هيام عبد الهادي تقف على “البحيرة وسنينها”

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 27
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

د.مصطفى الضبع

هيام عبد الهادي صالح، كاتبة مصرية، من مواليد أسوان، تخرجت في كلية الطب البيطري جامعة أسيوط، صدر لها ثمانية أعمال سردية، ثلاث مجموعات قصصية:

  • عيناه ترحل بعيدا للقمر 1999.
  • وللحبل أغان أخرى، متتالية قصصية
  • همسات امرأة مختلفة – مركز الحضارة العربية – القاهرة 2009.

ولها خمس روايات:

  • زهر الحناء 2004.
  • أنت وحدك السماء – مركز الحضارة العربية – القاهرة 2005.
  • بلون الخوف أحيانا..بلون الموت أحيانا – مركز الحضارة العربية – القاهرة 2007.
  • شارع تحتمس مركز الحضارة العربية – القاهرة 2011.
  • البحيرة وسنينها – دار الأدهم – القاهرة 2013.

تنتمي تجربتها للألفية الثالثة مستلهمة مكانا غير مأهول سرديا وهو ما يتأكد من روايتها الأخيرة  التي تلقي من خلالها حجرا في المياه الراكدة على حد تعبيرها في إهدائها روايتها لصيادي بحيرة ناصر منطقة عمل الرواية ومصدر إلهام كاتبتها، والركود هنا مصدره بقاء البحيرة سنوات بعيدا عن أقلام كتاب السرد رغم أن محمد خليل قاسم لفت الأنظار إلى ثراء المكان  حين كتب روايته الخالدة “الشمندورة ” (نشرت بالقاهرة 1968) وجاء كتاب النوبة من بعده لاستكمال مسيرة خط الرواية النوبية التي كان النيل وكانت منطقة جنوبي البحيرة (شمالي السودان)  أساسا في تشكيل عالمها وظل عالم البحيرة بعيدا عن وعي كتاب السرد عبر عشرات السنين.

تستهل الكاتبة روايتها بالبحث عن الإنسان، إنسان البحيرة بوصفه محرك عالمها ومنتج حكايتها:” فتحت عيني.. هل أنا ميت ؟ سمعت أصواتا…يبدو أنني مازلت حيا !! أرى رجلا يقترب ويهزني.. سألته: أين أنا ؟ ابتسم وقال: أنت على البر في بحيرة ناصر” (ص 5 من الرواية )، والبداية هنا تطرح عددا من العناصر الأساسية في تشكيل عالم الرواية بكاملها: الإنسان – المكان – فعل الاستكشاف داخل النص ممثلا في استكشاف القادم للمكان أحداثا وقعت لمن كانوا فيه، ثم الاستكشاف خارج النص ممثلا في استكشاف القارئ للدوائر المتداخلة، دائرة أولى يمثلها عالم الرواية، دائرة ثانية يمثلها  عالم البحيرة، دائرة ثالثة يمثلها المكان بوصفه شريحة اجتماعية للوطن / مصر.

بحيرة ناصر ليست مجرد مكان وإنما هي تاريخ لا ينفصل عن تاريخ الوطن (بدأ تكونها عام 1958) والكاتبة حين تقارب المكان فإنها تجعل هذا التاريخ في الخلفية لتستكشف تاريخا موازيا هو تاريخ الإنسان وحكاياته ورحلة أبناء الوطن في بقعة شديدة الثراء بتشكيلها البشري، حيث تضم البحيرة تمثيلا بشريا لكل محافظات مصر ممن يعملون في صيد الأسماك، وهو ما جعل الكاتبة تتجه رأسا إلى جماليات الإنسان قبل جماليات المكان معتمدة أسلوب الحكايات المنفصلة المتصلة في إحكام سردي يشبه أمواج النيل الهادئة ودوائر المياه العذبة.

تنسج هيام عبد الهادي نصها من مجموعة الحكايات البكر المكنونة في صدور الجماعة البشرية من الصيادين الذين يمثلون إنسان البحيرة الذي لا يغادرها: ” قلت: نحن أربعة صيادين نجتمع في المواسم والأعياد لا نسافر.. لا نغادر أماكننا ولا نترك بحيرة ناصر في العيد الصغير أو الكبير ولا في رمضان ولا في مولد النبي ولا في غيره، لكل أسبابه التي قد لا يحكيها للآخرين مثل ” الهجام ” وقد يحكيها مثل ” سامح ” و” الخواف ” وأنا، سامح جامعي شاعر وحساس ويذوب عشقا في عائلته ” (ص 10 من الرواية )، وهو ما يشي بسمات إنسانية تضع مجموعة الصيادين في موضع المواطنين العاديين التاركين مواطنهم الحميمية إلى مواطن الرزق، ناقلين مركز حياتهم إلى البحيرة بوصفها المقابل اللين للواقع في قسوته، وهو ما يجعل من البحيرة بوصفها مكانا يجمع يطرح جماليات التضاد بين الصحراء والماء، فإذا رصدنا الأمكنة الأساسية في الرواية وجدناها ثلاثة:

