“مداد الحوار” لإبراهيم فرغلي.. الحـــــيـاة فـي وجـــــوه ألـمــــــانــــــيـة

"مداد الحوار" لإبراهيم فرغلي.. الحـــــيـاة فـي وجـــــوه ألـمــــــانــــــيـة
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

الكتابة بروح الدهشة واكتشاف الآخر عن قرب، أول ما يلفت في كتاب "مداد الحوار" للروائي إبراهيم فرغلي، الصادر حديثاً في القاهرة لدى "دار العين للنشر". يوميات يطلّ من خلالها الكاتب على الحياة في ألمانيا، محصلة شهر أمضاه فرغلي في مدينة شتوتغارت، من خلال أحد مشروعات المنتدى الألماني العربي على الإنترنت "مداد"، وهو مشروع مشترك لمعاهد غوته في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ودعم المؤسسة الثقافية الإتحادية في ألمانيا.

يقتضي مشروع “رواة المدن” تدوين اليوميات يوماً بيوم، ونشرها على الإنترنت، بتفاصيلها الحية، معتمدة على رؤية كل كاتب للمجتمع الجديد الوافد عليه: “كنت أحاول استعادة الأيقونات التي أحتفظ بها في ذهني باعتبارها رموزاً ترتبط باسم ألمانيا، لكني اكتشفت بمرور الوقت مدى غموض المجتمع الألماني وعدم معرفتي به”. يظهر ولع الكاتب وإنشغاله بالبحث عن إجابات للأسئلة، التي رافقته منذ بداية رحلته الاستكشافية، لفهم خرائط جيولوجيا الأرض والبشر، والوقوف على العلامات المميزة للألمان أنفسهم، طبيعتهم، حياتهم اليومية، تعاملهم في ما بينهم، القضايا التي تشغلهم أو يعانونها، أوقاتهم وكيف يستمتعون بها، والأهم تحقيق المعجزة والتحول من بلد محطم ومسحوق بعد الحرب العالمية الثانية، إلى مارد إقتصادي، له مكانته العالمية.بهبوط الطائرة في مطار فرانكفورت تبدأ اليومية الأولى، ومن هناك يطير إلى مدينة شتوتغارت، التي تفيض بالخضرة، حيث تنتشر الأشجار الوارفة في كل مكان، إضافة إلى موقعها في أعلى مجموعة من التلال الخضراء، وتضم اثنين من أهم مصانع السيارات في العالم، “بورش”، و”مرسيدس”. الكاتب مشغول برصد كل ما تقع عليه عيناه من مشاهد تخترق روحه، واظهار أوجه الانسجام بين الحياة الصناعية والزراعية، وأوجه التناقض مع مدينة كبيرة مثل القاهرة، الحياة فيها تفتقر إلى الهدوء واللون الأخضر، إحساسه المغاير بما استشعره من مناخ محفز للخلق، يفتقده في بلده الأم: “اصطدمت مرة أخرى بالهدوء والنظافة الطاغيين وتذكرت حشود الجماهير المترقبة للصراع على ركوب المترو في القاهرة وبدأت أحكي لمرافقتي عن زحام القاهرة. بينما يسير الترام العتيق سيرا هينا كأنما يؤكد رفق السيدة التي تقوده، وحميمية هذه المدينة التي بدأت لتوي أولى رحلاتي إلى قلبها”.يبقى أثر الدهشة منطبعاً بقوة في مخيلة إبراهيم فرغلي، وهو يتجول في المباني القديمة والحديثة على حد سواء، حضوره افتتاح معرض للتصوير الفوتوغرافي، تناوله العشاء في المطعم اليوناني القريب من بيت الفنون، تجوله في الشوارع، تأمله الفتيات والصبية في القطار، رصده الدقيق لمجموعة من الشبان الأتراك، يسيرون بتكلف وخيلاء على الطريقة الأميركية: “المسألة التركية هنا لها وضعية خاصة لأن الأتراك يريدون الاستقرار في المجتمع الألماني من دون أن يتخلوا عن تقاليدهم، حتى لو اقتضى الأمر أن يعيشوا في “غيتو” معزولين تماماً عن المجتمع”.يستطيع القارىء مشاهدة الحياة على ارتفاع 150 متراً في أعلى برج التلفزيون، حيث أتيحت للكاتب فرصة رصد المدينة كلها، ليصف الخضرة والغابات والبيوت بسقوفها المحدبة مثل الخيام، قصر “سوليتود” أو “قصر العزلة” الشامخ ببنائه المعماري الفخم، الذي يعود إلى قرنين من الزمان، وأصبح المقر الرئيسي للفنانين الممنوحين لإنجاز مشروعاتهم الفنية. تحيله تلك الرؤية على برج القاهرة، حيث يمكن عشاق هذه المدينة أن يتأملوا سحرها الأسطوري، اتساعها الشاسع، تعداد سكانها الـ16 مليون نسمة، في حين أن سكان شتوتغارت لا يتعدون 600 ألف نسمة.بارتباك واضح يعبّر فرغلي عن مروره بمنطقة الضوء الأحمر، الخاصة بالدعارة، ومشهد الفتيات أمام المحال والبيوت. يكشف عن المأزق أو الأزمة في ما يتعلق بالجنس في المجتمعات العربية، وخصوصاً في مصر، وهو ما أشار إليه من قبل الناقد رجاء النقاش في كتابه “نجيب محفوظ” الصادر عن “مركز الأهرام للترجمة والنشر” في 1998، عن إعادة تأمله وحواراته مع نجيب محفوظ، الذي تزوج بعدما تخطى الأربعين من عمره، وكان يرتاد دور الدعارة بشكل منتظم لإشباع رغبته الجنسية. وهذا ما أزّم فرغلي، وجعله مناسبة للتعبير عن رأيه بأهمية تلك الدور، التي اختفت: “بالنسبة الى جيلي فإننا لم نشهد العصر الذى كانت بيوت الدعارة شرعية تنتشر في أرجاء القاهرة القديمة حتى منعت في الخمسينات لتسود الدعارة السرية بدلاً منها حتى الآن”. خارج شتوتغارت يزور الكاتب مدينة برلين، ويعود من دون أن يتآلف معها، مثلما اقتنصته مدينة كالف الريفية، فيتجول في بيت هرمان هسه المتحفي، يتحاور مع صوره، يتأمل آثاره المتناثرة، نظارتيه، قلمه، مكتبه الخشبي الصغير، النسخ الأولى من كتبه، خطاباته، يستعير فقرات من قصة “المغامرة الأولى” لهسه، التي كتبها عام 1906، للتعبير عن حالة العشق، التي تلبسته، ورافقته في رحلته، وتجلت في عينين خضراوين، كانتا له الملاك الحارس: “وما من مرة لامست يدها يدي أو فمها فمي. في الحلم فقط، حدث لي هذا مرات عدة في الحلم فقط”.من اليوميات المثيرة التي سجلها فرغلي، جولته داخل مصنع “بورش” للسيارات، حيث تابع مع رفيقته طريقة صناعة واحدة من أقوى السيارات في العالم وأغلاها، ولا يفوته أن يترك أثراً واضحاً عن حال مصنع سيارات كبير بهذا الحجم، لا يشم رائحة زيوت أو شحوم، لا روائح لحريق عمليات اللحام، ولا بقعة شحم على ملابس العمال أو على الأرض، ليندهش بسؤال هسه: “كيف يمكن أن يصبح شيء معاش غريباً عن شخص ما ويمكن أن يفلت من يده؟!”.يبقى خارج اليوميات عنوان أخير، خصصه فرغلي لمشاهدة الحياة بدرجة أكثر حرية، بعيداً عن يوميات المشروع، مثل مشاهدته تظاهرة سلمية في الشوارع، احتفال الألمان بأعياد الميلاد في “ماكدونالدز” كاختراق للنموذج الأميركي للعالم، ارتياده لأحد البارات لاكتشاف عالم الليل الخفي، مشاهدة عروض التعري وأضواء النيون الحمراء المتوهجة، تأمله خريطة الحب، محاولاً وضع نقطة جارفة تزرعه هناك، في مصب النهر الأنثوي الحي، وأخيراً زيارته لمدينة فرانكفورت، لقاؤه العديد من الكتّاب المشاركين في معرضها الدولي للكتاب. ويعود إبراهيم فرغلي من رحلته، في رأسه إجابات عن الأسئلة التى بدأ بها، عن كيفية تحقق المعجزة الألمانية، وجدها في ثلاثة وجوه: أولها اللامركزية الواضحة، ثانيها مسألة الحريات التى تصل إلى حدود القداسة عند الألمان، وثالثها ما خرج به الشعب الألماني من الحرب مقرراً التحول إلى دولة عظمى: الإرادة

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم