من الشباك .. الحياة داخل عربة ترحيلات!

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

 

الكتاب الأول للصحفي والإعلامي الشاب "أحمد خير الدين" الصادر مؤخرًا عن دار الشروق في معرض الكتاب لهذا العام، ربما يكون أو ما يلفت نظر القارئ في الكتاب أثر عمل صاحبه كمراسل صحفي على مجاولة الكتابة عن تلك الحكايات التي اقترب من بعضها وتعرف عليها بشكل واقعي، ولعل هذا ما أشار إليه في فيديو قصير نشر تزامنا مع إطلاق الكتاب.

ما الجديد أو المختلف هنا؟  إنها مجموعة من القصص أو الحكايات على لسانِ بعض الأشخاص الذين  يجمعهم ذاك الضيق وذاك الشعاع الذي يدخل على استحياءٍ من الضوء الذي يتسرب من الشباكِ الصغير فيؤذي البعض ويسعد البعض، كيف يكون لهذا الشباك الصغير انعكاسات مختلفة؟ كيف يفضل البعض الجلوس بقربه لأنه الشيء الوحيد الذي يربطه بالخارج ويشعره أنه على قيد الحياة، بينما يفر الآخرون منه لأنه يشعرهم بالحبسِ وأنهم مذلون و بعيدون تماماً عن الحياة، بل إنها كما يقول أحدهم “منحة كاذبة بما أستفيد إن رأيت النور من وراء القضبان ويداي مقيدتان؟”

وهكذا يروي “أحمد خير” في الكتاب تجارب أشخاص كان لهم مرور وأوقاتٍ خلف شباكِ عربة الترحيلات ، فتياتِ وشبان بأحداثِ وقضايا مختلفة لكن العربة خلفت آثارًا على كل واحدٍ منهم .

لجأ الكاتب لأسلوبٍ بسيطٍ في الكتابة دون أي تكلفٍ أو بذخ أراد لرسالتهِ أن تصل  .

” في المنزل أتجه كل ليلةٍ لأغلق الباب أو أفتحه بنفسي أتذكر صوت إغلاق االزنزانة عند كل مساء”
لقد انتهى كل شيء  وعاد إلى بيتهِ أخيرًا، لكن التجارب التي مررنا بها وإن مضت ومرَّ عليها الكثير من الوقت، تبقى، تبقى الشروخ في أرواحنا  دليلًا على ما مر بنا، الأيام التي نحاول تناسيها، تدق ناقوسها في عقولنا ، تؤثر علينا ونظل نسمع أصواتها داخلنا .

نحن لا نشفى بسهولة – مما مررنا به .

.

” لمحتُ أختي وصديقتي على بوابة السجن فتجنبتُ أن أتحدث إليهما وتجاهلتهما ، خشيتُ أن يحدث لهما مكروه بسببي ”

الشخص الذي يتعرض للأذى ويدرك زواياه الحادة جيدًا يخشى على من يُحب أن يقع في ذات الحفرة .

أن يتحول الشخص لصبارةٍ تخشى أن يقترب منها أحد فيتأذى، في الموقفِ الذي تحتاج فيه للحديث مع أي شخص تعرفه تقرر أن تنأى بجانبك عنهم ، لأنك منذ أن جلست بجوار ذاك الشباك صِرت خطرًا، تبتلع خوفك وقلقك وتبتعد .

.

” ألتقت عيناي براكب يقف في أتوبيس نقل عام ، ظل ينظر إليْ ، شعرت بخجلٍ شديد وطأطأتُ رأسي ، كنتُ أريد أن أخبره أني مظلومة . هل يعرفني ؟ هل سيصدقني ؟ رفعت رأسي فوجدته يرفع يديه إلى السماء داعيًا، نظر إليْ مًجددًا وطلب مني بإيماءات رأسه أن أفعل مثله ”

الحياة داخل العربة الزرقاء منفصلة عن الحياة خارجها ، وكأنها كوكب آخر يعيش معنا على لكننا لا نراه أو لا نريد ذلك، الاخرون ينظرون للعربة الزرقاء بإزدراء وكأنها عار ، لقد شعرت بالخجل بوجودها هناك حتى لو لم ترتكب شيء يدينها أو يخجلها ، هكذا تفرقنا الأماكن – وتجمعنا الدعوات .

.

” سألني ماذا أريد .. أجبته عايزة أروح  ، أبتسم وسمح لي بالجلوس ، كالبلهاء تفاءلت وظننتً أن الرأفة بحالي قد تطلقني حرة بعد دقائق “

هل كانت بلاهه منها لتظن أن بكاءها سيطلق سراحها ؟ أم أنه الأمل المعلق الذي الذي يصوَّر لنا في لحظات بؤسنا أننا – ربما قد ننجو ، كأننا أطفال قد تفيدًنا حيلة البكاء أمام الكبار .

.

” ابتسمت وانا احاول أن أتجاهل ذكرىى كل ما فعله ، إن كان هذه المرة يحمل لي خبرًا كهذا “

هل بوسعنا أن ننسى ما حدث لنا؟ وكل الأذى الذي تعرضنا له من شخصٍ ما – لأننا أخيرًا – تحررنا؟

هل تمحو النجاة الندوب التي خلفها الآخرون علينا ؟

.

لو ظل الكاتب طوال القصص يروي على لسان المسجونين فقط لقلتُ أنه انحيازٌ واضح وطبيعي لتلك الفئة المقهورة، لكنه في قصة “عبد المأمور” جاء ذلك التحول وبدأ السرد من الجهة الأخرى، الاتجاه المعاكس للقصص السابقة، لم يكتفي بالسرد من ناحية واحدة ، فعبر للجهةِ الأخرى .

ليس هذا وحسب ـ بل تطرق الكاتب محاولًا نقل مشاعر ذويهم، هؤلاء الذين يبقون خارجًا ولا يعرفون عن أولادهم شيئًا فنجد قصة ” نفس قصير ” التي جاءت على لسانِ أب “وقف عاجزًا في مكانه عاجزًا عن فعل أي شيء” كما ذُكر في نهاية القصة .

كذلك  قصة “كعب داير” التي تأتي على لسانِ أم عاد أبنها إليها بعد حبسه ، تظل تراقبه وكيف تحول وصار صموتًا ، كيف تقع في حيرة بعد ما كانت هي من تشجعه على أن يفعل ما يؤمن به ، وكيف تظن أنها كانت سببًا في حدوث ما حدث له .

.

تحتوى المجموعة تسعة عشرة قصة وخطاب، ولكل قصة  تفاصيلها المختلفة وحقيقتها المفزعة ، رغم أن القصص كلها مستوحاه من العربة الزرقاء إلا أنها بشكلٍ أو بآخر إنعكاس لحيواتنا ربما كانت أكثر قسوة عن واقعنا ، لكنها تحمله بين طياتها ، المشاعر الخائفة والمترقبة والقلقة نحن نمر بها أيضًا وإن كانت بأشياء وتفاصيل أخرى .

خُتمت المجموعة بـ “خطاب” على لسانِ فتاة باللهجة العامية كسرد حقيقي لبعض الوقائع والأحداث.

 وهكذا استطاع “أحمد خير الدين” في عمله القصصي الأوّل أن يعبّر عن عالم المسجونين، من جهة وأن يعكس واقعًا مأسوايًا نحياه كلنا نرى فيه الدنيا كلها من فتحة “شباك” صغيرة!

 

مقالات من نفس القسم