نصفي حجر

ممدوح رزق
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

ممدوح رزق

قد يكون هو الموت الأسوأ على الإطلاق.. لا أحد يتمنى أن يموت أثناء زيارة أصدقاء شبابه المبكر له بعد انقطاع طويل.. لا أحد يتمنى ذلك، خاصة لو كان يرقد مشلولًا منذ سنوات عدة في حجرة الصالون التي تحوّلت إلى موضع انعزالي لنومه ومعيشته قبل مدة كبيرة ثم إلى سكن صغير لمرضه الذي فقد خلاله خطيبته ووظيفته وشقته التي كان ينوي الزواج فيها. لكن هذا ما حدث ببساطة عصر يوم الجمعة 14 إبريل 1995؛ توقفت عن الكلام فجأة، وأُغمِضَت عيناك، ومال رأسك فوق الوسادة التي كان يستند ظهرك إليها، بينما استقرت ابتسامة خفيفة فوق شفتيك المطبقتين.. أسرع أصدقاؤك بمناداة أمك التي هرعت إلى الحجرة، وصعدت فوق السرير ثم جلست على ركبتيها بجوارك، وراحت تربت على خديك محاولة إفاقتك وهي تتوسل باكية إليك أن ترد عليها بالرغم من الحلم الذي رأته في منامها قبل أسبوع، واستيقظت منه على نحيبها، بعد أن أكد لها قرب موتك.. الحلم الذي لم يكن بمقدورها أن تحكيه لأحد.. أخذتك أمك في حضنها، وراحت تصرخ لربها كي يعيدك إليها حتى لو ظللت عاجزًا طول عمرك، وحتى لو بقي مرضك يعذبها حتى نهاية حياتها.

لم يوجّه أي شخص سؤالًا لأصدقائك حول ما كنت تقوله قبل أن تتوقف عن الكلام فجأة.. لم يسألهم أحد إذا كانوا سيستمرون في تذكر كلماتك الأخيرة التي سبقت إغماض عينيك، والتي ضاعفت حتمًا الابتسامة الخفيفة المستقرة فوق شفتيك من صعوبة استنتاجها.. لكن أبوك الذي بدأ الزهايمر منذ أعوام في التهام رأسه ظل يردد بعينين تسيل الدموع من شرودهما، وبصوت مختنق وخافت خلال الجنازة، وفي سرادق العزاء، وطوال الساعات التالية بأن هؤلاء الأصدقاء هم الذين قتلوك بطريقة خفية أثناء تلك الزيارة.. وكما انبعث هذا الإلحاح بشكل مباغت من توهانه الثقيل؛ تبدد فجأة أيضًا، ليستبدله بقراءة الفاتحة كل ليلة قبل النوم أمام صورتك المعلقة في الصالون، والتي كانت أمك قد أسرعت بتكبيرها ووضعها داخل برواز أمام سريرك بعد أيام قليلة من دفنك، كأنما تنتظر انتقال روحك إليها.

لم يكن أخوك الأصغر في البيت حينئذ، وعندما رجع فورًا بعد أن علم بالأمر؛ دخل إلى حجرة الصالون متمنيًا أن يكون وقت كاف قد مر لتغطية وجهك.. بالفعل وجد هزالك متواريًا بالكامل تحت الكوفرتة نفسها التي كنت تغطي بها جسدك كليًا أثناء النوم على النحو ذاته، كأنما كنت تتمرّن على وضعية الموت.. وجد أيضًا أخاك الصغير يجلس على الكرسي بجوار سريرك، وقد وضع رأسه بين كفيه منتفضًا بنهنهات متقطّعة، وحينما طلب منه التماسك والخروج من الحجرة؛ رفض مترجيًا أن يتركه معك لمزيد من الوقت.. خرج أخوك الأصغر إلى الصالة متفاديًا التطلع إلى وجوه الأقارب والجيران وبعض أهل الشارع الذين ازدحم بهم المنزل سريعًا، كأنما كانوا مختبئين دائمًا في فراغه حتى وصل إلى المطبخ حيث كانت شقيقتك الكبرى تقف هناك وحدها بملامح ذاهلة، أشبه بكدمات مرتعشة، منحوتة بدموع بكائها المتواصل.  

