“مكتوب على الجبين”.. لا شىء أغرب من البشر!

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

ممتعة حقا تلك المقالات التى كتبها د جلال أمين، وصدرت عن دار الكرمة فى كتاب تحت عنوان " مكتوب على الجبين .. حكايات على هامش السيرة الذاتية" . فيها الكثير من الذكريات الشخصية ، والكثير من التأملات والرؤى المغايرة، كما أنها تقدم بورتريهات لشخصيات معلومة أو مجهولة، تكشف عن قدرة كاتبها على القراءة العميقة للبشر. ينظر د جلال أمين دوما الى الإنسان كمخلوق هو الأغرب والأكثر تعقيدا، وليس كرقم أجوف صامت، مثلما يفعل بعض أساتذة الإقتصاد، يمنح ذلك كتابته طزاجة الرؤية الإنسانية الرحبة، التى تساندها ثقافة واسعة، وخبرة حياتية يحملها على كتفيه رجل عاش ثمانين عاما، وعرف الناس فى مصر وفى خارجها.

أعجبنى منهج الكتاب فى حرية الجمع بين الحكى والتأمل والتحليل، وفى الإمساك بلحظات تريد الهروب من الذاكرة، وفى نقد الذات أحيانا فى بعض المواقف، ثم إنها فى النهاية مجرد نظرة ذاتية صريحة، لا تدعى الكمال أو الصواب المطلق، بل إن بعض المقالات تنتهى بعلامات استفهام، وكأنها تطلب رأيك فيما قرأت من أفكار وتأملات وأحكام، يمكن أن نعتبره منهجا ديمقراطيا تماما، مائدة متنوعة وعامرة، تستطيع أن تختار منها ما شئت، وأن تدع منها ما لا تحب.

توقفت طويلا عند بورتريهات رسمها د جلال لأفراد من عائلته: والده المفكر والأديب أحمد أمين، والدته ربة المنزل و ومدبرة شؤونه، شقيقته فاطمة ، وساوسها وسجاياها، شقيقه النابغ عبد الحميد الذى تعثرت حياته رغم تفوقه وحصوله على درجتى دكتوراه ، شقيقه  السفير حسين أمين الذى كان يشعر دوما بالتفرد والإختلاف، أقارب زوجته من الإنجليز، حتى خادم الأسرة حمامة، خصص له د جلال بورتريها مدهشا ومؤثرا للغاية، يكتب مثلا عن أمه الراحلة وعلاقتها بوالده :” كانت أمى قليلة الحظ من التعليم والثقافة، ولا صبر لها على كتاب ولا على أى مناقشة فى موضوع عام، بينما كان أبى كاتبا كبيرا يعشق الكتابة، ولا يكف عن التفكير فى الموضوعات العامة، ومع هذا كان يصدر من أمى بين الحين والآخر، ما يدل على رغبتها فى أن تسمع منا قولا يوحى بأنها ، على الرغم من كل ثقافة أبى وشهرته، أشد منه ذكاء وأرجح عقلا. كانت تقول هذا على سبيل المزاح أحيانا، ولكنها كانت تقوله فى أحيان أخرى على سبيل الجد وتتمنى لو صدقناه. كانت تتظاهر أحيانا بالسخرية ( وإن لم تكن تجرؤ على تكرار ذلك كثيرا) مما حازه أبى من شهرة، فتقول له مثلا تعليقا على مقال له حاز إعجاب القراء أكثر من غيره: ” والنبى، أنت لو لم تقل فى مقالك إلا ريان يا فجل، لصفّق الناس لك” . فيضحك أبى ويسكت”. سمعتُ أبى يقول أكثر من مرة إنه كان من الأفضل لو تزوج من امرأة أضعف شخصية من أمى، وتزوجت هى من رجل أضعف منه، وأن المشكلة أن كلاّ منهما قوىّ الشخصية، وأن هذا هو السبب فى كثرة المنازعات”. هذه الطريقة الصريحة التحليلية فى الكتابة، منحت المقالا حيوية آسرة وعمقا مدهشا فى آن واحد.