  • مكان المولد في الخلفية بكل ما يحمل من قسوة العيش ومشكلات الصراع الإنساني ويمثل بؤرة لحكايات الماضي بوصفه قاسما مشتركا للسرد تنتجه الشخصيات كان الساردة تمنح الفرصة لشخوصها أن يطرحوا منتجهم الخاص من الحكايات فيما يمكن تسميته بديمقراطية السرد (تماما كما فعلت شهرزاد حين منحت السندباد فرصة أن يحكي حكاياته ويطرح سفراته بوصفها تجربته غير المرئية من الآخرين والتي يختص هو بخبراتها ) ولم تمنح الساردة نفسها الحق في السطو على هذه الحكايات أو مزاحمته في تقديمها وهو ما منحها قدرا كبيرا من المصداقية.
  • الصحراء على ضفاف البحيرة بما تحمله من تشابه الصراع في المكان الأول، وبما تطرحه من بكارة المكان التي لا تتجلى إلا بالحضور الإنساني حين يمنح المكان قدرا كبيرا من فاعليته وحين يعيد تجربة الإنسان الأول حين نزل على الأرض وكان عليه الوقوف على أسرارها إدراكا لمتطلبات حياته فيها.
  • البحيرة بوصفها مساحة من الماء تضم قدرا من الرزق المتطلب نوعا مغايرا من صراع الإنسان مع الرزق ذلك الحافز للانتقال بين الأمكنة وتحمل قسوتها، والبحيرة هنا شريان يتحرك عكس حركة الإنسان في انتقاله من الشمال للجنوب لتكون بمثابة الرزق المتحرك الذي يمنح صاحبه فرصة اقتناصه وإلا فإنه سيسيح في الأرض مضيعا فرصة وجود.

وما بين دائرتين متداخلتين: الصحراء والبحيرة يتحرك الأشخاص حركتهم المادية، وما بين عالم البحيرة وعالم الحياة الطاردة السابقة يتحرك هؤلاء حركة ذهنية عن طريق الفلاش باك في إسهامه لتشكيل المشهد السردي في الرواية، ذلك المشهد شديد العمق في دلالته.

المشهد السردي هنا ينقسم إلى أو يضم مشهدين متداخلين: مشهد ذكوري في المقدمة يرصد حركة الحياة في خشونتها، ومشهد أنثوي في الخلفية عبر استرجاع الحكايات الراصدة الحياة الأسرية حيث الرجال والنساء يمثلون عصب الحياة أولا والحكايات ثانيا.

البحيرة بوصفها تاريخا يمثل مساحة استقطاب جنوبي ينافس مساحات الاستقطاب الشمالي، ففي الوقت الذي كانت فيه القاهرة والإسكندرية ومنطقة القناة مقصد أبناء الجنوب الباحثين عن الرزق، مثلت البحيرة مساحة استقطاب منافس طلبا للرزق.

كأن الكاتبة كانت تؤهل نفسها سابقا لكتابة عملها الأكثر نضجا في سياق تجربتها، إذ تمثل الرواية تجربة أكثر نضجا حتى أن المتابع لتجربة الكاتبة يداخله شعور قوي أن الكاتبة في أعمالها السابقة – على أهميتها – تمثل مرحلة مؤهلة للوصول إلى نص بهذا الثراء وهو ما يحسب للكاتبة، بداية من وقوفها عند البحيرة مكانا واعتمادها طرائق متنوعة في السرد تجمع بين نظام الفواصل السردية المتصلة المنفصلة، وتعدد الأصوات السردية، والإبحار بين الواقع والحلم، وبين الماضي بوصفه تراثا والحاضر بوصفه ثقافة خاصة بالمكان والأشخاص.

لا تعتمد الرواية طريقة الحدث المتنامي أو الخط الدرامي الصاعد وإنما تقوم على عدد من المشاهد المتتالية التي تأخذ طابع المتتالية القصصية أكثر منها الروائية عبر رابطين أساسيين: الشخصيات – المكان، الشخصية ينتظمها نوعان من الأشخاص: الشخصيات ذات الحضور الدائم: سامح – الهجام – يوسف – الخواف، يضاف إليهم مجموعة من الأبطال غير البشريين: التمساح – الذئب – الأسماك –العقارب – الثعابين، وغيرها مما أحسنت الكاتبة توظيفه على المستوى السردي والمستوى المعرفي ثم على المستوى الأنثربولوجي.

تستهل الرواية منطقها السردي باستهلال دال، يكشف أول ما يكشف عن قيام الوعي وتساؤل المعرفة، وتنبه الحواس المؤهلة للنهوض: “فتحت عيني. هل أنا ميت ؟ أسمع أصواتا.. يبدو إنني مازلت حيا، أرى رجلا يقترب ويهزني “، فإذا ما ربط  المتلقي بين الاستهلال وتفاصيل الأجواء الداخلية للنص وجد نفسه في جو يقارب الأجواء الأسطورية لألف ليلة وليلة، غير أنها أسطورة للإنسان وحكاياته التي يفرضها واقعه وتنظمها ظروف الصراع لإثبات الوجود ومجابهة العدم.

كما تصلح هذه الكلمات لتكون استهلالا جامعا لعدد من الخيوط السردية:

  • الوعي (فتحت عيني ) بما يعني الإدراك الذاتي للهوية.
  • السؤال بوصفه علامة وعي يتأرجح بين المعرفة ونقيضها.

الأول يضم عددا من الشخصيات المقيمة بصورة مؤقتة في مكان يرتبط بالرزق بحيث تقوم هوية الشخصيات على مساحة الحركة بين مكان الإقامة المؤقتة ومكان المولد أو النشأة الأولى الذي يتحول إلى مكان يقوم بدور الذاكرة أو هو مكان الذاكرة بالأساس حيث يظل مكانا مرجعيا مشاركا في إنتاج الهوية الشخصية، إضافة إلى كونه قادرا على الكشف عن السمات الأساسية للهوية الجمعية.

تستثمر الكاتبة تجربتها العلمية في الوقوف على حياة أخرى، حياة التماسيح وما شابهها من الحيوانات التي يكون على الأشخاص معايشتها أو تأمين أنفسهم من شرورها:” اللهم لا تمتني منهوشا من فكي تمساح.. لا تجعل جسدي متربعا في أحشائه ورأسي ملقاة على البر لا تبتسم للقمر ” (ص 13 من الرواية )، وتتشارك العناوين الدالة على الحيوانات والدالة على البشر في تناغم يعضد كل ما تطرحه الرواية من مساحات العلاقة الكونية معتمدة أسلوب المثاقفة القائم على الحركة بين المعارف الإنسانية، وهو ما تكشفه تلك العناوين في تواليها: فيما يروى عن الثعابين والحيات – فيما يروى عن الأحلام – لص الأسماك – فيما يروى عن الموت والقبور والمومياوات – فيما يروى عن الجن والعفاريت – سر الخواف – إنه جبان….، وهكذا تنسج الساردة عددا من الخيوط الممتدة عبر الزمان والمكان موظفة معارفها في تشكيل عالم فريد قائم على خبرات أنثوية قادرة على التقاط التفاصيل الأهم في تاريخ المعرفة الإنسانية وتاريخ المكان ممتزجا بتاريخ البشر.

لقد تحولت البحيرة إلى منطقة للحكي شديدة الحيوية في نص يمنح القارئ الكثير من التشويق والمتعة، والكثير من المعرفة بعالم تشعر أنك تعرفه طوال الوقت حتى تقرأ الرواية عندها تشعر أنك لا تعرف عنه سوى الاسم، وأن البحيرة ليست مجرد مكان له خلفيته الاقتصادية وإنما هو مكان له ثراؤه الأعمق وتجاربه الإنسانية الأقوى.

إنها رحلة تجمع بين التاريخ والجغرافيا والإنسان والأسطورة والأنثربولوجيا ترصد مساحات طال كمونها سرديا، يحسب للكاتبة الوقوف عليها كاشفة عن كنوزها المخبوءة في نقطة التماس بين الصحراء والماء (نهر النيل ) والإنسان المصري القادم للجنوب في رحلة معاكسة لرحلة النيل غير أنها رحلة استكشافية للحياة يعيشها أبناء البحيرة وكان للكاتبة أن تعيشها لنعايشها معها بقدر مهارتها على مكاشفتها وبقدر قدراتنا على الإحساس بعالمها الفريد عالم البحيرة مكانا وسنينها زمانا.  

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized
ترقينات نقدية
د. مصطفى الضبع

تناغم (22)