لكل بكاء ذاكرة.. تاريخ غائم أو ماض أكثر وضوحًا مما يمكن احتماله.. ربما استعادت أمك وهي تحتضن رأسك تلك اللحظة التي قدمت فيها بلاغًا ضدك ثم عادت ومعها شرطي إلى البيت كي يقبض عليك قبل أن يتدخل أبوك بإيقاف مؤقت وزائف لذلك الفصل الجديد من الكابوس، أو تلك اللحظة التي دعت ربها فيها أن يصيبك بالشلل، ثم بدأت تشعر بعدها بتنميل في ذراعك كإشارة دامغة للتطوّر الذي سيحوّل جحيمك الأزلي إلى مصير محتوم.. ربما استعاد أخوك الأصغر وهو يتأمل جسدك المغطى بالكوفرتة تلك اللحظة التي جذبك فيها وأنت عاجز عن الحركة من فوق المقعد الذي كنت تجلس عليه بجوار باب الشقة ليسقطك أرضًا ثم يجثم فوقك، ويضرب رأسك بلكمات متتابعة لم يوقفها سوى صرخات أمك.. ربما استعاد شقيقك الصغير وهو جالس بجانب جثتك تلك اللحظة التي أمسك فيها بجسدك ليرتفع به فوق سرير حجرتك القديمة، ويحاصرك في زاوية الحائط الملاصق له، ثم ينهال على وجهك بالصفعات القوية المتلاحقة، التي أجبرك الصداع الناجم عنها على لف رأسك بمنديل كبير طوال ما تبقى من اليوم.. ربما استعادت شقيقتك وهي تقف في المطبخ تلك اللحظة التي طلبت فيها من أمك بحدة حاسمة أن تدعو عليك بالشلل، متساءلة عما تنتظره حتى تفعل ذلك.

كان هذا أقصى ما بوسعهم القيام به في مواجهة شتائمك العاتية طوال الوقت، ومطواتك المشهرة دائمًا في وجوههم، وولاعتك المجاورة لجركن الجاز وراء باب حجرتك المغلق، وحطام أشياء المنزل التي ظلت تتناثر أسفل يديك وقدميك، ومهانتهم التي لم تتوقف عن توزيعها بين الناس.

لكن هذا ليس كل ما بقي منك.. تركت أيضًا صورًا فوتوغرافية كثيرة لحياتك مع أصدقائك في سنوات الثمانينيات، تخلصت أمك وشقيقتك بعد موتك من معظمها كي لا تتسبب “الآثام” التي تجسّدها في عذابك داخل العالم الآخر.. بدا كأنهما بهذا التواطؤ تستغلان ذكرياتك للتطهر من “ذنوبهما” التي لا تتعلّق بك وحدك.. تركت كذلك دفترًا يضم كتاباتك في تلك السنوات، عرف شقيقك الأصغر من أخويه بعد موتك أنك قد أوصيت به إليه خلال الفترة التي سبقت رحيلك حيث لم يكن هناك كلام بينكما.. أخذ شقيقك الدفتر بالإضافة إلى مجموعة من الصور الناجية من الإبادة، وظلت تلك الحصيلة كامنة في بيته زمنًا طويلًا جدًا.. في نهاية هذا الزمن، وبعد قراءة الدفتر والتمعن في الصور مرة بعد أخرى؛ أدرك شقيقك أن أباك كان محقًا حينما اعتقد أن أصدقاءك هم الذين قتلوك بطريقة خفية أثناء زيارتهم لك في ذلك اليوم.. ما هي تلك الطريقة؟.

……………..

*جزء من رواية “نصفي حجر” ـ قيد الكتابة.

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون