مدينة المشابك

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

مستجاب الابن

عاشق أشعة الشمس والرياح والأتربة، عازف على أحبال الغسيل، وقابض على الملابس، يؤرجها كأنه مفصل مقصلة، وتبدو الملابس بسببه كمذنبين في مقصلة العدالة، وهو القادر على أن يعطل مسيرة عملية الغسيل، فبدونه تصبح ملابسك أكوام واكوام واكوام

والمشابك انواع: منها الخشبي والبلاستيك، الصغير والكبير، لكني اعشق المشابك الخشبية، فكلما نظرت للمشبك الخشبي، اشعر إنه رجل حكيم ظل طوال حياته صامتا، قابضا على شفتيه، لا يتحدث إلا قليلا، جالس في البراح ومستمتع بالهواء الطلق، لذا يكره الغرف المغلقة، يشعر فيها بعجزه وبواره وكرمشه جسده.

أغضب عندما اشاهد مشبكا منفصلا، اشعر بأنني يجب أن ابحث عن وليفته، نصفه الآخر، كي يكتمل، فأبحث عن حلقاته اللولبية، ثم أضم الاثنين معاً، لتعود لهما الحياة، فأسوأ شيء في الكون هو الفراق.

فالمشبك رجل وامرأة لا يفترقان إلا بالموت، ومع إنهما عقيمين، إلا إنهما يظلا متمسكين ببعضهما طوال عمرهما، انظر لمشبك وقد انفصل عن نصفه الآخر، شاهد الموت الحقيقي، والخسارة، والعجز، شاهده وهو مكفي على وجهه أو نائماً على جنبه، إنه اقسي درجات الموت والفراق.

وأنا أحب جمع المشابك من الشارع، اجمعها، والتى غالباً ما تكون ميته، عاجزه، حيث أن نصفها الاخر غير ملتحم وملتصق بها، لذا أظل ابحث عن نصفه الآخر، وإذا نجحت في ذلك، خاصة في الصباح الباكر، اشعر بسعادة طوال اليوم، واشعر بقدرتي على اعادة الحياة لاحد الكائنات، حتي ولو كانت جامداً، لكن عندما أجد مشبكا سليما، فغالباً ما يكون جديدًا، فبالتأكيد لم يعان الوحدة والانكسار او الموت، إلا أنني أفرح به عندما التقطه واضمه مع مجموعته في سبت المشابك.

ولقد كان مشبك الغسيل رفيق رسائلي لابنه الجيران، اضع الورقة بها كلمات واشبكها في المشبك ثم ألقي بها، وعندما كثرت رسائلي لها دون رد، انتظرتها ذات مرة وسألتها عن رسائلي، فأجابت بهدوئها: لم يصل إليها شيئاً، كنت غاضباً فطلبت منها مشابكي لأن أمي تشتكي من ضياعها، ولقد راقبت شرفة حبيبتي، فوجد والدتها هي التى تلتقط رسائلي، فتقوم بتمزيق خطابي وأخذ المشبك.

لكن ذلك لم يكن السبب الوحيد لضياع مشابكنا، فقد كنا نستخدمها ونحن اطفال لاستكمال بندقيتنا الخشبية، حيث يصبح المشبك، هو بيت النار في البندقية، أو الزناد، يظل قابضاً على المسمار المتني في الاستك، وعندما نبدأ اللعب، لا يكون امامنا إلا أن نضغط على طرف المشبك لينطلق المسمار مصيباً هدفه.

كما ان المشابك ، كنت نلعب بها في وضعها في الاذن وعلى الشفاه ومسك الذقن، وقد شاهدت ذات مرة، رجلاً يستطيع ان يلف وجهه كلها بالمشابك، رجل في وجهه مائه مشبك، كنت مندهشاً وقد حاولت تقليده إلا إنني قد تألمت جدًا، فالكتفيت بوضعه في الآذن وكأنه حلق مدلي.

والحقيقة أنني كنت ازعج المارة، بإلقاء المشابك عليهم في الشارع، وكانت أحد متعي الأثيرة، ورغم إنني تركت تلك الالعاب منذ زمن، إلا أن اهمية المشبك وجدتها عند حيرتي الكبري في نشر الغسيل عندما استقللت بحياتي وبدأت الحياة لوحدي، لذا أهتم جداً بالمشابك الآن.

وعندما تزوجت، وجدت أن زوجتي قد جاءت بمشابك بلاستيك، وعندما نشرت أول غسيل لنا، لم تصمد تلك المشابك البلاستيكية، فقد وجدت أن معظمها انفصل عن بعضه، لذا اشتريت دستتين من المشابك الخشبية، وقمت بوضعها في الماء، أن الماء هنا وكأننا نرويها ونضخ فيها الحياة قبل بداية عملها.

لكني أحسد المشبك، الذي لا يفرط في نصفه الاخر إلا بالموت، صامد أمام اي رياح وأي أتربه، يضم نصفه الاخر بقوة، يضغط عليها وكأنه يعتصرها، ينز منها كل قطرات الحياة، وكلما ضغط أكثر، كلما زاد حكمة وقوة وحباً وبقاً.

وتدلي المشابك في احبال الغسيل دون ملابس دليل على ان المنزل لا يوجد به احد، لكنه يترك هكذا لانه يضحك على اللصوص، وأنا لا أحب أن اترك المشابك منفرده دون عمل على أحبال الغسيل.

لذا سأظل اجمع المشابك، وابث فيها الحياة، واشاهدهما وهما يضاجعان بعضهما ويقبلان بعضهما قبلة لا تنتهي، كي يمتليء قلبي بالسعادة كل يوم.

مقالات من نفس القسم

محمد العنيزي
كتابة
موقع الكتابة

أمطار