هلوسة

موقع الكتابة الثقافي art 25
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

محمد العربي كرانة

         مالي ولهذه اللوحة اللعينة، كانت جزءا من جدار البهو في طرفه القصي، بأمر من الزوجة التي رفضتها منذ البداية. كم كان سيكون هينا ومريحا وضامنا لرضاها، لو أرجعتها لصاحبها. ولكني لم أفعل.

         شيء ما شدني إليها وجعلني أتشبث بها. ربما ثمنها البخس، أو طبقة الغبار التي تكسوها، أو ميلي لكل ما هو قديم لحد الهوس.

نسيت اللوحة وما صاحبها من جدال، واحتلت مكانها على الحائط في صمت، وأصبحت قطعة من ديكور البيت لا يكاد ينتبه لها أحد من قاطنيه. ثم جاء الحجر… فجأة، واختلت موازين كثيرة في حياتي وأهل البيت، وأصبحتُ عبئا ثقيلا على الزوجة حاولت أن تصرفه بتكليفي ببعض من أعباء البيت، وكان الكنس ونفض الغبار من نصيبي. لم أحتج فقد كانت المهمة أهون من غسل الأواني أو المشاركة في الطبخ.

       أقبلت على مهمتي الجديدة بنشاط من ليس له غيرها، ولكن نشاطي فتر عندما وقفت أمام اللوحة وكأني أكتشفها لأول مرة. مسحت بعض الغبار المتراكم على جنبات الإطار ثم توقفت مشدوها وأنا أحملق في مضمونها. لم أنتبه جيدا فقد كانت آثار ريشة الرسام غالبة على تفاصيلها. تراجعت إلى الوراء قليلا فبدت معالمها أكثر وضوحا. كانت متوسطة الحجم، إطارها من خشب ثمين لا زال يحمل بعضا من زخرفته الأصلية وإن كانت ألوانها شاحبة بفعل القدم وما تعرضت له من إهمال. أسفل اللوحة على الجانب الأيمن توقيع للرسام لم تبق منه غير حروف امحى اغلبها. الواجهة الأمامية تحتلها عربة خشبية محملة بأعلاف وأكياس بينها رؤوس أغنام  منكسة. على الجانب علقت من الأرجل بضع إوزات ودجاجات، وأمام الجميع، ثوران ضخمان يجران العربة، أحدهما باد للعيان بكل تفاصيله والآخر كظل له. أمامهما على الجانب شخص ضخم الجثة  يمشي القهقرى يده اليسرى ممسكة بعنانهما واليمنى تلوح بسوط وجهته ظهر الثورين. خلف العربة، رجال ونساء يدفعون بكل ما أوتوا من قوة وبعناء ظاهر لتحريك العربة التي غاصت عجلاتها في الوحل الممزوج بالثلج تحت أنظار مجموعة من الكلاب الهزيلة المتعبة. خلفية اللوحة تتقاسمها الأشجار والغيوم الملبدة الداكنة، في الجانب الأيسر نور خافت منبعث من برج بنيان أخفت معالمه الأشجار وحلكة الليل.

            أبهذا المضمون العادي المبتذل والذي في متناول عامة الناس استهوتني هذه اللوحة وجعلتني أسابق الناس المتحلقين حول البائع لأفوز بها؟ أبهذا المضمون أغضبت الزوجة وكسرت رونق جدارها المفضل وأرغمتها على التعايش مع هذا المسخ القابض للنفس؟..أمعنت النظر في اللوحة من جديد، لا شيء يثير الانتباه ما عدا غلبة الألوان الغامقة في تناقض تام مع الإطار. لم أيأس، بعض الأمور تدرك بالحدس، باللاشعور، أغمضت عيني هنيهة، حاولت استرجاع تفاصيلها مما اختزن في ذاكرتي، فصعقت… نعم هي ذي اللوحة التي أسرتني بكل تجلياتها، ها هي ذي أكاد ألمسها بيدي، قساوة التفاصيل لانت. قتامة الألوان اضمحلت. ثم أدركت سر انجذابي إليها. فتحت عيني بعد أن انزاحت الغشاوة عنهما، وبدون شعور مني طفقت أمدح مبدعها كيف استطاع إخفاء سرها على غير المتبصرين… الروعة في التفاصيل، الروعة في التفاصيل. وعدت إليها.

       الريح تزمجر، تحني هامات الأشجار، والشخوص وحتى الجماد، كل ما في اللوحة منجذب نحو الضوء الخافت. قوة الجذب لها في عضلات الثور انعكاس وفي عينيه الجاحظتين وفي البخار المتجمد لتنفسه، وفي الأوجه المتعبة وفي الأسمال المبعثرة وفي الريش المنفوش للدواجن… وفي نفسي أنا الفضولي المتلصص العالق في سحر هذه اللوحة. الريح إذن سر جاذبيتها والثلج والطين والليل. شعرت بسعادة غامرة ارتعش لها الجسد وأنا أحدد هذه المكونات الثلاثة، سرعان ما تلاشى تأثيرها عندما أدركت أني اختزلت اللوحة في هوامش قد لا ينتبه لها أحد… شيء في داخلي انتفض. هراء…هراء، المتبصر هو من يدرك هذا لا تفسد سعادتك بما لا يدركه العوام.

