من لغو الصيف: هذا “الإيجاز” الذي يجتاحنا!

من لغو الصيف: هذا “الإيجاز” الذي يجتاحنا!
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

رشيد الأشقر

في الوقت الذي يحصر فيه تفكيرنا النقدي العربي المعاصر ظاهرة “الإيجاز النصي” داخل أشكال أدبية بسيطة كالنص الحكائي أو الشعري أو التأملي.. نجد الفكر النقدي الغربي يتجاوز هذه النظرة الضيّقة للموضوع ليتناوله في عمقه الإبستمولوجي والإستيتيقي باعتبار “الإيجاز” مركزا للنظر والتفكير بدل الاقتصار على تأمّل تجلياته وتمظهراته النصية المختلفة، وباعتباره أيضا ظاهرة تعبيرية كاسحة تجتاح اليوم مختلف مظاهر و سلوكات حياتنا اليومية، من شاشات الهواتف و اللوحات الإلكترونية المحمولة إلى أنماط الخطابات و التعبير الإنساني الفني و الرمزي.

ففي المؤتمر الدولي للنص الوجيز الذي نظمته قبل شهرين جامعة “سان غالين” بسويسرا، اختار المنظمون موضوع “لنعش الإيجاز: أشكال التعبير القصيرة جدا في الفنون الأخرى” محورا لأشغال الدورة العاشرة للمؤتمر الذي جرت فعالياته ما بين 21 و 23 من شهر يونيو الأخير. و يعتبر هذا المؤتمر من أكبر التظاهرات الأدبية و النقدية العالمية التي تُعقد حول ظاهرة الإيجاز في مختلف أشكال التعبيرالأدبي. و يحضرها كبار الأكاديميين و المتخصّصين و المبدعين من مختلف قارات العالم. و يعود الفضل لهذا المؤتمر،عبر دوراته التسعة السابقة، في إفراز عدد من التنظيرات و المقاربات الحاسمة في فهم و تفكيك و تأويل هذا الصنف من الخطابات الأدبية الموسومة بالإيجاز و الكثافة و الإيحاء.

ومن مستجدّات الدورة العاشرة من هذا المؤتمر أنّها لم تكتف كسابقاتها بدراسة قضايا النص الوجيز حصريا في المجال الأدبي (القصة القصيرة جدا و بعض الأنواع الأدبية القريبة منها)، و إنما استهدفت الانفتاح على كافة أشكال التعبير الإنساني الوجيزة، خاصة في المجال الفني (السينما، المسرح، الموسيقى، الباليه ..) ومجال التواصل الاجتماعي الوسائطي (الفايسبوك، التويتر..). لذلك انصبت أشغال المؤتمر على التأمل والتفكير في عدد من الممارسات التي دأبت على إقحامنا صباح مساء داخل عوالم “ الميكرو”، وتجبرنا بالتالي على استهلاك خطابات جديدة ( فنية و اجتماعية) من سماتها الأساسية التناهي في الدقة والتركيز و الانفتاح الدلالي. مثل هذه الخطابات الجديدة، أصبحت تشغل اليوم حيّزا هامّا من حياتنا المادية والاجتماعية و الثقافية، لذلك وضع المؤتمر نصب عينية التزود بما يكفي من المفاهيم و الأدوات الإجرائية من أجل مواجهة أشكال جديدة من الخطاب تغزو مستقبل وجودنا الثقافي تحت يافطة “الإيجاز”.

ولأول مرّة في تاريخ هذا المؤتمر، يحضر إلى جانب كبار المنظرين و الأدباء والنقاد والباحثين الأكاديميين من كبريات الجامعات الأوروبية و الأمريكية، فاعلون في مجالات و حقول فنية أخرى كالتشكيل والموسيقى والسينما والمسرح. وقد نوقشت على امتداد الأيام الثلاثة للمؤتمر قضايا و مواضيع لا أظن أن سبق طرحُها في تفكيرنا العربي بهذا العمق النظري و التجريب المنهجي؛ منها على سبيل المثال لا الحصر قضايا “نظرية الإيجاز”، ومفهوم “القراءة الوجيزة”، و“الطبيعة الجينية للنص القصير جدا”، و“آفاق التأليف الوجيز في المجال السمعي البصري”، و“الإيجاز في الفن الموسيقي”. كما انصبت المداخلات والمقاربات على الأنماط الجديدة للنص القصير جدا، كـ “التويترات أو أدب التويتر”، و “أشكال النص الوجيز على شبكة الإنترنيت”، و“النص االوجيز غير الحكائي”، و “النص الوجيز اللا تخييلي في الكتابة الصحفية” ..

ومن الطروحات الرائدة و المستجدّة التي ترقّبها جمهور الفاعلين و الحاضرين، العرض المثير التي تقدّم به في ختام المؤتمر المُنظّر و الناقد الألماني الكبير “أوتمار إيتي” من جامعة “بوتسدام” الألمانية في موضوع بعنوان: “ذكاء إنتاج الغباوة و مختبرات المستقبل”. كما تخلّلت أعمال هذا المؤتمر مجموعة من العروض الموسيقية و السينمائية التي حاولت بلورة و تجسيد مفهوم “الإيجاز” من خلال فنون غير لغوية (سمعية وبصرية).

وإذا كان التفكير في “الإيجاز” يُعتبر فاعلية ما بعد حداثية لم تنطلق سوى في السنوات الأخيرة، فإنّه كممارسة نصية وجمالية، قد عرفها الإنسان منذ أقدم الحضارات، وتكفي نظرة سريعة إلى التاريخ الأدبي العالمي، لنقف على أدباء من مختلف الحقب والفترات راهنوا على الكتابة القصير والتعبير الوجيز، سواء في الحقل السردي أم الشعري أم الدرامي. غير أنّ هذا الولع الفني والأدبي و العلمي بكل ما هو “صغير” و“مركّز” قد بلغ أوج ذروته خلال العقود القليلة المنصرمة، حيث غدا “الإيجاز” يشكّل مبدأ جماليا في عالم يستّم بالسرعة و الفورية و التدفّق الغزير للمعلومة عبر وسائل الاتصال و التواصل الوسائطية الجديدة. وهذا ما يسمّيه الفيلسوف والمفكر السوسيولوجي البولوني “زيغمونت بومان” (1925- 2017) بـ “المعاصرة السائلة” حيث السرعة والضغط الزمني شرطان يكيّفان سلوكاتنا المعاصرة و يحدّدان اختياراتنا الاستهلاكية. و ما القصة القصير جدا و الدراما المختزلة و الشريط السينمائي الوجيز و الأغنية السريعة و اللقطة الإشهارية الخاطفة .. سوى عينات ونماذج من هذا التوجه الجارف نحو الخطابات المقتضبة التي تصل فيها الكثافة الدلالية و التركيز الجمالي أقصى مستوياتها الممكنة، و حيث وفرة المضامين الوجيزة قد أفضت إلى انقلاب جذري في سلوكات القراءة و في جماليات التلقي.

في هذا الاتجاه إذن تمضي الكتابة الأدبية وبقية أشكال التعبير الفني وغير الفني منذ أواخر القرن الماضي وبداية القرن الحالي. إنها استجابة طبيعية لمجتمع أضحى يراهن على السرعة و الاختزال في عالم يزداد عجلةً و قلقا كلّ يوم، ممّا يفرض على “المرسِل”، كما لم يُفرض عليه أبداً من قبل، أن يقتصد في أدواته التعبيرية حتى يستطيع أن ينقل إلى “المتلقي” ما يريد قوله دون هدر للزمن . / .

………………..

ناقد ومترجم من المغرب

مقالات من نفس القسم