“موت إيفان إيليتش” .. الموت كوسيلة لتأمل الحياة

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

لعل مفتاح عبقرية الروائى الروسى الفذ ليف تولستوى (وربما ينطبق ذلك أيضا كبار المبدعين الروس من ديستوفيسكى الى تشيكوف)، أنه كان مزيجا مدهشا بين المفكر والفنان، لديه ما يقول من تأملات وأفكار، ولديه أسئلة تشغله وتؤرقه، ولكنه يعرف كيف يطرح ذلك بفن، ويدرك أن أفضل ما يفعله لخدمة فكرته، أن يخلص أضعافا مضاعفة للفن الذى يكتبه.

يتضح هذا التمكن الفنى فى استخدام مادة ضخمة تنتج عددا ضخما من الصفحات كما فى روايتى “الحرب والسلام” ، و”آنا كارينينا”، مثلما يتضح كذلك فى العمل على مادة محدودة تنتج رواية قصيرة (نوفيلاّ) من عيون الأدب العالمى هى “موت إيفان إيليتش” الذى صدرت ضمن المائة كتاب فى سلسلة آفاق عالمية، التى تصدرها هيئة قصور الثقافة المصرية ( العدد رقم 13). هذه السلسلة من أهم وأفضل ما يصدر من ترجمات لأبرز الأعمال الأدبية العالمية فى مصر، وقد ترجمت رواية تولستوى وقدمت لها مها جمال، ولأن الرواية قصيرة بالفعل، ولا تتجاوز صفحاتها 95 صفحة من القطع الصغير، فقد أضيفت الى  الطبعة مجموعة من قصص تولستوى القصيرة البديعة، والتى لا ينحاز فيها إلا الى الإنسان، ومرة أخرى يبدو الفنان عملاقا بالذات عندما يطوع أفكارا صعبة، ليصوغ منها تمثالا ضخما، أو عملا نحتيا صغيرا، أو حتى قطعة من المنمنمات، كلها قوالب يمتلكها، ولا يخضع إلا لحرفة السرد عندما يكتبها، أما عندما يريد أن يفكر بصوت أعلى، فإن تولستوى كان يلجأ الى الكتابة المباشرة، التى تتيح له أن يشرح وينظّر ويسأل بشكل صريح، هكذا فعل مثلا فى كتابه الشهير :” ما الفن؟” ، وفى الكثير من تأملاته المكتوبة.

الموت هو محور رواية “موت إيفان إيليتش” الكبير. ليس الحدث نفسه الذى قد لايستغرق ثوان معدودات، يعود بعدها الإنسان جسدا بلا روح، ولكن ما يفعله فينا هذا الحدث الذى لا استثناء فيه. تولستوى يعمل  هنا فى إطار ثلاثة أشهر هى الفترة ما بين إصابة إيفان إيليتش قاضى المحكمة، وموظف الدولة الكبير، بآلام مفاجئة فى جنبه، وبين لحظة وفاته. لا يغادر تولستوى تلك الأشهر الحاسمة إلا ليبدأ روايته بجنازة إيفان، ثم يقدم لنا فى صفحات قليلة تاريخ إيفان الوظيفى قبل المرض، فيما عدا ذلك، فإن الرحلة فى جوهرها داخل عقل رجل يقترب من الموت باليأس والألم، ويبتعد عنه بالدواء والأمل، الموت هو بطل الرواية الحقيقى الذى يلوح فى اسمها، وفى افتتاحية الجنازة، وفى النهاية أيضا :” لقد انتهى!”، قالها شخص ما بجواره”. سمع تلك الكلمات، ورددها داخل روحه. “انتهى الموت”، قال لنفسه، “لم يعد موجودا!”. . سحب نفساً، وفى منتصف الشهيق، تصلّب، مات. “

موت إيفان لم يكن بالنسبة لزملائه القضاة إلا فرصة لكى يحلم بعضهم بأن يحتلوا منصبه، لكى يزيد دخلهم، وفى الجنازة، تسأل الزوجة القاضى زميل إيفان عن إمكانية زيادة المعاش، الأحياء عموما يتعاملون مع موت الآخرين بأنه أمر بعيد عنهم، عندما تسمع خبر وفاة شخص ما، فإن الحزن يقترن بفرحة النجاة، لإنه هو الذى مات، أما نحن فما زلنا أحياء. هذه الفكرة يكررها تولستوى مستعينا بقدرته الفذة على تحليل النفس البشرية، ولكن ماذا سيفعل انتظار الموت فى إيفان الموظف العمومى، والذى يصفه وكأنه يصف ملايين غيره بقوله :” كانت حياة إيفان إيليتش بالغة البساطة والعادية، ولهذا كانت بالغة الفظاعة” .

إيفان نموذج لطبقة الموظفين، والده كان عضوا بالمجلس الإستشارى الزائد عن الحاجة فى مؤسسة زائدة عن الحاجة، ولكن إيفان امتلك طموحا أكبر، فبعد حصوله على شهادة القانون، بدأ المشوار متأهلا للدرجة العاشرة للخدمة المدنية، والتحق بمكتب حاكم إحدى المقاطعات، فى مكتب الخدمات الخاصة، ثم انتقل الى العمل القضائى، فأصبح قاضيا للتحقيق، ثم وكيلا للنيابة، ثم صار قاضيا من أعضاء المحكمة، وفى كل وظيفة، حاول إيفان أن يفصل بين حياته الشخصية وعمله الرسمى، ولكن ظلت علاقته الدائمة بالأوراق المكتوبة، أو بورق اللعب، لم يكن يجد وسيلة للتسلية سوى فى لعب الورق.

ومثل أى صاحب منصب تزوج، ثم أنجب أولادا لم يبق منهم إلا فتاة فى سن الزواج، خطبت لابن قاض مرموق، وصبى ما زال فى مرحلة الدراسة، ومثل أى موظف كبير استأجر بيتا وخدما، وقضى وقتا طويلا فى تجهيز ستائر وديكورات منزله، وأشيع غروره وهى يسمع عبارات الإنبهار من وزوجته وابنته وابنه بعد أن شاهدوا المكان، رغم أن المنزل لم يكن، بكل ما فيه، إلا تقليدا رخيصا لمنازل الطبقات الأرستقراطية. كان إيفان وأسرته أيضا نسخا مزيفة للأثرياء، فئة ليست فقيرة، وليست أرستقراطية أصيلة، وإنما هى معلّقة بين الاثنين.

يربط تولستوى بين وقوع إيفان أثناء تركيب ستائر منزله، وبين الآلام التى ستهاجمه بعد مرضه، إيفان ايضا يساوره الشك فى هذا الربط، رغم أنه قد لا يكون صحيحا من الناحية الواقعية، ولكنه يحمل دلالة رمزية واضحة، ذلك أن إيفان سيصف صعوده المادى بأنه هبوط، تماما كما تلقى بحجر فى الهواء ، فيسقط بسرعة أكبر، المنزل كان عنوان الصعود، وعنوان السقوط معا، فيه كان المرض، وفيه تألم، وفيه حدثت الوفاة.

ولكن تولستوى يغوص ببراعة داخل عقل وهواجس بطله الذى يتأرجح بين الأمل واليأس، المرض يلوّن نظرته للأمور: الطبيب بالنسبة له رجل يكذب، يمارس سلطته عليه، مثلما كان يمارس هو سطوته على كل متهم، علاقة إيفان بزوجته تسوء، كانت علاقتهما مضطربة دوما، ولكنها أخذت شكلا أسوأ بعد المرض، الزوجة تتهم إيفان دوما بعدم أخد الدواء، تضع عليه اللوم فى كل مرة، يشعر إيفان أنها تريد أن تتخلص منه، ولكنها تعرف أن موته لن يحل مشاكلهم المادية، المعاش أقل من الراتب، الابنة تزور والدها وكأنها تؤدى واجبا، ثم تهرع مع خطيبها لكى تلحق بمسرحية لسارة برنار فى دار الأوبرا، لا يستشعر إيفان تعاطفا إلا من خادمه الريفى المخلص، ومن ابنه الصغير.

يتقلص الجسد، يتغير، تفقد الساعات والدقائق معناها مع ساعات جلوسه الطويلة، وحيدا، يحتاج الى مساعدة الآخرين، حتى أثناء قضاء حاجته، ثم يبدأ الألم الرهيب فى الكُلى، ينطلق العقل فى اسئلته، يبكى إيفان كطفل :” بكى لإحساسه بقلة الحيلة، ومن وحدته المرعبة، وقسوة البشر، وقسوة الرب، وغيابه” . تساءل : “لماذا تفعل بى كل هذا؟ لماذا أحضرتنى الى هنا؟ لماذا، لماذا تعذبنى بتلك القسوة؟” ، يواصل تولستوى الكشف عن أفكار بطله الوحيد:” لم ينتظر إجابة، وبكى، مع ذلك ، لأنه ليست هناك إجابة ولايمكن أن تكون، ومن جديد أصبح الألم أكثر حدة، لكنه لم يتحرك ولم يستدع أحدا، قال لنفسه : استمر، اضربنى! ولكن لماذا كل هذا؟ ماذا فعلت لك؟ لماذا كل هذا؟”.