           عدت للوحة، اختفت معالمها ما عدا أشجارا منحنية، وسحبا سوداء وثلجا ممزوجا بالطين، والضوء الخافت… الذي ازداد وميضه ليستحيل لسان شمعة متراقص يمسح في عناد ظلمة غرفة ضيقة، وينير أسطر كتيب بين يدي طفل صغير منهمك في قراءته بشغف كبير، بين الفينة والأخرى يحرك رجليه كأنه يخطو في مسلك وعر. تلهث أنفاسه وتخف مع توالي الصفحات، ثم تنبسط  أساريره فيغلق الكتيب وعلامات الرضى بادية على محياه.  نجت البطلة على الرغم من الذئاب والأشرار والريح والثلج الممزوج بالطين.                                                

      وكالطوفان، غمرني حزن شديد وحنين جارف مشوب بأسى، شعرت به كعقدة أسفل البطن سرعان ما انتشر دبيبه  في سائر الجسد. أهو انتكاص للوراء أم احتماء بماض سحيق لم يبق منه غير فتات ؟.. أم حسرة على أحلام سحقت تحت أقدام واقع مرير. وكما الغريق ارتميت في أحضان اللوحة بكل جوارحي، أتحسسها، أحضنها، من منا الآن يستقريء الآخر؟ في اللوحة دفء، فيها خدر، فيها أمان وفيها…

              – أفق أيها المعتوه… أفق، ليست اللوحة ترياقا لهمومك وهلوستك.

عقدت الدهشة لساني، بحثت عن مصدر الصوت فإذا بصاحبه منتصبا أمامي وقد أرخى عنان الثورين، وتقدم نحوي بخطوات لها بفعل الجليد صرير، غير معقول ما يقع معي الآن، هل لازلت أسير هلوساتي؟

              – أنت من بدأ اللعبة ووضعت قوانينها..

              – أنا …

              – نعم أنت..

              – كيف ذلك؟

              – ألم تشتر اللوحة؟

              – بلى

              –  ما الذي جذبك إليها ؟

              – دقة الرسم وتناسق الألوان و …

قاطعني، وقد تملكه الغضب وأخذ يلوح بسوطه دون اتجاه:

             – لعن الله الرسام ومن يدور في فلكه..

             – لما تلعنه وقد خلدك؟

             – تلك الطامة الكبرى، أفي حالتنا ما يستحق أن يخلد… إن لم يكن تشفٍ

             – أعنده ثأر عندك أو جريرة ليتشفى منك ؟

لم يجبني، رمى السوط جانبا ثم تفقد حمولة عربته غير آبه بقوة الرياح التي كادت تلقي به ولا بندف الثلج العالقة بلحيته، ربت على أكتاف مرافقيه، تجاهل الكلاب المتمسحة به، ثم استدار نحوي وبعينين فاحصتين راح يتأملني. لم يعجبه ما رأى، أو على الأقل ذلك ما استنبطته من قسمات وجهه ومن انقباض شفتيه، وبما أن شكلي لا يهمه في شيء أجاب:

          –  ربما، ربما.. وقد يكون شيئا آخر..

          – ما هو؟

          – الربح…الربح

أغاضني جوابه، والصوت المنبعث من أعماقي والساخر مني ومن غرابة ما أنا فيه، أخرسته وأتممت حديثي:

         – إنك تفرغ الفن من رسالته النبيلة، منطق الربح والخسارة لا ينطبق عليه.

نظر إلي باستغراب كمن لم يستوعب ما قلته له، ثم عبث بأرنبة أنفه هنيهة وأردف متسائلا:

         – ما الفن ؟ ثم ما شأن النبلاء فيما نحن فيه؟.

انتظر جوابا لم يأت، لم يزعزعه صمتي عن إتمام فكرته، تحامله على الرسام لا حد له، وفي ما يشبه الهمس تمتم:

        – أتظن أن صاحبك رسم اللوحة اعتباطا.. هكذا من أجل الرسم أو من أجل ما تسميه فنا ؟

        – وما أدراني، لا شأن لي بدواعيه، كل اهتمامي منصب على ما أبدعت أنامله.

لم أعد أحتمل هذا الحوار، ولا الحزن الجاثم على صدري، الحابس لأنفاسي، ما عاد للوحة سحر، الوشائج التي جمعتني بها ذابت كما الثلج تحت أشعة الشمس، لا بد أن أستفيق قبل أن أجن.. لابد.

فتحت عيني بحذر شديد بعد أن كنت أغمضتها هربا من محاوري، فإذا به واقفا يرمقني وقد أنارت وجهه ابتسامة ساخرة:

        – لن تنسحب بهذه السهولة من لعبة أنت من وضع أسسها..

        – لم تكن لعبة، إنما هو انجذاب غامض للوحة ورغبة في استكناه خباياها وفرار من حجر صحي كاتم للأنفاس.

        – ما الحجر الصحي؟

        – أمر يخصني، لا دخل لك فيه.

        – لا ضير، فلنرجع لصاحبنا، ترى ما هو فاعل بلوحته ؟

         لم أجب، لست ممن يحب الأحاجي والألغاز، ولا حتى هذا الحوار الذي طال أمده.

        – لا بد أن تجيب إن أردت أن تعرف سبب لعني لصاحبك وحقدي عليه، سأسهل عليك الأمر هناك ثلاث خيارات لا رابع لها: أن يحتفظ بها لنفسه، أن يهديها، أو أن يبيعها.

إنه يستدرجني بمكر لأتبنى طرحه وإن كنت في قرارة نفسي قد بدأت أشعر بأن ما يقوله غير مجانب للصواب، مما سهل علي مسألة الاختيار:

        – أن يهديها أو يبيعها..

         علت علامات الرضى أساريره، وفي عينيه بريق لانتصار وشيك.

        – لمن ؟

        – لكل من يملك الجاه أو المال أو أحدهما وإن كانا وجهان لعملة واحدة..

فرك يديه في نشوة، ومسح بظاهر يده ما التصق من ندف الثلج بشاربه قبل أن يلقي بسؤال بدا من كيفية إلقائه أنه الأهم بالنسبة إليه:

        – حسنا، أين نحن من هذا ؟

        – نحن من ؟

        – أنا وأنت وهذا الركب..

        – مهلا… مهلا لما أقحمتني معكم، عالمي غير عالمكم، أنتم أسرى اللوحة وأنا حر طليق..

انفجر بضحكة مجلجلة، قهقهته صكت أذناي رددت صداها الرياح وابتلعها الظلام. عقد ما بين حاجبيه وقد عادت سحنته لعبوسها:

        – لست أدري أأسخر منك أم آسى لحالك ؟

لم يعد هناك مجال للاستمرار في هذا الهذيان، طاقة احتمالي نضبت، تجاهلت نظراته وهممت بالتراجع إلى الوراء لكن لا عضو من أعضاء الجسم استجاب، شلل تام يبقيني أسير اللوحة كحشرة عالقة في فخ عنكبوت، الغضب المتقد في صدري لا يفيد، ما تفعل الشاة أمام عاقرها، ولكن أن أتعرض للسخرية من جلف ذي أسمال، شيء لا يقبله العقل، وأين العقل في كل هذا؟  رفعت بصري نحوه بنظرة أردتها حارقة، جارفة، لكنها استحالت نظرة استعطاف وتوسل ووجل. ترى ماذا وراء رد فعله على جوابي. لن أسأله، كبريائي لا تسمح لي أن ابدو كمن يستجد المعلومة، وممن؟.

وفر علي الجواب ودون أن يأبه بنظرتي أردف:

          – حساسيتك المفرطة تغشي بصيرتك وتمنعك من التفكير السليم،  أبمبدعك وبمتلقي اللوحة -سواء كان غنيا أو نبيلا- تكتمل الصورة ؟ طبعا لا، هناك عنصر مفقود وهو الأهم أتدري ما هو ؟

ها هو من جديد يستغبيني، يحتقر ذكائي، لم يبق غيره والركب المصاحب له ولكني لن أجيب، كل هذا

لا يعنيني فليتدبر أمره بنفسه. انتظر قليلا ولما أيقن باني لن أرد عليه أتم فكرته:

         – نحن، بدوننا لا وجود للوحة، هل استشارنا مبدعك قبل أن ينشر بؤسنا وشقاءنا على الملإ، ويحيله غنيمة تزين قصور النبلاء والأغنياء ؟.. لم يفعل. أتدري لماذا؟ لأننا على أهميتنا مجرد حشو لا يعتد به، وجه مظلم لميدالية يحترق ليزداد وجهها المشرق لمعانا. أليس من حقي أن ألعن مبدعك ومن يدور في فلكه؟

لم أحر جوابا، شعرت بالتعاطف معه حد التماهي، لم يعد فظا ولا غليظ القلب، شعور بالذنب يكاد يخنقني لأني اكتفيت من اللوحة بما يرضي وجداني، ريح وثلج ممزوج بالطين والليل البهيم… وأماني معلقة خاب أكثرها… عذرا طفلي الصغير.. لا وجود لعالم الحوريات.. لن تركب فرسا أبيض ولن تنقد حسناء… ولن تصبح أميرا. ولن تؤمن بعد اليوم بأن حظا سعيدا سيغير قدرك ويرضيك.

         وكالمذنب المعتذر أجبته متلعثما:

      – أجل…أجل

أشاح عني بوجهه، استرجع عنان الثورين والسوط، وقبل أن يستأنف المسير رمقني بنظرة ملؤها العطف والإشفاق والأسى، ودمدم بكلمات لم تلتقط مسامعي منها غير أفق… أفق، ثم انطلق الركب…          

 …… 

 – طنجة في 04- 04- 2020

 

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون