وداعا أيتها السماء

وداعا أيتها السماء
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

قراءة: محمد عبد النبي

أظن أن أهم ما يميز رواية حامد عبد الصمد الأولى وداعا أيتها السماء، والصادرة قبل أعوام قليلة عن دار نشر ميريت، أنها تحكى حكاية لها رأس وذيل، حكاية بسيطة يمكن أن تحدث للكثيرين، غير أن صاحبها وبطلها وراويها يضفى عليها أهمية خاصة نابعة من صراعه الشخصى مع حكايته.

 

فى الجزء الأخير من ثلاثية نيويورك، يطرح الروائى الأمريكى الشهير بول أوستر، ذلك السؤال القديم والجديد معا، هل لحياة أى إنسان معنى ما؟ وإجابة الراوى، فى قصة الغرفة المغلقة لأوستر، هى لا، بكل تأكيد، وأدلته وبراهينه واستشهاداته جاهزة ومقنعة فى الحقيقة. ولو أعدنا السؤال الذى صاغه أوستر، بعد قراءة رواية حامد عبد الصمد، لقلنا هل ثمة معنى خفى وراء تلك الفصول التى تسرد علينا حياة شاب مصرى منذ طفولته فى الريف وحتى انهياره نفسيا وعصبيا فى ألمانيا؟ والجواب أيضا، بغض النظر عن أوستر، هو النفى.

تنقسم الحكاية الكبيرة فى رواية وداعا أيتها السماء إلى 26 فصلا أو حكاية صغيرة لها عنوان فرعى خاص بها، فى كل فصل نتعرف على مرحلة مختلفة من مراحل حياة بطلنا وراوينا شاكر عبد المتعال، الذى لا يكاد يختلف فى كثير أو قليل عن البطل الروائى المثقف المأزوم، وواسع الانتشار فى الرواية العربية، ممن يمكن أن نطلق عليهم أبناء كمال عبد الجواد، بضمير مستريح. تتناوب عليه الصراعات بين الأضداد، كما هو متوقع تماما، وهنا ستظهر كل ترسانة الأضداد والمتناقضات التى كرست حياتها لخدمة البشر منذ الأزل، بداية من الله والشيطان دون الانتهاء بمعسكر الماركسيين فى مقابل معسكر الإخوان. وبين كل تلك المعسكرات والمواقع يتنقل بطلنا بخفة يحسد عليها، لا يتورط تورطا تاما فى قضية أو حزب أو جماعة، لا يتورط –إلا قرب نهاية الرواية – فى علاقة إنسانية واحدة قادرة على احتوائه، بحيث يمكنه أن يخلص لها. وجاء عدم تورط الراوى سببا أو نتيجة لعدم تورط المؤلف نفسه فى عوالمه، فنراه يمر مرور الكرام على لحظات وحالات تستحق التوقف لديها والعمل عليها، من قبيل فترات إقامة الراوى بالمستشفيات النفسية فى ألمانيا والشخصيات التى رافقها هناك، والتى اكتفى بتقديمها فى بطاقات تعريف عملية وسريعة وخفيفة الدم، لم يضطر القارئ لاستخدامها لأن هذه الشخصيات لم تكد تظهر فيما بعد.

طوال الرواية نحن نتفرج على فيلم من الخارج، قد يكون فيلما ممتعا ومشوقا، لكن من غير المسموح لنا أن نقترب من الشاشة وأن نتماهى بأبطاله، أو نتفاعل معهم على أى نحو، لأن الوسيط أراد لنا ذلك من الأساس. ولولا طرافة الكثير من الحكايات الصغيرة المتناثرة فى الرواية، والتى تنبع قوتها من عفويتها وبساطتها والمصداقية الكبيرة التى تعتمد عليها، لولا هذا لوقع العمل كله فى فخ التقريرية والمباشرة، ويكفى أن نشير هنا إلى بعض الصفحات التى خصصها المؤلف (مستعينا بقناع الراوى) للحديث عن اليابان وكأننا إزاء كتاب فى أدب رحلات، أو دراسة اجتماعية، دون أن يكون لهذا كله صلة عضوية حقيقية بالحكاية أو بروايها، ناهيك عن التعليقات الإخبارية التى خص بها مصر من وقت إلى آخر.

