نجيب محفوظ نبيا

محمد فرحات
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

محمد فرحات

القصص التاريخي عند نجيب محفوظ وروايات “عبث الأقدار 1939″و”رادوبيس1943 ” و”كفاح طيبة 1945″. تمثل تلك البذرة التي انبسقت شجرة مكتملة فيما تلاها من أعمال، ما بين الفكرة الفلسفية و الإسقاط والملحمية. كان التطور الميكرسكوبي الذي سارت فيه رواية محفوظ فيما بعد، “عبث الأقدار”1939 وفكرة الصراع مع القدر، نبوءة تلقى أمام ملك مصر الحكيم “خوفو” تقض مضجعه، تخرجه من طور الحكمة، ليسعى لقتل التحدي الغيبي في مهده و لايدري أنه بذلك يمكن لسيرورة القدر الحتمي الحدوث، فهناك في أحد المعابد القصية يولد لأحد الكهنة من سيملك بعد “خوفو” بدلا من ولي عهده، هي فكرة توراتية تؤكد ذات الحكي، فقد قضت نفس النبوءة مضجع “فرعون”، وكان الصراع مع القدر أحد عناصر تكوينه في الحالين، والفارق هو ذلك الإطناب والتأكيد على الفكرة في السرد المحفوظي والاختزال والتكثيف في القصص التوراتي وبشكل أكثر اختزالية في القص القرآني.

وإذا كانت الفلسفية هي نقيض موضوع اللاهوتية فإن سردية محفوظ هي مركب النقيضين لتمثل الديالكتيك الجدلي الهيجلي عند محفوظ، فالوليد موضوع النبوءة ينشأ وينمو في قصر كبير مهندسي هرم خوفو ليلتحق بالجيش، بل يصطفيه ولي العهد ليكون قائدا لحرسه الخاص، وإن كان موضوع النبوءة التوراتية “النبي موسى” ينشأ في قصر فرعون ويقود ثورة تقتلعه من قصره وعرشه غريقا في أمواج البحر المتيبس لحين، ليصبح عنصر هلاك، إلا أن قائد الحرس موضوع النبوءة المحفوظية ينقض على مؤامرة ولي العهد لاجتثاث أبيه الملك خوفو، ليصبح عنصر نجاة لخوفو المحتضر على فراش موته الطبيعي .

الفكرة الفلسفية كانت دائما معانقة للاهوتية عند نجيب محفوظ، لم تكن فلسفة خاصة ناتجة عن أطروحات فكرية تمثل المقدمات لتخطو نحو النتائج المتسقة، لتشكل النسق الفلسفي الخاص بمحفوظ الفيلسوف وإنما كانت دائما تحليلاً وتفاعلاً مع اللاهوت لتنتج الروائي والسارد محفوظ، لتشكل تيمة متلازمة في السرد المحفوظي الذي بلغ ذروته في “أولاد حارتنا” وبدرجة أقل في “الحرافيش” إلا أن البداية كانت في روايته الأولى “عبث الأقدار” 1939 .

وكان الإسقاط التاريخي على الواقعي السياسي القضية الثانية لروايته الثانية “رادوبيس” تلك الغانية التي عشقها الفرعون “مرنرع الثاني” …الملك الشاب الذي احتدم الصراع بينه وبين رجال الدين حينما أراد انتزاع ملكية المعابد لثلث أراضي المملكة لصالح نزواته ولرغبته في الاستقلال عن سلطة رجال الدين المستبدة، ليثور الشعب تحت قيادة كهنته ضد ” الملك العابث”، وكان ذلك إسقاطا واضحا على ما أشيع وقتها ضد الملك الشاب “فاروق الأول” ومجونه ونزواته .

ويتلاحم السرد مع اللاهوت الذي يحكي عن تلك الغانية التي يقع الراهب في حبائل عشقها لتقوده لمطارحة الهوى معها، مضحيا بمكانته وقداسته ليقدمها قربانا على مذبح الرغبة الإنسانية التي لافكاك منها .

يستبدل نجيب محفوظ شخصية الراهب بشخصية الفرعون الذي يجسد منصبه اللاهوتي قبل الدنيوي، فالفرعون ظل الإله المعبود على الأرض، بل كان هو الإله المعبود ذاته، لينجح نجيب محفوظ في تشكيل الرمز أيما نجاح في” رادوبيس”، لنجد أنفسنا للمرة الثانية في اشتباك ما بين اللاهوتي و الفلسفي، ليعبر عن فكرة ثانوية لا تبعد كثيرا عن نظرية الحكم في اللاهوت والفلسفة وهل هي فكرة قدرية الوهب والنزع، أم هو تعاقد دنيوي مؤقت ما بين الحاكم و المحكوم على شروط يرتضيها الطرفين لتختل العلاقة بين الطرفين إذا تم تجاوز تلك الشروط من قبل الحاكم في الغالب، هذه التعاقدية التي إن اختلت، اختلت معها دفة الأمور نحو الفوضى وانفراط عقد المجتمع، حتى في أكثر المجتمعات خنوعا.

ليرحل الملك العابث بحركة الجيش التي تحمست لها الجماهير ولو لحين، ويقتل الفرعون الشاب مرنرع في ثورة شعبية حاشدة، لتبرز قدرة محفوظ العبقرية في التنبؤ السياسي، خاصة إن علمنا أن تاريخ كتابة ” رادوبيس” كان عام 1943 .

ليظهر دور جديد لمحفوظ لا يبعد كثيرا عن تيمة تزاوج اللاهوت و الفلسفة وهو دور “النبي” الذي يلقي بنبوءة بين أسطر روايته وكما تنبأ في “رادوبيس” بنهاية الملكية المصرية، تنبأ أيضا في “ثرثرة على النيل” و”ميرامار” بهزيمة النهج الثوري الناصري الاشتراكي فازدواجية الفيلسوف / الروائي قد أوجدت في النهاية دور “النبي” الذي يلقي بالنبوءة تلو النبوءة في طيات كتبه .

يستسلم نجيب محفوظ تماما للسرد التاريخي الملحمي الغير مرمز في “كفاح طيبة” 1945 وقصة نضال المصريين الوطني ضد المستعمر الأجنبي مستعرضا قصة تلاحم الأسرة الفرعونية الملكية بداية من سيكننرع مرورا بكاموس منتهيا بأحمس وقصة فرعية عن الغرام المتقد بين أحمس وابنة آخر ملوك الهكسوس “أبوفيس”.

(ألا تصلح رواية ” كفاح طيبة” مقررا على طلبة الثانوي بدلا من ” و إسلاماه ” المقررة على طلبة الثانوي من نصف قرن كقدر لا يتغير!!؟)

نقف في النهاية على حقيقة أن القصص التاريخي عند نجيب محفوظ يمثل محطة أولية أعقبتها انطلاقة روائية عبقرية تمثل بحق ذروة الكلاسيكية الروائية العربية، وأن نجيب محفوظ سيظل الأيقونة الخالدة للرواية العربية والمثل الأعلى لأي روائي عربي لقرون آتية.

مقالات من نفس القسم