مذكرات اليوم الثاني

مذكرات اليوم الثاني
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

أمس انتهي بشكل مأساوي. كنت أرتجف من البرد، والطفلة بقلبي بدأت تشيخ، فنمت علّها تهدأ وتصحو بابتسامة على جناح يوم جديد، صحوت على صوت بكاء الأطباق في الحوض من الوحشة، هي في حاجة إلى التنظيف، وأنا في حاجة إلى الاختفاء مع البقايا العالقة فوقها إلى الأبد، انظر من الشباك فأرى الغراب الواقف على أعمدة خشبية تسند بناء ما هناك، كان مثل سيزيف يدحرج دمعة في الهواء ويهبط لالتقاطها ثم يعود لأعلى مجددا وهكذا دون تعب أو ملل، أشعر أن طقوس عذابه علامة لأتعلم التقاط الدمعة ودفنها في جوفي حتى لا تسقط على الأرضية وتنمو، هو يعرف أنني لا أستطيع الطيران مجددا، أجنحتي قصت بقسوة تشبه قسوة خطواتهم الضاغطة فوق السجادة التي تلتصق بالبلاط من الخوف، هم يعتقدون أنها سعيدة فهي تبدو زاهية ونظيفة بعد الغسل، أنا أيضا زاهية ونظيفة ومتآكلة مثلها تماما من الجوانب.

فيروز تغني (قصتنا الغريبة شلعها الهوى) أبتسم فتنفلت آه من روحي تنقي دمائي، قطرة قطرة أتصفي من الوحدة والجفاء وأعود لأيام قديمة على جناح غرابي، الذي هجر الشجرة وفضل الوقوف فوق أخشاب تسند البناء حتى لا يقع فوق المارة، هو في حقيقة الأمر يسند حبيبته، التي تشكل جزء من البناء، وأنا أضغط فوق جناحه مثلما يضغطون هم فوق السجادة،  وننتظر.. (إنساني يا حبيبي) فيروز تقول.

أذكر جدتي وهي تحملني على كتفها لنذهب سويا إلى الحقل في موسم الحصاد، هناك تحت شمس ساطعة وقلب تواق إلى اللعب والحياة، أتمدد في حضن سنابل القمح الذهبية وأغني (هل اتخذت الغاب مثلي منزلا دون القصور؟/ هل فرشت العشب ليلا وتلحفت الفضا، زاهدا فيما سيأتي ناسيا ما قد مضى؟)، كنت وقتها بجناحيّ الجميلين أطير مع أسراب الطيور حرة منسابة ومنتشرة كالهواء، ألتقط الحب وأضحك، وفي المساء تأخذني عمتي إلى الغرفة التي تملك سقفا من النجوم، استحم في “طشت” كبير، قلبي منه إلى السماء التي كانت تزين الحياة، فالحياة كانت تخلو من السقوف الخراسانية، السقوف وقتها كانت تغمز لي بالأحلام وكنت أغمز لها بريشة بيضاء تسقط في الماء بعد أن تزيحها ضحكة صاخبة.

الآن بعد تنظيفي للأطباق لم أختف مثلما تمنيت، الذكريات الجميلة هي التي هربت تماما وانطوت داخل الأيام، نتراكم معا فوق اللحظات مثلما تتراكم الأتربة فوق الأثاث، من المؤكد أن هناك يد تشبه يدي ستقوم بإزالتي مثلما أقوم أنا الآن بإزالة الأتربة العالقة فوق الأثاث، ولكن هل ستأتي معي فيروز هناك لتغني؟

 (يا ليلة الإسراء، يا درب من مروا إلى السماء)، جدتي وأبي وإبراهيم ذهبوا إلى السماء، جدتي ذهبت على صوت بكاء عمتي بكبد حجري ورثته لأبي، أما إبراهيم فقتلته زوجته وهربت مع عشيقها لتنعم بالهدوء، وأنا من سيقتلني، الحزن؟، لا يقتل يا أبي وإلا كنت اختفيت منذ سنوات طويلة، والسكاكين تنفذ في اللحم وتقطعه ولكن الحزن باقٍ في الدم النازف، السرطان الذي تغلغل في كنف الأيام أصبح فردا من أفراد أسرتنا لم يعد يخيف أحد منا، هو أيضا لا يقتل هو ينمو ويكبر مثلما تنمو وتكبر السنين، ونحن نموت بسبب يقينا أزليا بأن هنا ليس مكان أفضل على الإطلاق، هنا يكمن الشقاء، لا أغبط المنتحرين أبكي من أجلهم ولكني لا أستبعد رحلي على مشنقة علقتها في سقف الغرفة الخراساني..

 (ولاسم أمي في القلب لحن..) أمي اختفت تماما من حكاياتي لم أعد أكتب عنها أو أذكرها ولا أعرف لماذا، كنت صغيرة أشتاق إليها كثيرا، الآن لا أشتاق إلى شيء علي الإطلاق، لا تحزني يا أمي هل رأتني أكتب عن ابنتي؟ أبدا لا أكتب عنها هي الأخرى، سيأتي يوم عليها ولن تذكرني يا أمي ستنساني مثلما نسيتك الآن، لن تبكيني يا أمي لن تذكر لهفتي عليها ولوعتي على بكائها الحار وعجزي عن تربيتها بالدفء الذي افتقدته، أنا خائفة ووحيدة وحزينة وسترث عني الخوف والوحدة والحزن، ستتزوج مثلي بعد سنوات من البحث عن الولد العادي الذي كنت أبحث عنه، لا أحب أبطال الحواديت، بطلي شخصي يخصني وحدي، ولكنني لست بطلته أو بطلة في حياتي فمن يا ترى البطل هنا؟

الغراب يسند المبني وأنا أنتظر أن يفشل فيسقط المبني فوقى ثم نعجن سويا ونتمزق ونخلط في مواد بناء أخر يحرسه غراب أخر مثل سيزيف نسقط ونبني ويحرسنا الطائر الذي يدفن الدموع في جوفه.

 

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون