نصوص الرفض فى (تراتيل الجرح) لـ”عماد مجاهد”

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

الكتابة عَبْر النوعية تتجلى فى المزج بين أشكال فنية متعددة. إنها محاولة جمالية لاقتناص صور مبتكرة، ودلالات جديدة، ومحاولة ضمنية، أيضًا، للتعبير عن التمرد، والرفض. وقد تكون جرأتها التجريبية إحدى الطرق المهمة لإثراء الفن، وتجديد منابعه. ورغم أن الفنون السردية، والإيقاعية تطور نفسها باستمرار عبر كُتَّابها الذين يحفرون طُرقًا جديدة، إلا أن الكتابة عَبْر النوعية تظل محتفظة، عن قصد، بحالتها الهيولية التى تُحبذ الوجود فى مسافة بينية؛ لتتشكل باستمرار مع كل قراءة جديدة.

فى كتابه الأول (تراتيل الجرح) يتخذ “عماد مجاهد” لنفسه هذا الطريق. مفضلًا الخروج من باب التصنيف المحدد. يُشير إلى ذلك بداية من غلاف كتابه حيث وضع عبارة “نصوص سردية” أسفل عنوان المجموعة.

إنه يكشف للقارئ طريقه الذى سيمضى فيه خلال قراءته لمجموعة النصوص التى يضمها الكتاب. هى نصوص تمتزج فيها القصة، وقصيدة النثر دون أن تميل الدفة لأيهما سوى فى بعض النصوص التى تغادر الحالة النصية إلى أرض شعر النثر بكثافته، وصوره المبتكرة، وإدهاشه.

هذا الخروج يتضمن فعل الرفض داخل متن الكتاب. رفضٌ شكلي يبدو من خلال البناء الذى تعمد الكاتب أن يكسر مألوفه، ويفكك روابطه حتى فى حالته النصية “عبر النوعية”. ورفض مضمونى من خلال عدة ثيمات، ومواضيع متنوعة. 

أول ما يواجه القارئ فى المجموعة مفتاحًا تعريفيًا بهذا الامتزاج، والتزاوج بين شكل القص، وشكل الشعر، ومضمون كل منهما، ثم مفتتح فى الصفحة التالية: “القرن العشرون / الإمام ابن كوكاكولا / الذى ادعى كذبًا أنه / اطلع على اللوح المحفوظ / وأنه معصوم من الخطأ / كوكاكولا – مادونا – بيبسى – مايكل جاكسون – جان بول سارتر – مارتن هيدجر ….. رموز الأمة العربية”.

يجب الإشارة إلى أن بناء المفتتح هو شكل سلم هابط؛ للتوكيد على هذا التداخل البنائى. وفى المفتاح، والمفتتح يُختزل الكثير مما هو فى متن المجموعة. كأنه يعتمد التكرار ثيمة أساسية؛ لتأكيد مضامينه.

ينبع فعل الرفض من رصد مظاهر الضياع، والإحباط، والانسحاق العربى بالارتماء فى حضن فلسفات، وفنون غربية دون تأمل، أو مراجعة، وكذلك بالاعتماد على منتجات غربية أتت خاماتها من قلب الأمة العربية ذاتها، ومن نحت رموزها العتيدة.

يميل الكاتب إلى حكم حدسى، تكون المشاعر خلاله هى القاضى، والضحية. هى القلب البصير، والعين المبصرة. إنه يرسم صُوَره بأحاسيسه وحدها. تتوالى صور مختلطة، وتنهمر فى السرد إدانات علنية لمفردات وطن مجهد. مختل. يبطش بقبضته العمياء ذات اليمين، وذات الشمال حتى لا يترك فردًا إلا وأثقله بالتشوهات النفسية، وأطاح منه الشكل المنطقى للنظر إلى الأشياء. ينسحق الحب، ويضيع الانتماء، وينكفئ الإنسان على ذاته. يجعل أحلامها، ورغباتها مركزًا للعالم.

إن الرد على تلك القوة غير العادلة يبدو فى السخرية من هؤلاء الذين دمروا الوطن حتى لم يعد مكانًا لائقًًا للحب، أو للحياة الإنسانية السوية. ولأن الكاتب يميل إلى لغة مجازية تقترب فى أغلب المتن من لغة الشعر فى استكناهها للمعنى الكلى، فإنه يحيل كل أشكال الديكتاتورية إلى لفظة (القيصر)، مع اتكاءه على ألفاظ موحية تنهل من التاريخ، لكنها لا ترتمى فى تفاصيله، وتشير إلى الواقع دون أن تتورط فى تحديد زمنه؛ ليؤكد هذه الحالة السادية العامة التى تحكم الوطن عبر أزمنة ممتدة. تبدو مقاومته الفنية فى صورة مواجهة حدية أحيانًا كما فى قصة (الأنفاس الأخيرة)، أو فى شكل ساخر. يُعرى تفاهة هذه القوة الغاشمة، ويحيل فعل سطوتها إلى اعتمادها التمويه، والتهديد، والتنويم المغناطيسى الذى يمارسه الديكتاتور وسدنته بحق مواجهة الجماهير. كما فى نص (القيصر) على سبيل المثال..

القيصر: “قالوا: أن البلاد والعباد قطرة من عرقه / وأنه ……… / وأنه ……

ننتظر القيصر لا يأتى / ننتظر القيصر لا يأتى / أخيرًا يظهر فى التلفاز / مرتديًا مشدات للصدر / وأحدهم يعبث بمؤخرته / أقول مُهلِلًا أنا والجموع / يحيا القيصر! / يحيا القيصر!”.

يصل الكاتب بالسخرية إلى حدها السوداوي حين يعلن أنه كان من ضمن الجموع التى هتفت للقيصر رغم كل شىء. يتم، كذلك، فضح ظاهرة الزعيم الحنجورى، ذلك المعارض الشكلى الذى يملك القدرة الكاريزمية على حشد الجماهير معتقدًا إنها ذوات ناقصة لا تكتمل إلا به، كما فى نص (الميدان):

الميدان: “1- بعد رحيل الشمس وقف مكانها  وسط الميدان.

2- يحيط   به اثنان أربعة عشرة  مئات الآلاف  يعدون  أمجاده.

3- كلما تحدثوا  ارتفعت  هامته  فوقهم. وعندما  نظر إليهم  ليرد على هتافهم وجدهم كلهم هو”.

تتبدى تفاصيل الواقع القاسى الظالم من خلال قصص تُصوِّر مجتمع الوشاية، والكراهية، والفقر فى صور تحكمها المشاعر، فلا تأبه بإبراز صورة خارجية وصفية محددة قدر نظم ما ينعكس على الشعور، واللاشعور أحيانًا، ويكون التفكك الشكلى معبرًا فى هذا المنحى عن التمرد، والرفض، وإن كان هذا التفكك الشكلى فى نصوص كثيرة يدخلنا فى متاهة تتبع الجُمل، وبداياتها، وكذلك فى القدرة على استنباط دلالة النص.

يتكأ الكاتب، أيضًا، على ثيمة تراسل الحواس، فالأمر الذى يعنيه هو تتبع أحاسيسه، كونها بالنسبة إليه وعاء المنطق الوحيد. فهذه قصة (رائحة صوتك): “أشم رائحة صوتك المجدول من عناقيد، الهمس العذبة التى تمتد فسيفساء أيام ودقائق ولحظات، من تمر الأيام محلى، بعسل طيبتك، مصفى بشاش، من صوتك. هذا ما سكن قلبى، عندما افترقنا لمسافة. بضعة أمتار قليلة. أنت فى الصالة، أنا فى حجرة النوم”.

فى هذا النص تجليات كثيرة للكتابة لدى “عماد مجاهد” التى لا تعتد كثيرًا بالزمن، وتصاعده، بل ربما تميل إلى تفتيته؛ للتأكيد، أكثر من مرة، على الزمن الداخلى الذى ينتج النص، وأن الشعور الذى يعيشه فى لحظة ما هو كل شىء بالنسبة إليه، وهو الأغنى فى تمثلاته من ساعات يوم طويل. كذلك طريقته الشكلية فى بناء نصوص المجموعة، وإن لم أنقلها هنا فى القراءة، فبناء النصوص لا يعتد بعلامات الترقيم فى أماكنها المعتادة، ولا بناء الجملة المكتملة، بل يتعمد كما أسلفت إلى تهشيم الجملة، وتشتيتها فى السطور، و وضع علامات الترقيم بإيقاع نطق الكاتب. ما يؤكد فكرة البناء الشاعرى اللاشعورى الذى يميل فى عمقه إلى الرفض. رفض سلطة الواقع، لكن بدون مواجهة. بل بالانطواء على الذات، واجترار هزائمها. رفض سلطة اللغة بالوصول إلى حالة من بناء متاهة كاملة للقارئ، وفخ للمعنى. كأنه يستبدل حِيَل العالم شديد التحول، والغرائبية، والقسوة بحيل الفن شديد التكثيف، والغِنَى، والبناء المراوغ الذى يعبر عن مواجهة الهزائم النفسية بكشفها، ويعبر عن الرؤية الفنية الرافضة للانصياع لهذا الواقع بالتمرد عليه، وتخريب أبنيته الفنية المألوفة بأكثر من طريقة.

صدر الكتاب فى طبعته الأولى عن دار (الأدهم للنشر والتوزيع) عام 2016م.

مقالات من نفس القسم