نصوص كثيرة لليلٍ واحد.. مناوشات ذاتية: عن الليل والجنون

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 47
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

عبد الرزاق الشارف

يجري الحديث في فلسفة التفكيك عن إرجاء المعنى وتأجيله، وعن الخوض في الحقيقة بحذر ودونَ قطع، لأن النص هو مجموع احتمالاته وقراءاته، وليس هو داخل أو خارج، بل هو مُحايث للواقع.

النص لم يعد ثابتا (لم يعد موجودا، مُعطى)، قتلوا المؤلفَ في حياته، وتركوا قيمته الثابتة الوحيدة: تغيّره واستحالته عبر القارئ.

لنكن متواضعينَ إذن، واحتفل معي بأن للدرهم وجهين.

..

مارس 2015:

 

أفكر في النفس البشرية..على أنها نص.

 

لستَ أنتَ الآن، فأنتَ شخصيا مجرد احتمال من احتمالاتك وقراءة محكومة بأسبابها الجينية والموضوعية، حين تنظر إلى الخارج واعيا به فتلك هي الحياة، تلك الأشياءُ التي ليستْ أنتَ هي الحياة، ويقول مارك ستراند: في الحقل أنا غياب الحقل…ولكن حين تنظر إلى داخلك تُبصر العدم، لأنه احتمالكَ الأشد احتماليةً والقراءة المضمونَة المُرجأة المؤجّلة إلى أجل لا اسم لهُ..محكوم بالموت مهما هربتَ، ومحكوم بنا هذا الموتُ فلا داعيَ له للعجلة..ولستَ صفحة بيضاء يا عزيزي، تلك نُقطة تُحسب عليك، لم تكن حليبا أبيضَ أبدا، يومَ أخطأ والداك الزهرَ على خشبة المسرح فضّلا لعب النرد ليلا بأعضائهما فجئتَ توليفةً واحتمالا..لم يقرّراكَ..استقسما بالأزلام وعمِلا نيتهما في الله فكنتَ أنت، شخصيةً تتألف من جينات شخصيات تشكل أسلافك. تزدهر فيكَ المتآخيات من الأضداد، ويسري في دمك مهرجانُ الشبق الأعظم، تائهون ومهتدون، قتلة مأجورون وأنبياء وسلاطينُ وسُوقة، يشبكون أيديهم في عروقك ويتضاجعون ويشهقونَ، يؤزّون أوراكهم ويمسدون لحاهم بمرق اللذة، بينما الأميرات والعاهرات والصغيرات، التائبات السائحات، الثيبات في مغطس الحياة. لا وجود للأبكار لأن اللعنة حاقت بالفروج العذراء، جميعهم ماتوا وتركوا بذورا فيك، ثمرةٌ صغيرة أنتَ يا ابنَ المُتعة، تقبعُ على رأس شجرة هائلة من الأورجازمات التاريخية، فيكَ التقى الأعداء، وفي دمك تجري الخيول والوعول، وأنتَ تصرّ على أن صوتك فريد وواحد لا مثنّى لك.

يمكن للانتماء ان يجيب عن أشياء ثقيلة، أعلم ذلك جيدا، لذا نحرص على الانضمام لقطيع، وعليكَ أن تسمع هذه الكلمة من فمي على أنها مدح، فبغير القطيع نضيع، عليكَ فقط أن تضع بعض المتاريس لكيلا تتماهى مع الجماعة فتذوبَ فيها وتتلاشى.

 

مارس 2017 :

 

استقر أمر الطبيب على أن أظل على “الفيلاكسور” و”هالدول” إلى أن أتحسن أكثر، وأنقذني من “نوزينون” و”ألبراز”..بقي أن تعرف أن فيلاكسور مضاد اكتئاب من فصيلة مثبطات استرجاع السيروتونين الانتقائية، وهالدول هو الاسم التجاري للهالوبيريدول المخفّف، تأكل الهواء وتتغدّى على الماء والدواء، وتتبادل الأدوارُ فتصير طيفا وظلا، ويعيش جسدك الفيزيائي في هامش الضوء على قيد الحياة، ألا ترى؟ “قيد الحياة”..نوزينون منوّم وألبراز مزيل قلق، وطنجة مدينة تشبه إلى حد ما سيلفيا بلاث بناقوسها الزجاجي وهي جالسة تقرأ في الصورة، حيث يظهر خصر أبدعت الطبيعة في خنقه، مع صدر يغلي بمرجل أسود أسميه “المنطقة الصناعية”..