كيف يمكن ألا نستشعر أوجاع أزمة وجودية بحجم الأزمة التى عرضها شاكر عبد المتعال، الراوى، على الرغم من أنها مقدمة كأحد هموم الرواية الأولى، بل واختص العنوان نفسه بطرحها؟ لأننا نتعامل مع هذه الأزمة من الخارج، بلغة تقريرية أغلب النص، ولأن الأزمة نفسها لا تتجاوز العناوين الكبيرة التى ستظل تولد نفسها بنفسها لما لا نهاية. لكن تلك اللغة التقريرية والعناوين الكبيرة لا يعود لهما أهمية عندما تتسرب، بإرادتها أو رغما عنها، إلى الحكايات الصغيرة، التى تهب لنجدة الرواية بين الحين والآخر، وتزيح جانبا، وكأنما بجرة قلم، الكلمات الكبيرة والمعضلات الإنسانية، من قبيل حكاية العجوز الذى كان يقف بطابور أمام سفارة ألمانيا ليحجز مكانا لشخص آخر مقابل خمسة جنيهات، أوحكاية دفن ثمرة البرتقال فى الرمال وأكل قشرتها بناء على أوامر أمير الجماعة،  أو ضياعه التام فى أسطنبول بعد سرقة حقيبته بأحد المساجد. كل هذه الأمثلة تشهد بأن الرواية تحتشد بعالم خاص للغاية، وتجارب حية صادقة وإنسانية للغاية.

وبالمقابل، تجارب أخرى أكدت عليها الرواية وبذلت غاية جهدها لتضعها تحت بؤرة الضوء، مثل حادثتى اغتصاب الراوى طفلا من قبل الأكبر منه سنا، أو الختان، ودائرة العنف التى تدور فيها مجتمعاتنا، فقد جاءت، على صراحتها التى تحمد لها، أقرب إلى دق ناقوس الخطر، وهو دور أظن أن الأدب قادر على تجاوزه على الدوام، أى قادر على استيعابه بداخله دون الوقوف عنده أو الاكتفاء به. لهذا ولأسباب أخرى كان البعد الاجتماعى هو المهيمن على نبرة السرد فى الرواية، وجاء الراوى، وهو الشخصية الوحيدة التى يمكن أن نتابع معها تطورا من نوع ما على مدار العمل كله، مغيبا نفسيا، لا يمكن الوقوف على سمات واضحة له، وأقرب إلى سلة كبيرة يمكن ملأها بكل شئ من أول حفظ القرآن وتقديس الأب، ومرورا بالانغماس فى الملذات والفواحش بتعبير النص، إلى البحث عن ملاذ روحى لدى حكمة الشرق القديم.

من الصعب أن نقول إن الرواية تعد إضافة لمسألة العلاقة بالآخر أو بالغرب تحديدا، لأن هذا الشأن تحديدا لم يتجاوز الأفكار شديدة العمومية، بقدر ما أضافت حكاية أخرى، وهى حكاية ممتعة وصادقة، إلى حكايات أخرى، كتبت أو لم تكتب، فى هذا الإطار. لكن السؤال الذى يعيد طرح نفسه علينا بين الحين والآخر: ألابد أن نضحى بالبساطة الآسرة، التى استعان بها حامد عبد الصمد فى روايته الأولى، حتى يمكننا أن نمعن النظر فى معضلات الوجود الإنسانى؟ والجواب، هنا أيضا بالنفى، وهو موجود بداخل أعمال نجيب محفوظ ويحى حقى وبهاء طاهر، وكثيرين غيرهم.

مقالات من نفس القسم