جميلة التي سطت على اسمها الأصلي الذي كانت العائلة تنوى منحه لسلمى، قبل أن يجردها أبوها منه ببساطة بناء على طلب موظفة السجل المدنى. ” جميلة صابر اللعنة التي سوف تسكنها من الآن إلى مالا نهاية ، أناها الأخرى التي انفصلت عنها، وقطعت علاقتها بها من دون ذرة تردد “. بشرى ــ أم جميلة ــ قبلت باسم “جميلة ” بعد أن استخدمه أسيادها، ببساطة، رغم أنها رفضت بعد ذلك استخدام ملابس سلمى المستخدمة لجسد ابنتها.   إنها مفارقة أخرى.

 سلمى تتصل بالعالم عبر أحلامها، حتى أنها بعد موت أبيها “اعتادت أن تتواصل معه عبر الأحلام“.

نظلة.. شخصية أخرى وثيقة الصلة بعالم الأحلام. إنها “المفسرة”، القادرة على كشف مغاليق أعتى الأحلام.. رغم ذلك ــ أوربما بسببه ــ تخفق في الواقع. تخرج من زيجة سريعة بجسد غير مخدوش. كان لابد ــ بشكل ما ــ أن تظل نظلة عذراء، مخلصة لعالم الأحلام وليس الواقع، لتظل قادرة على الاحتفاظ بموهبتها.

 سميح، بلا نسل. هل لذلك علاقة بمغادرته مبكراً لـ”البيت الكبير” واستقلاله بحياته؟ هل لأنه أدرك أنه بلا امتداد، وبالتالي ليس بحاجة للانضواء تحت كيان البيت أوالعائلة؟ لأنه أيقن أن حياته ستنتهي بموته؟ وأي اتساق مدهش بين افتقاده للامتداد، بموازاة افتقاده  للنسب المكتمل للأسرة؟ ذلك أنه ليس ابن “رحمة”، ليس أخاً شقيقاً لجابر ورشيد.

سميح يولع فجأة بتعلم القراءة والكتابة، ليتمكن من فك شفرات أوراق أبيه، التي شعر أنها رسالة مجهولة تخصه وحده.. بينما يترك رشيد “العلام” طواعية رغم نبوغه، مفضلاً الإنصات لنزقه.

بعد سنوات طويلة، ستفعل “هيام” ابنة رشيد الكبرى الشيء نفسه، ستترك الدراسة طواعية لتتزوج. ستكرر نزقه، لكن في اتجاه آخر.

 لنقترب من العلاقة المرسومة بدقة بين بشرى وابنتها، في علاقتيهما بجابر وابنه هشام في سيميترية متقنة: بشرى تمارس الجنس المحرم مع جابر مرة واحدة، لأنها ظنته شبحا.. بينما فعلت جميلة الشيء نفسه مع هشام لأنها أحبته. جابر وابنه يضاجعان بشرى وابنتها. في علاقة مبنية بهندسية فائقة، لكن شتان. بشرى تقبل بالزواج دون أن تسأل عن الحب، رغم أنها لا تخشى الفضيحة مثلا، وليست ثمة إشارة لتطلعها الطبقى مثلاً.. بينما ترفضه جميلة ــ التي فقدت عذريتها، ما يجعل موقفها أصعب، والمتطلعة في الوقت ذاته ــ  عندما تكتشف أن هشام لم يحبها. إنه التجلي المرسوم بعناية للمفارقة بين جيلين.

هناك حضور من نوع مختلف للشخصيات الغائبة، بفعل الموت أو الاختفاء، والتي تجمعها مشتركات جوهرية تبدومتعدية للاختلافات بينها.

بدر الهبلة” شخصية ملفتة رغم حضورها الثانوي. تظهر وتختفي سريعاً. إنها صوت الجنون في هذا العالم، مرادف آخر للعالم الباطني، ولذلك هي مرادف آخر لـ”سلمي”. هذا ما يجعل من المتساوق تماماً أن تنتهي الرواية بسلمى وهي تردد اسمها في غيبوبتها ــ بعد أن تعرضت لحادث سيارة ــ وأن “تنصت لصوت ارتطام جنزير قديم يكبل ساق بدر بدرجات سلم بيت العائلة وهي تصعده زاحفة”.هذا الجنزير هو الذي كانت تجيء به بدر ــ التي يحبسها أبوها ويقيد جسدها في سرير  ــ ليحررها منه جابر في بيت العائلة. تستدعيه سلمى في نهاية الرواية، التي بدأت بها وهي  تنزل درجات سلم آخر، وتنتهي بها وهي تحاول التحرر من جنزير ما يعوق “صعودها” بالمعنى الرمزي لفكرتي التحقق والانعتاق. بدر أيضا كانت الوحيدة القادرة على معاملة “جابر” ــ العملي البراجماتي ــ ببساطة وإباحية، ليرد عليها ضاحكاً بنفس الطريقة.

الثاني هو “كرم” ، ابن “عوف” الصياد، الذي اختفى أيضاً مبكراً ــ لكن بفعل الموت غرقاً ــ.. وتكون “بدر ” هي الموجودة لحظة البحث عن جسده عقب غرقه بلحظات، كأنما تضلل الناس عن جسده، كتوطئة لاختفائها هي القادم!.

ثم هناك  “لولا”.. التي اختفت أيضا ــ بفعل الانتحار ــ بعد أن حملت سفاحاً.

إن حضور الشخصيات الغائبة يبدو فادحاً في هذه الرواية، وكلها شاذة عن سياقاتها، جميعها حالمة بمنطق ما: جنون بدر في عالم يفترض أنه عاقل، إصرار كرم على مواصلة تعليمه في سياق أسرة لا تقرأ ولا تكتب، إقامة لولا لعلاقة خارجة عن الأخلاق بالمنطق الاتفاقي. من يختلف، يُعاقب، يغيب.

جابر كان ذكياً عندما حول ولعه بـ”بشرى” لعلاقة اتفاقية، حتى وإن ضحى بزوجته الأولى “حكمت”، لذا ازدهرت أعماله. عاش طويلاً بينما مات “رشيد”، المختلف، الحالم بطريقته.

كذلك “رزق ” القبطي  ــ الحرِّيق في مصنع الطوب ــ نجا عندما  قرر في لحظة أن يعود لموطنه في الصعيد، ليبحث عن زوج لابنته عايدة في بلدته. فرديته كـ”قبطي” جعلت منه شخصاً يعاقب  لاختلافه هو وأسرته طوال الوقت، وعودته للقطيع سيشكل له النجاة.

نجت “ثريا”  أيضاً من مصير اختها بالزواج الفوري، مثلما نجا أخوها مصطفى بالزواج من قاهرية.

توازيات وتعارضات عديدة تلتم عبرها علائق الشخصيات الروائية وخطاباتها، لتخلق في كل اختبار علاقة جديدة، ووجهاً قابلاً للتأويل.

   على جانب آخر، هناك تقنية حاضرة في تقديم الشخصيات في مواضع بعينها، تجعلها تبدو كما لو كانت تقدم للمرة الأولى روائياً. يؤكد الراوي  على تلك التقنية في غير موضع . التجهيل لما هومعلوم سلفاً يحيل لتأويل ملائم: أن الشخصيات في “وراء الفردوس” بحاجة طوال الوقت لأن تُعرَّف من جديد: “ينبعث ـ من وقت لآخر ـ اسم صابر في ذهن امرأة شابة تدعى جميلة” ص 38..”بعد ما يقرب من ربع قرن ستسير امرأة شابة في الأماكن والطرقات نفسها….. ستتذكر امرأة شابة متسربلة بملابس سوداء، تسحب بيدها الخشنة طفلة صغيرة…. تدمع عينا المرأة الأنيقة التي صارتها جميلة ” “ص 51.” لن تخبره أي شيء عن امرأة تدعى بشرى “ص  52.” تقود نظلة الضيوف بهدوء للداخل كي يجلسوا في الصالون بعيدا عن المرأة غريبة الأطوار التي صارتها سلمى ” ص73. تحضر هذه التقنية كأنما لتذكر مرة بعد أخرى أن ثمة لا اتفاق نهائي فيما يخص ما تم تدشينه سلفاً فيما يخص الشخوص، خاصة “سلمى” و”جميلة”، اللتين تبدو الذاكرة بالنسبة لهما محركاً أصيلاً في التعامل مع الحاضر.

جميلة تقدمت للأمام في الزمن، كأنما لتعود من حيث بدأت. انها تحضر دراسة عن الموالد القبطية، التي ارتبطت في ذكراها برحلتها مع أمها لبيع الجبن والبيض في الأسواق المصاحبة لهذه الموالد بالذات. كذلك تتقدم سلمى للأمام، مبتعدة بكل ما أوتيت من قوة عن البيت، لتعود إليه في النهاية، ولتكتب حياتها فيه تحديداً: “ذلك البيت الذي حاربت طويلاً كي تخرج منه مستقلة بحياتها، لكنها عادت بالفعل في النهاية، ورغم هذا ما يزال يطاردها في الأحلام“.

في سياق ذلك، لا يُغفَل الجانب الطبقى أو المرجعية الاجتماعية للشخصيات، لكن ثمة انزياح عن رسم الشخصية وفق مرجعيتها التي من هذا النوع، والتي تجعلها محض ترجمة هشة ــ في ظني ــ لسياقها العام. ثمة موقف هنا من الشخصية الروائية، كامتداد للشخصية الإنسانية:  ما يحرك الشخصيات سؤال الوجود ــ حتى لدى الشخصيات البسيطة ثقافياً ــ وليس مشاكل مباشرة تخص الوضعية الاجتماعية مثلاً. وراء الفردوس تنجو من فخ اختصار الشخصية الروائية في مقولة أو تفسيرها وفق قانون حتمي.

المدى  الزمني  بين مشهدي الافتتاح والختام ــ اللذين تحتلهما سلمى ــ ربما لا يتسع في ذاته لسرد حيوات ممتدة، رغم ذلك يترى في محدوديته الزمن الأسع، الذي يبدأ قبل مجيء سلمى نفسها بعدة أجيال.

زمن “وراء الفردوس” متسع جداً، يستوعب حقباً عديدة مختلفة، وممتدة.. تشتبك معها الرواية بآليات عديدة، منها الاسترجاع الواضح “الفلاش باك” و”الكولاج” الذي يؤاخي أحياناً بين أكثر من زمن في مشهد سردي واحد.

يتحقق استحضار  الزمن عبر آليات عديدة ــ كما عند “بروست” في البحث عن الزمن المفقود ــ من خلال أشياء، أو روائح، أو حكايات قديمة تلقى شذراً.

دائما ما يتحقق الماضي المفارق عبر لحظة حاضرة ماثلة، يبدأ بها الفصل، أو المشهد،  لتبدأ معها عملية  الاسترجاع الزمني.. إن يوم الجمعة، الذي تعتبره رحمة يوم شوم ــ في الفصل الثالث من الرواية ــ يستدعى شبيهه الذي مات فيه كرم، ويستدعي معه عالما كاملا من حياة سلمى الطفلة وأقرانها، وعددا من الشخوص التي تظهر للمرة الأولى مثل “بدر الهبلة” وأبوها الحاج ابراهيم. كذلك يستدعي تملي شجرة البونسيانا في الفصل الخامس  حضور الجد عثمان والجدة رحمة ليتم استعراض تاريخهما كله. وعربة النقل المهملة في الفصل السابع تستدعي قدرا كبيرة من حياة العم سميح، كذلك المطعم النيلي في الفصل الأخير الذي تستدعي عبره سلمى مشهداً مختلفاً من تاريخها  الأسري، في نزهة. إنه الحضور الذي يستدعي الغياب، وينتهي باستحضاره ليصير وجوده أكثر حضوراً وكثافة من الماثل نفسه.

إن مشاهد وأحداث   “وراء الفردوس” تبدو مثل مزق التمت على مهل، وبدقة، بما يجعل من كل قطعة فيها كيانا لا يمكن الاستغناء عنه في سياق الحبكة الكلية  المرسومة بعناية، وبما يزيح الزائد عن الحاجة في إطار الحكاية مهما كانت أهميته في ذاته. ليست هناك قطعة مكتملة، فكل منها  تحمل من الثقوب والفجوات قدر ما تحمل من المناطق المتماسكة والمرتقة. غير أنها معاً تشكل اللبنات والمشاهد الجوهرية والمحورية في النص.  إنه عالم التأمت بقاياه بدأب، لتنتج صورة مشدودة بعيداً عن أصلها الذي قد يكون عامراً بالترهلات. ثمة العديد من القفزات الزمنية، ووقائع يسبق وجودها في زمن السرد وقائع وأحداثاً أخرى رغم أنها تالية لها في التعاقب الواقعي المفترض.الرواية لم تلتزم التتالي الخطي، استبعدت الزمن في أفقيته، خالقةً فلسفة أخرى للتجاور بين العلاقات. العلاقات هنا مكانية ــ بالمعنى الشعري ــ الذي يعيد تشكيل الدلالة وفق قانون العلاقات بين الأحداث والشخصيات، من توازيات وتقابلات وتعارضات، وليس وفق قانون التصاعد الزمني. هذه الخلخلة الزمنية للتماسك الأصلي للحكاية، ولبنيتها الكرونولوجية التعاقبية  تعيدنا لسؤال السارد أوالراوي.كان يمكن للسارد أن يكتفي بمشهد البداية ـ الحاضر ـ ليشتغل على الاسترجاع مرة واحدة ، خاصة وأنه يملك الصلاحيات التي تؤهله لذلك.. غير أنه فضل “محاكاة” الوعي المركزي في الرواية ــ وعي سلمي ــ كأنه يتحرك عبره، يحاكيه لكن بحرفية أكبر، ممارساً سلطته في قراءته والاشتغال عليه بفنية. ثمة ” إطار ” ، حكاية كبرى، تتخلق عبرها حكايات أصغر. سلمى تكتب كي لا تموت ــ في تناص ما مع ألف ليلة وليلة ــ وقبل تعرضها للحادث الذي كاد يودي بحياتها، مباشرة، تمنح ما كتبت ل”جميلة “.. كأنها القاريء الوحيد الذي تطمح في أن يطلع على ما فعلت.

انتهت رواية سلمى عند “جميلة”. لم تدفع بها لناشر. لم تقرأها لطبيبتها النفسية التي اقترحت عليها فكرة الكتابة برمتها. لم تفكر في إرسالها لزوجها “ظيا” الذي فارقها، وربما كان أحوج لقراءة ما يفسر له إحباطه حيال علاقته بها. ذهبت لقارئة وحيدة، كأنها كتبت من أجلها فقط.

إنه فضاء عامر بالأسئلة، يتحقق في نهاية “وراء الفردوس”. أسلمت سلمى ما كتبت لمستحقه، قبل أن تتعرض لحادث كان يمكن أن يودي بحياتها. كأن روايتها  تحولت لـ”وصية” ما. كأن اكتمال الكتابة جعل الموت قريباً، وكأن الحياة  ــ كشفاهة ــ ماتت  بتحققها الموازي كحياة مكتوبة.

 

عودة إلى الملف

 

 

مقالات من نفس القسم