نسخ من من ديوان “وردات في الرأس”

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

الليل

هذا الليل منذ متى لم يتكسر إلى قطع بحجم الليالي

كل ليلة تفرد رايتها ابتداء من الغروب

وتطويها مع الفجر

راية جديدة مع كل ليلة

نتطلع إليها بعيون أفاقت لتوها من النوم

وتنتظر في امتداد الوقت أن تنفتح تماما.

لكنه ليل حقيقي

ليل مدينة بعيدة على الحدود تنام في الثامنة مساء

 ليل أجداد أمي وهم يَقتلون ويُقتلون

في حروب ساخنة لقاء ثأر أو حفنة من المال.

ليل مستقيم بطول الشارع

لا ينحني لحظة لاسترداد قطعة نقود سقطت

ليل يندفع من مواسير الغاز الطبيعي

ليلتف على كل الشقق يطوقها

لتصبح الحياة كلها في قبضته المتينة.

وفي الصباح –تلك الكلمة العزيزة-

يمد الواحد منا قدمه ليخبط حائط السرير

ويستعيد الحلم القصير الذي رأى نفسه فيه

وهو يتوه في مهرجانات نهارية مع جموع لا يميز فيها أحدا

يسير ويتعثر وعيناه وسط رأسه

والبعض يؤكد أن التجول وحده كاف في هذه اللحظات

لتشذيب الروح

وكلما سرت استطعت أن تجمع في جرابك السري

ما لا عين رأت.

لكن هذه الفتاة لا أريد أن أبكي من أجلها

بكيت كثيرا من قبل وذلك يكفي

حتى أن الدموع صارت مياها

والمياه صارت بحيرات صغيرة

تحوطني أينما ذهبت

وفي الحقيقة لم أكن أذهب

كنت تحت اللمبة لعام كامل

محاولا باستحالات معممة فهم أي شيء

حاولت أن أطير بجناحين شمعيين

الشمس نفسها تركتني أفعل

الأصدقاء ربطوني بحبل

واستعدوا بملاءة كبيرة لأسقط فوقها

لكنني لم أكن أبكي

ولم يطر جناحاي الشمعيان

كنت أربت على كتفي بكلمات من قبيل:

ماتوا يا قلبي

دون أن يعرفوا شساعتك

دون أن يخلعوا أحذيتهم ويستريحوا قليلا

جذبنا حبل مركبهم

ثبتناه بكل قوة على الشاطئ

فرشنا ظهورنا ليعبروا عليها

لكنهم يا عيني

ماتوا من غير أن يلمسوا أيدينا

ماتوا في أماكنهم

التي اتسعت فقط لموضع أقدامهم

خذوا شساعة قلبنا

خذوها معكم إلى المياه العميقة

دعوها تنبت في أرواح الحيتان

علها تكف عن انتحارها الجماعي

عل البحر ينهمر بحنان –لم نطله- على الرمال.

 

السمكة كانت تتقلب على الشاطئ وتقفز عاليا، أمسكتها بيد مرتعشة، كنا نرتعش نحن الاثنان وكلما حاولت أن أعيدها للماء خارت قواي وبعدما أستعيد نفسي للحظة أنجذب للغثيان مرة أخرى وأصحو والملوحة في فمي.

 

خذونا إلى البار إذن أيها الأصدقاء المكافحون

اغسلوا فمنا بالكحول

مرغوا رؤوسنا على الموائد

ضعوا بأنفسكم أيدينا على وجوهنا

لا تمسحوا دمعاتنا

دعوها تسقط من نفسها

اتركونا مبللين

كقطعة خبز بجانب الحائط

وعندما ننتهي عودا بنا في عربات مسرعة

ألقونا فوق الأسرّة دون أغطية

والخراطيم التي تمتد من أنوفنا إلى جنة الأكسجين

انزعوها مرة واحدة

دعونا بلا أمل واحد حقيقي

وسنعرف كيف ننجو.

 

 

في السجن كانت الحوائط عالية ومع ذلك يحني الرجل قامته لئلا يخبط السقف، في الزنزانة، في الممرات، في الحبس الانفرادي، التراب يتجمع كثيرا تحت سريره لكنه لا يزيله، تركه حتى صار كومة كبيرة وضع عليها بعض الماء، تشكل الطين في يده، صنع رجلا وامرأة متعانقين ثم طور الفكرة، صنع ترعة وغيطا مزروعا وبعض الماشية بيتا بحجرة واسعة وحمام ثم أدخل المرأة إلى البيت والرجل إلى الحقل، في المساء أعاد تعانقهما متمددين هذه المرة. في اليوم التالي جعل مساحة البيت بطول السرير واستغنى عن الرجل والمرأة وبقى وحده في بيته الطيني لا يحني قامته فقط لكنه يحني جسده كله ليتمدد مرتاحا في ظهيرة قاسية.