يكتب د جلال فى موضع آخر عن الخادم حمامة، فيقول: ” ربما كان حمامة فى نحو الثلاثين من عمره عندما التحق بخدمتنا، وفى نحو الخمسين عند مقتله، ولكنى لم أسمع عنه أو منه قط شىء يدل على وجود أى أثر للنساء فى حياته. لم يتزوج قط، ولا سمعت أن لديه نيّة أو رغبة فى الزواج. المرة الوحيدة التى صدر منه أى شىء يدل على مثل ذلك، كانت عندما زارتنا مرة فتاة إيطالية جميلة كان أحد إخوتى قد تعرف عليها فى زيارة لإيطاليا، ووقعت فى غرامه وكانت تتمنى الزواج منه. زارتنا فى القاهرة لهذا السبب وقضت فى بيتنا ليلة، ولكن أخى أبدى نفوره منها ورغبةً فى التخلص منها فى أقصر وقت. عندما رأت والدتى ذلك عبرت عن شعور بالعطف على الفتاة، ثم قالت ضاحكة فى وجود حمامة:” لماذا لا نزوّجها لحمامة؟”. قال حمامة بجدية تامة :” ياريت والنبى ياست”. إنها شخصية تصلح بامتياز لكى تكون موضوعا لقصة، ولكن د جلال يفضل فيما يبدو أن يعالج الواقع، ليتيح لنفسه التدخل تأملا وتعليقاً.                                                  نلمح فى المقالات بناء منطقيا متماسكا، ومدخلا جذابا، وسردا مشوقا إذا استدعى الأمر ذلك، ومحاولة أقرب الى الموضوعية، فى الحكم على الشخصيات القريبة، مثلما سيفعل أيضا وهو يستدعى شخوصا عرفها، ذكر بعضها بالاسم، مثل د سمير أمين المخلص دوما للشيوعية، ومنحنا الكثير من الصفات الدالة على بعض الشخصيات الأخرى، دون ذكر الاسم صراحة، ولكن القارىء لن يجد، فيما أعتقد، أى صعوبة فى أن يعرف اسم الناقد الكبير الذى كان يتقرب لنظام مبارك، أو اسم أمين عام الجامعة العربية ووزير الخارجية ، الذى كان صديق طفولة وعُمْر د جلال أمين، لم يوضح المؤلف لماذا ذكر بعض الأسماء، وأغفل بعضها ؟ ألتمس له العذر فى كل الأحوال، لأن الكتابة عن الذات أو الآخر فى مجتمعاتنا العربية منطقة شائكة، تسبب فى  معظم الأحيان، كثيرا من المتاعب والمشاكل.

يحكى الكاتب عن ذكرياته مع اغنيات أم كلثوم،  وموقف طريف له مع طه حسين فى إحدى جلسات المجمع اللغوى، يتأمل المؤلف الماضى الذى تصنعه الخطابات المكتوبة، بنفس الشغف الذى يتأمل فيه  ما فعله حاضر المجتمع الإستهلاكى فى البشر. فى الكتاب أفكار لامعة جديرة بالتأمل حول الحياة والموت، والغرب والشرق، وعن الرجل والمرأة، عن انسان الفطرة، وإنسان الأقنعة والألوان، فيه حكايات الأب وقصص الأم، حديث الشباب وأحلامه، وحكمة الشيخوخة ونظرتها الأكثر عمقا، يمكنك أن تلمس الزمن وهو يغير وجه الحياة من الأجداد الى الآباء وصولا الى الأحفاد،  يتكلم د جلال أمين  عن طاغور وبرتراند راسيل، عن فيلم أو مسرحية، بنفس الحماس الذى يشرح فيه نظرية إقتصادية، أو يفند فيه رأيا سياسيا، أو يصدر فيه حكما على شخصية عرفها عن قرب.

يستمد الكتاب عنوانه من فكرة يؤمن بها د جلال هى أن الحكايات التى استدعاها، كانت فى رأيه “حتمية الحدوث”، سواء بسبب ظروف الشخصيات الإجتماعية، أو نتيجة لطبائعهم النفسية ، الموروثة بالجينات. لا يجزم د جلال بصحة رؤيته، ولكنها فيما يبدو خلاصة حكمة العمر الطويل. الحقيقة أن  خيارات البشر فى الكتاب ليست كثيرة، بل لعلها محدودة، رغم أن سقف الأحلام غير محدود، ولكن إرادة البشر أيضا واضحة، فكرة “الحتمية” توحى بشىء من الآلية التى تتناقض مع حيوية الشخوص، وغرابة الأحداث، واختلاف النهايات عن البدايات. الإنسان كما قرأنا عنه فى الكتاب ملىء بالتناقضات ونقاط الضعف، ويستحيل التنبؤ  بما سيحققه ، أو بانقلاباته وبتحولاته سواء العاطفية أو الإجتماعية أو السياسية أو الأخلاقية، الحتمية معادلة، ولكن الإنسان خارج المعادلات المسبقة، بالذات إذا كان من يحكم عليه إنسانٌ أيضا، تتغير رؤيته وتتسع أو تضيق وفقا لصروف الحياة. يأتى الموت فيجعل منا أطيافا عابرة، أو أصداء لصوت باهت وخافت،  تأثرت بشكل خاص، وتوقفت كثيرا، عند وصف اللحظات الأخيرة فى حياة والدة المؤلف، كما نقلها إليه شقيقه حسين، فى خطاب أرسله إلي أخيه فى انجلترا، الحياة فى الكتاب حاضرة ، ولكن صفحة الوفيات أيضا تسجل الغياب الأخير، لكثير من المعارف والأصدقاء والأقارب والإخوة.

هذه شهادة مهمة، كتبت بمداد من الحنين والنظرة الواعية المثقفة، لتحفظ بعضا مما اختزنته الذاكرة، ولتطرح كثيرا من علامات الإستفهام والتعجب، وقد فعلت كل ذلك بامتياز. 

مقالات من نفس القسم