فى تلك اللحظات القاسية يتمنى إيفان بغريزة الحياة أن يعيش مثلما كان، فيخرج من داخله سؤال أعقد: ” وهل كان يعيش حقا؟ هل كان سعيدا؟”، عندما يعود إيفان الى ماضيه، لايجد ما يستحق السعادة سوى لُحيظات من طفولته، يؤدى استدعاؤها الى مزيد من الألم. ممددا بلا حول ولا قوة، يكتشف إيفان زيف عالمه، وزيف فكرة صعوده نفسها :” كان يبدو وكأننى أنزل الى الوادى فيما كنت أتخيل أننى أصعد. كنت أصعد بالنسبة للرأى العام، لكن بنفس النسبة كانت الحياة تنحسر بداخلى، والآن، انتهى كل شىء، ولم يتبق سوى الموت” .. ” بدأ يراجع حياته بطريقة جديدة تماما، وفى الصباح عندما رأى الخادم، ثم زوجته، ثم الطبيب، كانت كل كلمة وحركة منهم تؤكد له الحقيقة المرّة، التى تكشفت له خلال الليل، رأى نفسه فيهم، كل ما عاش من أجله، ورأى بوضوح تام أنه لم يكن حقيقيا بالمرة، بل كان خدعة كبيرة ومرعبة تخفى حقيقة الحياة والموت” ، تعذب إيفان نفسيا بهذا السؤال الذى طارده بلا رحمة: ” وماذا لو كانت كل حياتى خطأ؟”.

الأفيون يسكّن آلام الجسد، ولكن الروح التى أدركت حقيقتها العارية تتعذب، ثلاثة أيام كان صوت إيفان الصارخ من الألم يشق جنبات منزله، صراخ فى الميلاد، وصراخ فى الوداع، كان محشورا فى حقيبة الموت، يحاول أن يدخلها، عندما قبّله ابنه لمح ضوءا لأول مرة، تساءل عما يكون الصواب، تعود على الألم، لم يعد يخشى الموت، تخلص منه، احتضر ساعتين، ثم مات. يقدم تولستوى أحد أعظم مشاهد الموت فى تاريخ الرواية، مزيج مدهش بين آلام المرض، وآلام الميلاد الجديد، وكأن لحظة النهاية بالنسبة لإيفان، لم تكن فى حقيقتها سوى لحظة تنوير، بداية اكتشاف الحقيقة أخيرا، حقيقة حياته ، وحقيقة الأخرين، وكأن الألم ليس إلا  تعبيرا عن صرخة الكشف، وصدمة مواجهة الذات.

“موت إيفان إيليتش” هى أيضا بنفس القدر رواية عن الحياة، قال نجيب محفوظ ذات مرة :” موت إنسان هو أعظم مناسبة  للتفكير فى الحياة وليس فى الموت. علينا أن نسأل أنفسنا :” وماذا فعلنا ونفعل  نحن بحياتنا؟”،  لا أجد أفضل من عبارة محفوظ للكشف عن مفتاح رواية تولستوى العظيمة، بل لعل محفوظ استلهم عبارته من معنى رواية تولستوى. البساطة المذهلة فى السرد تخفى  فى الرواية أسئلة مفزعة عن ماهية الحياة ، ماهية الموت، ماهية الألم، أسئلة عن علاقة الإنسان بذاته، وبالآخرين، عن الفارق بين أن نعيش أو أن نحيا بالفعل، هل الألم عقاب أم أنه تطهر؟ هل الموت فناء أم أنه لحظة اكتشاف وتأمل لحياتنا بأكملها؟ هل الموت كارثة أم أنه اللحظة الحقيقية الوحيدة التى نعيشها؟ هل الخلاص يكون بالحياة أم أنه قد يكون بالموت أيضا؟

لا مثيل لهذا العمق الذى طرق به تولستوى موضوعه فى صفحات قليلة، ومن خلال حدث واحد فقط. كان تولستوى يمتلك بصيرة الفنان، التى تجعله يقرأ أعماق العقل والنفس والروح، لعله كان يكتب نفسه فى كل مرة رغم  تغير الأسماء، كان إيفان أحد أقنعة تولستوى لكى يطرح أسئلته التى تؤرقه، راجع الروائى العظيم حياته بأكملها، وقام بتغييرها قبل أن يموت، لم يتنظر اللحظة الأخيرة مثل إيفان، تراه كتبه ثم تعلّم منه؟ كان اللورد بايرون يقول عن بصيرته الفنان : ” إنهم ينظرون، ولكنى أرى”، وأحسب أن هذه العبارة تنطبق أيضا على تولستوى، وعلى كبار مبدعى الرواية الروس : كنا ننظر، فأصبحنا نرى الحياة، بفضل ما كتبوه، أعمق وأوضح.

مقالات من نفس القسم