مدرستي *

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

وسيم المغربي

جميلة

أهندم ملبسي، أمشط في المرآة شعري، أتوسم.. فرح بحذائي ومريلتي الجديد.. سائر مع جدي أتمايل ممسكاً بيده العجوز، حاملاً حقيبتي اللامعة فوق ظهري، تمتلئ بالحلوى يدي وقروش كثيرة تُثقل جيبي. أربكتني حالة هياج جماعي.. صراخ أقراني أثناء الدخول!.. البكاء، النحيب، الرعب يغطي الوجوه!.. بعضهم افترش الأرض بجسده.. انقبض لذلك قلبي. لقد سمعت خالتي تصرخ في ولدها "إن لم تكف عن شقاوتك سأجعلهم يضربونك في طابور المدرسة.".. إذا فتلك هي المدرسة. الخوف يحتويني.. تنتقل لي كالعدوى حالة الهياج.. أبكي فيدفعونني نحو بابها الكبير، أصرخ فيتجاهلون السماع، أتشنج وأرتمي أرضاً فينتزعونني إليها.. تركني الجد وانصرف، وابتلعني بابها.. صرت وحيداً. ألقوني بغرفة، خبأت حلوتي داخل الحقيبة، أخفيت قروشي، طعم الملح يحوط شفتاي.. الأولاد كثيرون هنا، ثلاثة وربما أربعة تجمعهم (تختة) واحدة.. الجلبة راحت تمتص صراخي، والجميع تبخرت حالة الهياج منهم تدريجياً.. غلفني صمت وترقب. في نهاية الحجرة كفأر تقلصت منكمشاً، مرتعش البدن. دخل علينا زنزانتنا رجل قتل الضجيج، له أنف قصير، شعر خفيف، لا يبتسم، يتحرك ببطء يثير فينا الكآبة، عصًا رفيعة بيمناه، طرقات على سطح أحد الأدراج يتبعها بكتابة كلمات في منتصف السبورة السوداء.. بصوت منكر يقرأ آيات القرآن، يزحف الوقت ونحن نرددها، يدق جرس يفزعنا ويرحل معه الرجل، تتوحد حينها أفعالنا، نزفر هواء القلق من الصدور، يدخل آخر غيره فنشهق شهقة القلق ثانية.. تتلاحق الزفرات والشهقات...

وقت الانصراف يحين. بسرعة ريح نندفع هاربين. في الخارج أجد صدر جدي الوسيع ينتظرني.

¤¤¤¤¤¤

تمر على ذاكرتي تلك الساعات الأليمة.. يحتويني الخوف.. حدثوني في البيت عن المدرسة، انهرت.. أعلنت سخطي وتذمري.. هددوني بالعقاب. سأتحمله كي لا أعود هناك.. أغووني بالحلوى فاستعصمت.. قالوا إنهم سيرغمونني على الذهاب فاستعنت بالدموع سلاحاً، لم يبالوا ولم أكترث لهم.

¤¤¤¤¤¤

نظيفة

حين أيقظوني في الصباح على (علقة) مصحوبة بالزعيق، برطمت بكلمات محتجة.. مغصوبا ألبسوني الثياب، تركت شعري المنكوش على حاله.. جذبتني يد الجد للطريق.. الحذاء تغبر من بقايا الأمس.. ألقوا بجسدي الخائف بين الجدران الجامدة.. مذعور ممن حولي.. زملائي هنا تتنافر أحوالهم.. هناك من يتغلب على حزنه باللعب والبعض يختفي عن الباقين بالسكوت، آخرون لم يعرف الحزن مكاناً لهم، وغيرهم خدع بالنوم حواسه.. امرأة تدخل علينا تلبس ثوباً زاهي اللون، ألوان مماثلة تملأ وجهها، أظافرها ملونة هي الأخرى، طويلة، لا عصى تمسكها، تذكرت عروسة المولد التي أحب طعمها، ضربات قلبي تهدأ.. تلقى علينا السلام وعلى الوجه ابتسام، بطبشور ملون ترسم تفاحة كبيرة على السبورة وتبدأ في تلوين محتواها. أذاننا تلتقط صراخ زميل في أول الصف.. سألته السيدة عن سبب الصراخ فاشتكى جاره في (التختة) حيث عضه بكتفه ليجبره على الصمت بعدما استولى بالقوة على كيس طعامه، المرأة تتجه ناحية الجاني تمسكه من أذنه اليسرى، تشده منها خارج (التختة)، تضعه في موضع نراه فيه جميعا، تغرس أظافرها الطويلة الحادة في حلمة أذنه، يبكي الزميل فتزيد الضغط حتى تُخرج الدماء منها فينهار الزميل وأفهم حقيقة هذا السلاح الجديد (الأظافر). أبتلع ريقي بصعوبة وأبتلع البكاء. بدأت أخشى وشايات الزملاء وتعاملي معهم.

 

حان وقت الهدنة.. السجناء صاحوا "فُسحه.. فُسحه.".. فررنا لحوش المدرسة.. الأتربة تغمر أجسادنا، الزحام، الصراخ يملأ عيني، أذني والعفار يحيط الجو. اتخذت لي ركنا وجلست منكمشاً.. احتميت بالحقيبة بين ذراعيّ.. أخرجت منها إفطاري وابتلعته، ذهبت للمقصف بقروشي لأشتري عسليتي الحبيبة وأعود سريعا لركني. من يدي يخطف ولدا لا أعرفه عسليتي ويختفي.. العجز يُبكيني.. قرع الجرس يُخرسني.. يتفرق جمع الأجساد من العصي خلفنا وأصوات عالية "كلٌ على فصله.".. جُبني من أن تصيبني ضربة جعلني فوق مقعدي في لمح بصر. فهمت الآن مقصد عمي وهو يعلق على مقولة أمي لي "لابد وأن تحصل على شهادة عالية." بقوله "ليلقيها بعد ستة عشرة سنة من العذاب في القمامة."....

أسيستمر عذابي لكل هذه السنوات دون جدوي!!........

أتكرهني أمي لهذا الحد؟.. أطيعها أنا دوما فلم تعاقبني هكذا؟....

لماذا؟...................

¤¤¤¤¤¤

........................

أفيق على صوت الجرس يثقب أذني فأسرع للغوص بحضن الجد.

¤¤¤¤¤¤

متطورة

أبتكر بعض الحيل التي حكاها لي ابن خالتي.. يوم ادعي المرض، أمسك بطني وأتلوى، أتعمد التأخر في يوم آخر، أعود للمنزل متحججا بأني نسيت بعض الكراسات.. لاحظت أمي أفعالي.. حلفت بإيماءات كثيرة وهددت بعقاب "إن لم تطعني جعلتهم يحبسونك في حجرة الفئران.".. لا.. أنا أكره هذا الكائن، أي جحيم ما أنا فيه؟!.. أسأل أحد الزملاء عن الحقيقة فيؤكد وجود الحجرة.. يقشعر جلدي. فئران......

أحاول الالتزام.. أتعلم الصمت....

ألف في الحوش باحثا عن الفئران.. ربما هناك فأر.. أو هنا.. ضربات قلبي تتسارع.. العرق يشعرني بالقرف.. أين هي الحجرة؟...

في نفس ركني أتقوقع تؤرقني خيالات فئران.. تتفاقم كراهيتي.. تنسي عيني البكاء، يفارق الصراخ فمي.. لم أعد آكل الجبن الرومي، أتذكر حلقات (توم وجيري) التي أتابعها، أفهم أني لابد أن أكون قطا ليخافني الفئران لذلك سأرسم شاربي وأحاول إطالة شعيراته.. أترك أظافري، لن أقضمهم، لن أقصهم.. سأتعلم كيف أجعلهم مخالب أقاتل بها الآخرين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* قصة من مجموعة محاولات للإبصار الصادرة أخيرا عن دار الدار للنشر القاهرية

 

 

 

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون