محمد ربيع: معايير القبح والجمال اختلت .. والاتصال المستمر بالواقع ليس شرطا من أجل الكتابة

محمد ربيع: معايير القبح والجمال اختلت .. والاتصال المستمر بالواقع ليس شرطا من أجل الكتابة
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

في الشتاء الماضي، كان شابا في منتصف الثلاثينات ذو ملامح بها شيء من الامتعاض الدائم، يجلس في حفل توقيع روايته. هناك صورة من هذا الحفل تراه يجلس فيها بزاوية مائلة دون أن يواجه الجمهور، كنت أتحدث مع صديق لي عن هذا اليوم، أخبرته أنني كنت أنظر بحيرة إلي هذه الصورة وخاصة هذه الزاوية المائلة الغريبة وغير المألوفة، وعدم النظر إلى الجمهور والإطراق لأسفل أو الشرود ناحية اللاشيء، وتشبيك اليدين، وتولّى شخص آخر بجانبه لدفّة الحديث والقراءة من الكتاب. حسبت في البداية أن كل ذلك علامة من علامات الاتضاع والحياء الكريم، ولكن ارتفاع درجة الحرارة علامة مشتركة بين كثير من الأمراض، وتسبب في أخطاء كثيرة في التشخيص! فبعد قراءة الرواية أعدت النظر للصورة، وكانت النظرة مختلفة تماما؛ هذا كاتب لديه ما ليس عند غيره.

هذا الشاب الثلاثيني هو الروائي المصري محمد ربيع. ولد في القاهرة عام 1978، تخرج في كلية الهندسة عام 2002. صدرت له رواية "كوكب عنبر" عام 2010 عن دار الكتب خان، وحصلت على جائزة ساويرس الثقافية، أفضل رواية لشباب الكتاب عام 2011. كما صدرت له رواية "عام التنين" عام 2012 عن دار الكتب خان أيضًا. وأخيرًا صدرت له رواية "عطارد" عام 2015 عن دار التنوير.

نحاول في هذا الحوار أن تستكشف خيالات وهواجس لم تظهر من قبل. تعرض بعدا آخر للكاتب، زوايا تتخفى في الظل، آراء غير معتادة. مثلما يقول كافكا: الكتابة الحقيقية تؤلمك أو تصدمك. هذا ما نجده عند ربيع في كتاباته، وهذا أيضا ما ظهر في  حديثه. 

في الشتاء الماضي، كان شابا في منتصف الثلاثينات ذو ملامح بها شيء من الامتعاض الدائم، يجلس في حفل توقيع روايته. هناك صورة من هذا الحفل تراه يجلس فيها بزاوية مائلة دون أن يواجه الجمهور، كنت أتحدث مع صديق لي عن هذا اليوم، أخبرته أنني كنت أنظر بحيرة إلي هذه الصورة وخاصة هذه الزاوية المائلة الغريبة وغير المألوفة، وعدم النظر إلى الجمهور والإطراق لأسفل أو الشرود ناحية اللاشيء، وتشبيك اليدين، وتولّى شخص آخر بجانبه لدفّة الحديث والقراءة من الكتاب. حسبت في البداية أن كل ذلك علامة من علامات الاتضاع والحياء الكريم، ولكن ارتفاع درجة الحرارة علامة مشتركة بين كثير من الأمراض، وتسبب في أخطاء كثيرة في التشخيص! فبعد قراءة الرواية أعدت النظر للصورة، وكانت النظرة مختلفة تماما؛ هذا كاتب لديه ما ليس عند غيره.

هذا الشاب الثلاثيني هو الروائي المصري محمد ربيع. ولد في القاهرة عام 1978، تخرج في كلية الهندسة عام 2002. صدرت له رواية “كوكب عنبر” عام 2010 عن دار الكتب خان، وحصلت على جائزة ساويرس الثقافية، أفضل رواية لشباب الكتاب عام 2011. كما صدرت له رواية “عام التنين” عام 2012 عن دار الكتب خان أيضًا. وأخيرًا صدرت له رواية “عطارد” عام 2015 عن دار التنوير.

نحاول في هذا الحوار أن تستكشف خيالات وهواجس لم تظهر من قبل. تعرض بعدا آخر للكاتب، زوايا تتخفى في الظل، آراء غير معتادة. مثلما يقول كافكا: الكتابة الحقيقية تؤلمك أو تصدمك. هذا ما نجده عند ربيع في كتاباته، وهذا أيضا ما ظهر في  حديثه. 

الحوار

مفهوم الحب في عطارديقترب أحيانا ويبتعد في أحيان أخرى عن الاحتياج الجنسي الطبيعي، مواصفات الجمال لديك في وصف حبيبة الضابط عطارد ليست تلك القياسية أو المتعارف عليها في مجتمعاتنا، هل كان ذلك مقصودا، أم كيف كان الأمر؟ وما هي نظرتك لمفهوم أساسي، مرتبك، وغامض مثل مفهوم الحبفي حياتنا؟

الأمر متعلق أكثر بالجمال. الجمال الكلاسيكي، أو حتى المتعارف عليه على نطاق واسع في مصر، لم يعد كذلك في الرواية، بل حل محله القبح وأصبح الجمال الجديد. هذا التحول لا علاقة له بأحداث الرواية وتفاصيلها، كذلك لا أدعي أنه سيحدث في المستقبل، بل هو حادث الآن بشكل كامل. وبالطبع لا أقصد قبح هيئات البشر، لكني أقصد قبح ما نبنيه من عمارات وما نرتديه من ملابس، هناك أيضًا قبح اللوحات الإعلانية على الطرقات، وقبح الأخلاق الذي صار علامة على العصر الحالي، الآن ستجد المنافقين الذين يجهرون بالنفاق، ستجد أيضًا من ينفرون منهم، ويضطرون للمجاهرة بنقدهم بشكل يتعدى حدود الأمانة والصدق ليتحول إلى وقاحة حقيقية! أضف إلى ذلك التناقضات بسبب التحيز لموقف سياسي، لا إلى الحق أو العدالة. ببساطة نحن نختار القبح عوضًا عن الجمال.

على الرغم من كابوسية العمل وأخذه للقارئ في اتجاه التسليم بأننا في الجحيم إلا أنه لم يكن هناك تعذيببالمعنى الدارج، كان هناك قتل بالتأكيد، قصف مدفعي أو بالطيران، دعارة، مدينة خربة، إدمان حشرات مسحوقة، لكن التعذيب الذي نتوقع أن نراه في الجحيم، التعذيب الجسدي، لم يكن موجودا تقريبا في عملك، ما هي رؤيتك اتجاه هذا الامر؟ هل كان قرارا أم لم يكن مقصودا؟ وكيف ترى أثره على العمل؟

هناك بالفعل مشهد تعذيب واحد قرب النهاية، لكن التعذيب في عطارد لا يشبه ما جاء في النصوص الدينية، العذاب في الرواية نفسي دائمًا. وخلاصته أن المعذَّب يرى ما يحدث للناس حوله ولا يستطيع فعل أي شيء لتخفيف العذاب عنهم، وذلك في حد ذاته عذاب قاهر. العذاب النفسي فكرة مرتبطة بالبوذية في الأصل، وهو بشكله هذا يتوافق تمامًا مع باقي تصورات البوذية عن التناسخ والوصول إلى النيرفانا وما إلى ذلك. وأعتقد أن للعذاب النفسي الأخروي أصداء في الكاثوليكية الآن، والغريب أن نظرة الكنيسة للعذاب الأخروي تغيرت عبر العصور كثيرًا، وذلك لأنه لم يكن موصوفًا بدقة في الأناجيل. على العكس تمامًا من العذاب في القرآن والسنة الذي كان محددًا وموصوفًا بدقة.

كيف تراكمت فكرة الرواية في خيالك أو ذهنك؟ هل كانت خطوط سير الأحداث واضحة منذ البداية أم أنك احتجت لأن تبدأ بالكتابة لكي تصبح الأمور أكثر وضوحا؟ وهل هذا هو الذي اعتدت عليه في عمليك السابقين أم كيف كان الأمر معهما بالمقارنة مع عطارد؟

هذه المرة كان التخطيط محكمًا أكثر من المرتين السابقتين، ولم أبدأ في الكتابة إلا بعد التأكد من كل التفاصيل، بالطبع تغيرت أحداث وتم إحياء شخصيات معينة في أثناء الكتابة، وبعد الانتهاء تم حذف أحداث كثيرة زائدة، أو لا علاقة لها بصلب الحكاية. كانت مرحلة البحث أطول في رواية عام التنين، ولم تكن كل الأحداث واضحة عندما بدأت الكتابة، بل اتضح الكثير منها مع التقدم في الرواية، بينما كان الامر مختلفًا كثيرًا في الرواية الأولىكوكب عنبر، لم أقم بعمل بحث حقيقي، والأحداث كلها تطورت في أثناء الكتابة.

كيف كانت أهمية أن يقرأ مسودة العمل عدد ليس بقليل من المقربين منك؟ وكيف تعاملت مع ملاحظات متشعبة تأتِ من كل هؤلاء؟ وهل الأمر فعلا ضرورة أن تُقرأ مسودة العمل من قبل آخرين أم على اي شيء يعتمد هذا القرار؟

هذا مهم جدًا، في النهاية العمل لن يُحفظ في درج المكتب، لكن سيكون متاحًا للناس ليقرأوه، ولا أظن أني أستطيع السيطرة على ما أكتب بشكل كامل الآن، أعني أن هناك شطحات كثيرة تحدث في أثناء الكتابة، ولا يمكن لي تهذيبها لذلك أستعين بالأصدقاء. هؤلاء يقولون رأيهم بصراحة ويشيرون لمواضع الرغيبلا طائل، وبالطبع يشيرون إلى الأخطاء الصغيرة المتكررة هنا وهناك، في اللغة أو حتى في منطق تسلسل الأحداث. قد تأتي ردود متناقضة، هذه المرة أتاني ردان من كاتبين من جيل أكبر، هما على صلة وثيقة ببعضهما بحكم الانتماء لجيل واحد، وأيضًا لأنهما يكتبان الشعر، لكن كانت هناك ملاحظتان من كليهما متناقضتان تمامًا، وهو ما لم يكن متوقعًا بالنسبة لي. هناك أيضًا ملاحظات يجمع الكثيرون على الإشارة إليها، على سبيل المثال، اعترض الكثيرون على الفصل المعنون 455 هـ، وطلبوا إلغاءه تمامًا، لكني لم أفعل ذلك لأسباب لا أعلمها! لم يكن هناك إلا حدس بأن وجود الفصل ضروري، ولا يمكن حذفه. ما أود أن أقوله إن كل شيء قابل للكتابة قابل للتغيير أيضًا.

العمل الادبي في النهاية هو قطعة من التكوين المعرفي والنفسي للكاتب، ألا تخشى أن يتم حصرك في زاوية الكتابة الكابوسية دون غيرها؟ أو أن يتم تحليل شخصيتك على أنها عنيفة، مرتبكة من خلال شخصيات روايتك؟

هذا متوقف على ما سيأتي، ويبدو أن العمل التالي بعيد تمامًا عن عطارد، حتى الآن. وكما ذكرت أنت عن العمل الأدبي، هو جزء من نفس الكاتب ولا يمكن الفرار من تفاصيلها. أما ما يتعلق بتحليل شخصية الكاتب فأعتقد أن الأمر ليس بمثل هذه السهولة.

عندما تشرع في كتابة أحد أعمالك، كم يحتاج من وقت تقريبا لأن تجهز له بحثيا، وما هي الطقوس التي تتبعها أثناء الكتابة؟ المكان الذي تكتب فيه؟ تكتب على الورق أم مباشرة على الكمبيوتر، الشراب الذي تفضله، التوقيت (ليلا، نهارا)، عدد ساعات العمل، هل تكتب بشكل يومي أم كيف يكون روتينك؟

فترة البحث تختلف من عمل للثاني، وفي أثناء تلك الفترة تتشكل الرواية وتصبح أكثر صلابة وأوضح، يختفي الضباب رويدًا رويدًا وتصبح الشخصيات مستقرة ويبدو مسار الأحداث وكأنه جزء من فيلم أو مسلسل. لكن لا طقوس معينة في الكتابة، اكتب في السيارة أو على قهوة في مصر الجديدة أو في الزيتون حيث أسكن، أو على السفرة في البيت. لا توجد مشروبات معينة، لا شيء محدد، أظن أن الارتباط بأشياء أخرى غير عملية الكتابة لا يساعد على التركيز أبدا. بخصوص عطارد، كنت أكتب بشكل يومي في الشهور الثمانية أو التسعة الأخيرة، أما قبل ذلك فلم يكن الأمر منتظمًا، وكانت هناك فترات طويلة من التوقف.

من أكثر الذين تحب القراءة لهم أو تأثرت بهم في العموم عالميا ومحليا، وكيف ترى الفرق بين نوعيّ الكتابة؟ وهل ينطوي هذا عل تنميط خاطئ؟ ولو عليك أن تختار مجموعة من أسماء الروائيين والأعمال التي تعتبر ركيزة في ذهنك دائما، ماذا ستختار؟

بالطبع هناك بورخيس وساراماجو ويوسا، وهناك أيضا نجيب محفوظ ولويس عوض وجمال الغيطاني، والقائمة طويلة جدا، وتطول وتقصر مع مرور الوقت. هناك أيضًا الجاحظ والأصفهاني وابن إياس، والكثير من كتب التراث العربي. وبالطبع هناك الكلاسيكيات الإغريقية التي أراها أكثر تحررًا مما يُكتب الآن.

روايتك استشرافية عن واقع محلي شديد القتامة، أي الأحداث التي مررنا بها في الخمس سنوات الماضية تشعر أنها أثّرت فيك بشكل غائروجعلتك ترى الأمور بهذه الكابوسية؟

ما حدث له تأثير واضح على الرواية وعليَّ؛ المسيرات وتعامل الشرطة معها، الطريقة التي تعاملت بها الدولة مع الاحتجاجات والمحتجين، تعامل الإعلام مع الثوار، وبذرة التخوين الاولى التي صدرت من مذيعين تلفزيون مشهورين، لكن هناك حادث يؤثر عليَّ حتى هذه اللحظة، كنا نصلي صلاة الجنازة على أحد الشهداء، بعد العثور على جثمانه في أحد المشارح مصادفة، كان ذلك بعد مقتله بثلاثة شهور تقريبا، شاركت في إدخال الصندوق إلى الجامع، وأذهلني الجثمان الصغير جدا، بدا وهو يهتز في فراغ الصندوق وكأنه لطفل في العاشرة. ولا زال المشهد طازجًا في رأسي، كل ما فكرت به كان الانتقام، وخرجنا بعد الصلاة والجميع يهتف متوعدًا حسني مبارك بالقصاص. كان ذلك في الشهور الاولى التالية ليناير 2011، وأنت تعلم الباقي بالطبع.

نعود للحظة الآنية، بعد تجربة روائية ثالثة، كيف ترى ما هو قادم؟ هل هناك عمل يتشكل في ذهنك حاليا؟ وإلى أي مرحلة وصل نمو الجنين في مخيلتك؟ وما هي نظرتك للقصة القصيرة في مشروعك الأدبي؟

متردد بين مشروعين، أحدهما يخص الحقبة الناصرية والآخر بعيد تمامًا عن مصر. ولكل مشروع مشاكله، مشروع الحقبة الناصرية سيكون رواية سياسية ثالثة، ولا أظن هذا مناسبًا الآن بالنسبة لي، أضف على ذلك أن الكثيرون سيعتبرونه إسقاطًا مباشرًا على الوقت الحالي، وهو مخالف لما أنوي كتابته فعلًا. أما المشروع الآخر فيتطلب بحثًا تاريخيًا طويلًا، وهو عمل ممتع جدًا بالنسبة لي، وأخشى ألا يتفاعل القراء معه هذه المرة، لأن العمل لن يتعلق بمصر بأي شكل، في النهاية قد تبدو الرواية كعمل مترجم لا كعمل مكتوب بالعربية.

تجربتك كروائي ومن ثم عملك كمحرر في دار نشر هامة مثل التنوير ثم عودتك للكتابة الروائية بالتوازي مع ممارستك لعملك كمحرر، هذه العلاقة الديالكتيكية بين طرفيّ شخصيتك، هل تؤثر بشكل أو آخر عليك، أن يطبع الروائي روحه على تحريره للنصوص أو أن تجفّ روح الأديب تحت سطوة المحرر بداخلك؟ كيف يسير الأمر أو كيف تديره؟

للمحرر سلطة حقًا على النصوص، لكن هناك درجات عديدة من التحرير، وقد تجد محررًا لديه القدرة على تحويل نص سخيف جدًا إلى نص ممتاز، وقد تجد المحرر نفسه عاجزًا عن العمل على نص متوسط. عملية التحرير لا مقياس أو معايير لها، هي موهبة في الأصل، ويتم صقلها بمرور الوقت وكثرة العمل وتنوعه. قيل لي أن العمل كمحرر في التنوير جعل جملي أكثر انضباطًا هذه المرة. من خلال العمل كمحرر اكتشفت أن الأعمال الجيدة هي المكتوبة بمهارة وحرفية عالية، نجيب محفوظ صاحب لغة عبقرية حقًا، سلسة جدًا ولا يمكن الإمساك بتعطل أو توقف أو أدنى مقدار من الركاكة في كل ما كتب، وانظر إلى لغة طه حسين أيضًا، ثمة أناقة غير مسبوقة في كل ما كتب، هو يربت على القارئ ويتعامل معه كصديق حميم، على الرغم من الفارق الكبير بين الرجلين، إلا أن أعمالهما ممتازة وستستمر حية بيننا لفترات طويلة، وأظن أن جودة اللغة لها تأثير حاسم على ذلك، إذا نحينا أهمية أفكارهما جانبًا.

إذن هل تفكر في التفرغ للكتابة ولو جزئيا لو أتيح لك ذلك، أم أنك تحتاج لإيقاع الحياة العملية ليكتسب الروائي بداخلك المزيد من التراكمات الحياتية أم لأي أسباب أخرى؟

التراكمات الحياتية اللازمة للكتابة لا تأتي بالعمل فقط، عملية الكتابة أكثر تعقيدًا من ذلك، اقرأ أعمال إيتالو كالفينو لتدرك أن اختلاطه بالناس لم يؤثر إلا قليلًا على أعماله، وبالطبع لم يشاهد ساراماجو إسبانيا وهي تنفصل عن أوربا، أو العمى وهو ينتشر بين الناس! الاختلاط بالناس يمكن ان يتم من دون عمل، هذا يحدث في الشوارع والمقاهي وبين الأصدقاء والمعارف، بل ربما يمكنك اليوم الاختلاط بالناس أكثر من ذي قبل. ماذا إذا كنتُ أعمل في مهنة لا اختلاط فيها بالناس؟ ألن يكون ذلك مضرًا؟ عملت مهندسًا مدنيًا لأكثر من عشر سنوات، ولم أكتب عن العمال والصنايعية إلا في جزء صغير من رواية عام التنين، وما يلاحظه الناس هو اهتمامي بالبناء الهندسي، ويربطون بين ذلك وطبيعة عملي السابقة، وبالطبع هناك علاقة بالدراسة الهندسية وطريقة التفكير في أثناء عملية البناء نفسها. أريد أن أقول أن العمل لا يؤثر بشكل مباشرعلى الكتابة، هناك تأثيرات خفية دائمًا.

أتمنى أن أتفرغ للكتابة بالطبع، كانت هذه الفكرة مرفوضة تمامًا سابقًا، ولم أفكر فيها مطلقًا، لكن اليوم أجد أن العمل يؤثر سلبًا على القراءة والبحث والتخطيط والكتابة، العملية برمتها مهددة بالتوقف أو التعطل، ولا أعرف لماذا! لكن التفرغ للكتابة كلمة مطاطة جدًا، الروايات لا تحقق أي دخل للكاتب، هي قروش قليلة في النهاية لا تصلح لشيء، وعلى من يريد التفرغ أن يكتب مقالات في المواقع الإلكترونية الكثيرة، قد يرفع مردودها الدخل بشكل ما، لكنها لن تضيف للكاتب الكثير، والأسوأ أنها قد تضره أحيانًا.

السؤال الذي يخص الجوائز وما تعنيه لك ككاتب لم يعد هناك مفر من أن يخلو حوار منه، أخبرنا عن نظرتك لأمر الجوائز

الجوائز دعم مادي قوي للكاتب، بعض الجوائز مثل بوكر تحولت إلى تعويذة تتسبب في نشر العمل على مستوى واسع جدا في العالم العربي، منذ أيام أخبرني صاحب مكتبة شهيرة في القاهرة أن رواية ساق البامبو للكويتي سعود السنعوسي انتشرت بشكل غير مسبوق، وبالطبع الفضل في ذلك يعود للجائزة، وللناشر الذكي النشيط. لكن إذا قمت بحساب احتمال حصول رواية على جائزة فستجد أنه احتمال ضئيل جدا، العالم العربي يقدم ما يقرب من 200 رواية لجائزة بوكر، واحدة فقط ستفوز في النهاية، قد يبدو ذلك محبطًا لكل من يكتب كي يحصل على جائزة، ولا أفهم كيف يفكر البعض بهذه الطريقة! يبدو أن هؤلاء لا يعنيهم سوى المال، ولا يعكر صفوهم ما يحدث حولهم، وهو المحرك الأساسي للكاتب دائمًا.

أخبرنا عن الأصوات الأدبية الشابة التي تلفت نظرك سواء من جيلك أو الجيل الأصغر، وأخبرنا أيضا عن عناوين أعمال روائية أو قصصية أحببتها في الفترة الاخيرة

نائل الطوخي ويوسف رخا هما أفضل من يكتب الآن بالنسبة لي، وأعمال أحمد عبد اللطيف وطارق إمام ممتازة وأتابعهما باستمرار. للأسف لا أشعر بأي حماسة لقراءة أعمال من الجيل اللاحق، هناك الكثير من الأعمال الأدبية الصادرة خلال العامين الماضيين، وللأسف أصابني الإحباط حينما قرأت بعض الأعمال ووجدتها سيئة جدا. لا يبقى للقارئ سوى الأعمال الفائزة بجوائز مثل ساويرس والبوكر، والأعمال المشار إليها في مقالات نقدية، أو الأعمال التي يرشحها الأصدقاء. منذ سنوات كنت حريصًا على قراءة كل ما يمكنني الحصول عليه، أيا كان اسم كاتبه، في ذلك الوقت أيضًا لم يكن هناك الكثير من الناشرين كما هو حاصل اليوم، وكان الواحد واثقًا من أنه لن يشتري كتابًا رديئًا إلا في ما ندر. الآن لا أستطيع القراءة على المنوال نفسه، وقت القراءة أصبح قليلًا جدًا، وبالطبع هناك دائمًا الملل.

كونك كاتبا روائيا، ومحررا بدار نشر، ولك زاوية ثابتة بمجلة شهرية، يجعلك هذا في حالة تماس إن لم تكن تقاطع أو انغماس مع الوضع الثقافي الحالي، سؤالا تلقيديا لكنه هام، كيف ترى المشهد الثقافي العربي اليوم مع كل ما أثّر فيه من أحداث اجتماعية وسياسية؟

لست قريبًا كما تظن، أنا بعيد جدًا عن كل ما يحدث من تحالفات ومعارك، ولا مصالحلي مع هذا أو ذاك. وبالتالي لا أستطيع وصف أو نقد المشهد الثقافي العربي، أو حتى المصري. لكن أكثر ما أزعجني هو انبطاح مجموعة من المثقفين المصريين أمام السلطة الحالية في مصر، ما حدث جعلني أعيد التفكير في كل ما كتبه بعضهم وأثر عليَّ تأثيرًا كبيرًا، بالطبع علينا أن نفصل موقف الكاتب السياسي عن إبداعه، لكن ماذا إذا كان الكاتب ينتقد الطغيان طوال الوقت، ثم نجده فجأة يؤيد الطغيان بكل جوارحه؟ بل ويحاول أن يقنعنا بفائدة الطغيان في الوقت الحالي! بالنسبة لي لا أقل من فقدان الثقة في الكاتب أو المثقف، والتعامل باستهتار معه ومع ما كتب ومع ما سيكتب. هذا أمر محزن جدًا، ويظهر لك مدى كذب ونفاق هؤلاء، وأيضًا مقدار تأثر البعض بالإعلام الموجه الذي حذرونا منه دائمًا، ودرجة استعداد الكثيرين للتغاضي عن كل الهذيان المحيط بنا الآن، وتحويله إلى فعل إصلاحي عبقري، وقدرة البعض على ادعاء وجود الجمال بل وتأمله، بينما لا نرى حولنا سوى القبح.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

نُشر بجريدة القاهرة المصرية 

مقالات من نفس القسم