هانى عبدالمريد فى “تدريجيا وببطء”

هانى عبدالمريد فى "تدريجيا وببطء"
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

د. يسرى عبد الله

ثمة تبدلات تجتاح الروح، تتسرب إليها رويدا رويدا عبر خيط خفى فى مجموعة "تدريجيا وببطء" للقاص هانى عبدالمريد، والصادرة عن دار (بتانة) فى القاهرة.

تتشكل المجموعة من خمسة عشر نصا قصصيًا يمثلون متنها السردى، وتعد آلية السخرية من الآليات المركزية التى تنهض عليها بنية المجموعة، وتمتزج السخرية دوما بالتخييل، وتنفتح على أفق المتخيل القصصى الوسيع، فيحل الديك الرومى محل الأب، ويصبح العنكبوت بديلًا له أيضا، وتحقق فكرة «الأب البديل» حضورًا واعدًا لفنتازيا ساخرة، تجعلنا بإزاء لعبة فى نهاية القصة، حين يضفى السارد/ البطل على الديوك الرومية سمة الآباء المفضلين الذين سرعان ما يأكلهم فى عيد الميلاد من كل عام.

ثمة مساءلة جمالية للواقع السياسى/ الثقافى دون صخب أيديولوجي، مثلما نرى فى قصة «قصيدة موت رحيم»، فالظلام الدامس الذى يحل بالمكان، حين يجعل الكاتب من شخصيته القصصية قاصًا يكتب نصًا قصصيًا متمنيا أن يأخذ من روح القصيدة شيئا، ويكتب بخط عريض فى منتصف الصفحة (موت رحيم)، فينقطع النور فجأة، ثم يسمع بعدها أحاديث الناس عن ظلام الواقع وقسوته.

يستخدم هانى عبدالمريد عددًا من التقنيات السردية من بينها، آلية البناء على المفردة، مثلما نرى فى قصته «هنا يرقد إنسان بدائى»، والتى تبدأ بمفردة (الناسك) التى تتواتر بانتظام إيقاعى فى النص “الناسك لم يكن ناسكا فى البداية”، فالناسك المتصوف الزاهد فى كل شىء، يخرج من طوباويته ويستحضر رائحة رغيف من الحواوشى، فيخرج من السماوى إلى الأرضى، ومن الميتافيزيقى إلى المادى، ومن الروحى إلى الجسدى، لكن حين تأتيه شهوة الطعام يكون كل شىء قد انتهى، فأسنانه فقدها تماما، لكنه ظل مستشعرا الفخر بتحقيق هدفه، وقد بدت النهاية هنا تصالحية، وربما كانت بحاجة إلى تعميق أشد أوإلى اقتراح سردى مختلف.

يتجه هانى عبدالمريد بقصته «عين العبد» من نقطة بداية يصنعها متكئا على أسطورة متعلقة بالمكان، حيث ثمة عين تنبثق من الأرض، ولا يفكك الكاتب الأسطورة هنا، لكنه يتخذها تكأة يعتمد عليها النص، الذى يبدأ من نقطة محددة يتجه بعدها الكاتب إلى ما يريده، فالعوز يلاحق آل العبد، والعين يشح ماؤها، وتتضارب الرؤى، فالجد يريد استمرار العين كما هى، معتمدًا على بركة من السماء، والابن يفكر على نحو واقعى فى استجلاب مواسير مياه تضخ المياه للعين، دون أن يعرف الناس، معتمدا على قوة الإيحاء، وحينما تتغلب رؤية الجد فى البداية، تعانى العائلة، ولا يصبح أمامها سوى استدعاء الابن الذى يمد العين بمياه للصرف، وتتحقق المفارقة الدرامية حين يتبرك الناس بها، فيبدون ذاهلين عن كل شىء سوى الاعتقاد فى بركة العين، والرجل الصالح الذى استوطن المكان والمسمى بالعبد الكبير.

فى «رسالة الشتاء الأخيرة» ثمة شعور عارم بافتقاد الونس، ولا يختص ذلك بالرجل المسن الذى فى عمر الأب للسارد الشاب الذى يشاركه متن السرد، ويتقاسمان دور البطل المركزى فى القصة، وفى كل النصوص التى تنحو هذا المنحى الإنسانى ستجد القاص يستخدم صيغة الحكى بضمير المتكلم، وكأنه يقرب تلك المسافة بين الذاتى والموضوعى، عبر تعبيد دروب إنسانية خلاقة تعيد الاعتبار للمعنى الأكثر أصالة فى الكتابة، حين تطرح سؤالها السرمدى:”ما هوالإنسان؟”، فات القصة فقط هذه النهاية الوعظية التى تتوخى فكرة الرسالة التى يتركها العجوز المجرب للشاب فى الختام.

وفى قصة «مهرج لا يجيد اللعب»، ثمة مهرج لا يشغله شىء سوى التخفف من آثار الصخب المحيط، يستعذب العزلة رغم كل مظاهر الحياة وبهجتها الزائفة التى تحيط به، وتصبح أزمة النص/ أزمة البطل فى عودته إلى بيته ليجد عرسًا كبيرًا يطلب منه الناس أن يصنع فقرة البلياتشو التى لا يجيدها رغم ارتدائه ملابس البلياتشو وأدائه دوره فى كافتيريا المهرج داخل إحدى الجامعات، وأمام الاختبار الحقيقى يجد نفسه رافعًا يديه ومتقافزا فى بلاهة لا يحبها، ثم يدخل بيته مستأنفًا حياته الرتيبة من جديد.

فى “فواصل وهمية” نرى توظيفا للحكاية الشعبية، فى جانبها الأسطورى، الذى يتماس الكاتب فى اللعب معه وليس فى فضائه، فنهاية الفواصل/ نهاية القصة تفضى إلى عدم زواج البطلين الموعودين بالظفر فى النهاية كما تروى الحكاية الشعبية، وتنبؤات الكاهن لم تسفر سوى عن ذهابهما أبعد من الترعة واختراقهما الأحراش ونسيانهما الجن والعفاريت، لكن دون أن يلتقيا مثل النهاية المحتومة لدى الكاهن والنبوءة والحكاية الشعبية معا، حيث يفران من بعضهما البعض، وكأن الخوف لم يزل سمة مهيمنة على الشخوص والعالم المفتوح على مصائر من الركون والثبات.

تتبلور إحدى سمات كتابة هانى عبدالمريد، فى قصته «بالضبط كشامة عمر الشريف»، حيث الانطلاق من موضوعات واقعية تخرج لمناحٍ ساخرة تحاول تغريب المألوف، عبر النظر إليه من جديد، فالأب الذى يملك شامة فى وجهه مثل شامة عمر الشريف، يتندر على الفنان العالمى لأنه أزالها، وأبعد عنه عطايا السماء؛ ولذا كانت أفلامه القديمة أجمل، لكنه يضطر لإزالتها بعد حادث يتعرض له، غير أنه يدخل فى دوامة أخرى تتعلق بالأصابع الستة ليد رضيعه التى استعارت أصبعًا من يده الأخرى.

يقف بعض شخوص المجموعة على حافتى الفن والجنون معا، من قبيل الفنان التشكيلى الذى يخرج له شخوصه من لوحاته فى «وجوه متألمة»، والمصور الهزلى المسكون بالانتقام، هنا كل شىء يزحف ببطء وبالتدريج، من الشيب الذى يعلو وجه المصور، إلى الليل الذى يزحف على فضاءات المكان الريفى فى قصة “تعاقب”

وبعد.. يواصل هانى عبدالمريد مشروعه السردى بدأب واقتدار حاملا قدرة حقيقية على النظر للعالم من زوايا مختلفة، ساخرة، وتجريبية، ورهيفة أيضا.

مقالات من نفس القسم