استغل أرباب سيارات الأجرة تعديل مدونة السير ووفود القادمين من الداخل ليضعوا حبتين زيادة على الأجرة..أغلقت شبكةُ الطرق المحكمةُ الأنفاسَ وتنفّست علبُ الليل الرخيصة وسط المدينة، وارتفع ثمن البيرة إلى أربعين درهما للسبيسيال..فتوقفت القطط عن المواء.

..

تبعها من فندق رامبراند إلى بيتزريا أوسلو، ثم إلى ساحة الأمم يغذ السير ويخوّض على البيض بخطوات لزجة، وأخيرا انحدرنا معها إلى النجمة.

عليّ أن أبديَ إعجابي بفتنة الفتاة، فطيلة هذا المسير القصير أوقفها أربعة شبان، اثنان استخلصا رقم هاتفها والثالث اشترى لها الحِمَّصَ “المبخّر” والرابع هو صديقي الذي جلس عليه..”جلسَ عليه ” تعبير نعني به الخسران المبين. لأن أجهزة الدولة كانت أيام عزها وسؤددها تعتقل المعارضين، وتعذبهم بإجلاسهم على القناني الزجاجية.

أرجوكم، رفقا بالقوارير.

..

ساقايَ الآن منهكتان، طنجة زوج عِنتي ابن غايا الأرض، كلها انحدارات، وطرقها طويلة، وشوارعها متفرعة، ما إن تخرج من المقهى حتى تستلمك أفواج العيون المقتحمة، وتلاوين المساء البديع، فتهيم على رجليك على غير هدى.

ركبنا السيارة وبدأنا الجولة الليلية، وصديقي لا يكف عن النساء، “كل متحرّك هدفٌ”، و”في كل البناتِ اللعبةُ حتى يثبت العكس”، وإلى غيرها من المتلاشيات الذكورية التي يحرص على ترسيخها في عقلي المتبلّد..أعارضه وأعترض عليه..فيشيح بوجهه عني ويتابع هوايته في تخفيف السرعة كلما مرّ على فتاة..وبالسماح لها بالمرور ليتملى قوامها، أو بالتزمير عليها إذا لزم الأمر.

يومها كان حظ “صديقي” جيدا، فقد عاد بالسيارة إلى النجمة ليجد ذات السّبنية تحجل في مشيتها، أوقف السيارة وزمَّر عليها..التفتتْ إلينا ممسكة بطرف سبنيتها وضحكت، ثم قالت بهدوء خفيف طفولي: شنّو شنّو؟؟ (ماذا؟ ماذا؟) وأخذت طريقها من خلف السيارة ومضت..

جنّ صاحبي..وعلِقت “شنّو شنّو” برأسي.

..

السبنيةُ هي خمار الرأس، وقد تسألني بعد هذا الضلال المبين في النص: كيفَ أمكن لحساء أحماض أمينية أن تدمّر الكوكبَ بعد أن اتحدت في احتمالات شتى؟ هناك خيال لذيذ ينتشي في رأسي: ألا يمكن أن تكون نفس التوليفة التي تجعلكَ أنتَ أنت قد مرت على البشرية من قبل؟ هل يمكنُ أن يكونَ لك “شبيه جينيّ”؟

ثم من أنتَ الآن؟ وكم أنتَ؟

لماذا تخاف الفصام يا صديقي؟ لماذا تريد أن تكون واحدا لا شريك لك في نفسك؟ أين روح الديمقراطية يا رجل، لماذا تخاف أن تكونَ جيشا من الأصوات في توليفة أحماض أمينية واحدة؟ هل يمكن أن تكون أنتَ أنت؟ ثابتا ثابتا..صوتا واحدا مفكرا واعيا…

ألا تكونُ الذاكرة آلة لتصحيح القفزات في نفسك مِن أنتَ البارحة إلى أنتَ اليوم، توهمكَ أنك الأنتَ الواحدُ دائما؟؟

لماذا السعيُ وراءَ الوحدانية؟ جرّب أن تكون صوتا آخر في رأسك..جرّب، ربما تلتقي فتاة جميلة بسبنية في ليل طنجة.

 

مقالات من نفس القسم