…………………………

 

الرحيمة

 

أغلقنا الباب خلفنا

تأكدنا تماما من فقدنا للمفاتيح

على النافذة وضعنا قطعة خشب كبيرة

أطفأنا جميع الأنوار

وتمددنا تحت الملاءة

صرتُ عود ثقاب مستعمل

وصارت

حفنة تراب لا تجد أية رياح تذروها.

 

خرجت في ثيابها البيضاء

مشت باتجاه البحر

جمعت قواقع وسمكة كبيرة

كانت تود العودة للبيت

لكن الليل أمسك بفستانها

فأطلقت السمكة للبحر

ووضعت قدميها داخل قوقعة ونامت.

في الصباح تمددت القوقعة

حتى طالت رأسها الجميل

كان وشيش البحر في أذنيها

وكانت تنام أكثر.

 

وراء الكلمات كانت تتمشى قليلا

تحاول رجها

الوصول إليها من الناحية الأخرى

كانت تود أن تعرف

لماذا تتجمع في حديقة

_ في حوض الزهور بالتحديد_

لماذا تنمو سريعا

ولا تنطفئ في اليوم التالي.

كان لشجرة الورد

ظل على فراشة ترتاح قليلا

الثعبان الرفيع اعتصر رحيق التويجات

جاءت سحلية ومشت

جاءت يد وهذبت الشجرة

اليد نفسها أحرقت التالف منها

الشجرة العارية ارتاحت إلى شكلها

لكن الكلمات كانت تنمو سريعا

لو تركتها لساعات أخرى

لأكلت نفسها

الرحيمة مزقتها كلها.

 

جئت إليك من البيت

وجئتِ إليّ من العالم

يدي على بطنك

وحبي على السرير

تشفطينه في نفس واحد

أعطيك المزيد

ويدك على عيني

لا مزيد

الدمعة تتخلل أصابعك

لا دموع

أعود إلى البيت

وتعودين إلى العالم

أنا هنا

وأنتِ هنا وهناك.

 

وداعا

أريد أن أقولها

تلك الكلمة الأقرب للاحتضار

التي ما إن ينطق بها

إلا وتنهمر دمعة على وجه شاحب

وساقين ترتعشان

أريد ان أقولها مرة واحدة

بصوت عميق

وعينين ثابتتين

كأنني أقول: أحبك

كأنني أقول: لنبدأ من جديد.

 

                                                           الجسر

 

نام فوقه الجنود الأستراليون والأفارقة

أثناء الحرب الثانية

الأفارقة تحديدا كانوا يزأرون طوال الليل

سمعتهم أمي

ودون أن تعرف الغابة

أكدت أنهم قادمون من هناك.

نام تحته ضفدع كبير

بدوره كان يؤرق نوم الخواجة ” جرين” صاحب

أشجار المانجو الوارفة.

 

كان ذلك في الأربعينيات

حينما كانت الحياة حياة

كما أكد الجميع.

 

الخطوات المتعاقبة

أسقطت منه لوحا رئيسيا

دون أن يظهر أي مسمار

الأقدام الحافية تعبر دون خوف.

مع الامطار

يشبه ابنة الخواجة

السمينة البيضاء

مع الرياح

هو الطفل الذي يلبس جلبابا على اللحم

في الحرارة

ساق فلاح ويديه.

 

كان ذلك في الأربعينيات

حينما كانت الحياة حياة.

 

عربات الكارو شقيقاته الصغيرات

يهدهدهن جيئة وذهابا

الدّرّاجات ليست في هذه المنزلة

فقط يؤمن لها عبورها السريع

لكنه يأس من هذا الغبار الغريب

القادم من أشياء يسمونها نارية أو بخارية

يأس حتى أسقط بنفسه

أربعة ألواح دفعة واحدة.

 

السبعينيات لم تكن سيئة تماما

عبرته مرات على كتف الأب

بين ذراعي الأخ في يد الأم

ومرات منفلتا

ضربت بأحجار صغيرة

بعض أشجار المانجو

صحيح أن الحجر لم يطل ثمرة واحدة

لكن هناك من تسقط من نفسها

كما أنني أحببت بنتا بيضاء

عاشت مع عائلتها

في منزل الخواجة بعد رحيله.

 

سنواتي العشر الأولى في السبعينيات

كافية لأن تكون لي أيام

أمصمص من أجلها شفتي

وأترحم على الحياة

حينما كانت الحياة حياة

كما أكد الجميع.

ــــــــــــــــــــــــــــ

دار ميريت ـ 2001

 

عودة إلى الملف

 

مقالات من نفس القسم

خالد السنديوني
يتبعهم الغاوون
خالد السنديوني

بستاني