محمد خير يغرق الواقع في الفانتازيا

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 45
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

شيرين أبو النجا

حتى لو لم تكن من متابعي الصحافة الثقافية لا يمكنك أن تتجاهل محمد خير، ذاك الشاب الذي يحيرك بين صمته الواضح وتقوقعه داخل نفسه، وبين تعليقاته الذكية على الوضع الراهن، وإذا لم تكن تواكب مقاله الأسبوعي في جريدة «التحرير» المصرية فلابد أنك قرأت مقالاً له في الصحف اللبنانية، لتدرك أن صمته البادي ليس إلا قناعاً يخفي تحته نظرة ثاقبة خاصة تماماً تشرح الواقع وتحوله إلى جزيئات إبداعية لتعيد تركيبه في صورة واقعية لا يمكن أن ينجزها إلا من امتلك روح فنان. تتحول تلك الجزيئات إلى تفاصيل مدهشة في مجموعة «عفاريت الراديو» (2008) تنم عن قدرة في التقاط العادي وتحويله إلى غير مألوف. وإذا لم تكن قرأت أشعاره العامية التي بدأ بها مساره عام 2002 ثم 2008 فلابد أن تكون قد تعثرت في قصيدة من ديوانه بالفصحى «هدايا الوحدة» (2010) لتدرك كم الشجن الذي يحمله محمد خير والذي يبدو على وشك الانفجار في أي لحظة. وإذا لم تكن من محبي الشعر فلابد أن تتعرف على روايته التي صدرت حديثاً عن دار ميريت - القاهرة بعنوان «سماء أقرب» (2013). يدفعك العنوان إلى القراءة لأنك - لأننا - نبحث عن السماء في أسوأ لحظة نعيشها، نتقلب في الصحو والمنام لنخلط بين الحلم والكابوس والواقع، نسعى للإمساك بأي جوهر يمنحنا يقيناً ما، معلقين أرواحنا على الوصول إلى سماء أقرب، تماماً كما حدث لبطل روايته أكرم/مازن.

يُوظف خير في عمله الروائي القصير (111 صفحة) تقنية تبادل الأصوات فيمنح أكرم فصلاً ويليه بفصل لصوت مازن. وعلى مدار القسم الأكبر من الرواية يدفعنا خير لتصديقه فننسى الحكمة الخالدة التي تنادي بعدم تصديق الكاتب، بل أنه في النهاية يجعلنا نقبل القاعدة التي أرساها صموئيل تيلور كوليريدج في بداية القرن التاسع عشر، والتي جعلها أساساً لقراءة الغريب والفانتازي، والتي تقول بضرورة تعليق عدم التصديق.

يبدأ السرد بوتيرة مفهومة، فأكرم شاب- مثل الآلاف- يترك وظيفته المملة ويحاول البحث عن عمل في الخارج عبر صديق له، لكنّ أكرم لديه مشكلة أكبر- مشكلة الملايين- وهي عدم التحقق وعدم الإنجاز. فحياته فارغة تماماً تموج بتفاصيل لا تكاد تذكر، إهانات مجانية من دون سبب مفهوم أو منطقي، علاقات ممجوجة غير حقيقية. فكل ما في الأمر أن الأيام تمر، ولا يبقى في ذاكرة أكرم سوى نادية التي أحبها أيام كان طالباً في الجامعة، ثم تركها تتسرب من بين يديه لانعدام الخبرة.

في سطور قليلة يغادر أكرم وظيفته – التي لا نعرف كنهها – ويقنع نفسه أنه سيتفرغ لإكمال الرواية التي بدأ في كتابتها عن مازن، وفي الوقت ذاته يلتقي مصادفة بنادية وزوجها.

الخدعة

هكذا تنطلي الخدعة على القارئ بمنتهى السلاسة، فيكتب أكرم عن حياته التي يظن أنه استردها بظهور نادية، ثم يُوهمنا أنه يكتب فصلاً عن مازن بطل روايته. يسهل تمرير الخدعة إذ يبدو أكرم وكأنه يكتب ذاته تماماً مع الاختلاف الطبقي. فمازن حالته ميسورة اقتصادياً، وغير مضطر للعمل إلا في ما يهواه وهو تصوير البورتريه، لا قلق لديه حول الغد، يستمتع باللحظة عبر لهوه مع لمى، واستماعه للموسيقى وارتياده أماكن ترفيه لا يقدر عليها الكثيرون.

ولكن مع تغيّر مصير حياة أكرم التي تعاود نادية الظهور فيها وباستعادة جزء من العلاقة، يُدخل أكرم تغيّراً مصيرياً على حياة بطله مازن: يجعله يفقد إحدى عينيه أثناء تصويره للانتخابات مجاملةً لصديقه أسامة (يبرع الكاتب في رؤية الحياة بعين واحدة، وهو ما أصاب الآلاف من شباب الثورة المصرية). تتغير حياة كل من أكرم ومازن ، ويبدأ تداخل الوعي، حثيثاً ولكن أكيداً. ففي حين يفقد أكرم نادية يدرك مازن أن فقده بصر عينه هو فقد لجزء من الحياة، وفي حين يبتلع أكرم إهانة تلو أخرى، مما يُعمق إحساسه بالعجز، يحدث الشيء نفسه لمازن وإن كان السياق مختلفاً. وعندما يبدأ أكرم في اكتشاف قبح الحياة من منظور من هو أكثر منه عجزاً – المرأة التي تنظف له المنزل – يدرك مازن أن لمى غادرته إلى غير رجعة، ليغادر إلى مدينة دهب في سيناء من دون هدف. وفي أعمق لحظة يأس وعجز وقهر وعدم فهم، في أشد اللحظات ظلمة في «تراجيديا خالية من أي أمل»، يحصل أكرم على وظيفة في الخارج ويقابل مازن الشابة فاتن.

بظهور فاتن في حياة مازن- وهو أصلاً البطل الذي يكتبه أكرم – ينقلب السرد، وتتغير الأدوار. يبدأ مازن في كتابة قصته – بعدما أقنعته فاتن – فيكتب أكرم ونادية والوظيفة والعجز، ويناقش مع فاتن مصير أكرم. هكذا تتحول الكتابة – وليس تقنية تبادل الأصوات – إلى أداة استبطان للذات، وكأن الكتابة تدفع أكرم إلى اكتشاف مازن، في حين تسمح لمازن أن يُعيد ترتيب حياته بعين واحدة، فيرى بشكل مفارق، ما لم يره من قبل في ذاته (العمى والبصيرة). أيهما يكتب الآخر؟ لا يبدو هذا السؤال محورياً في «سماء أقرب»، إذ إن محاولة الإجابة عن السؤال لن تضيف إلى المغزى من هذا البناء. كما أن هذا الخلط والتشويش يبدوان متعمدين من الكاتب، فالهدف هو التأكيد أن أكرم ومازن هما الشخص نفسه، أو بالأحرى يبدو كل منهما انعكاساً للآخر في إخفاقاته وعجزه، وإن بدا مازن في النهاية أشدّ تماسكاً من أكرم. تسمح كتابة كل شخصية للأخرى بالكشف عن قدرة الذات الإنسانية على التحايل والمجاهدة من أجل الخروج من أعمق نقطة مظلمة حتى تصل إلى سماء أقرب تُعوض الفقد المستمر، سماء كانت دائماً قابعة داخل الروح في انتظار نفض الغبار عنها، «مثل يد ضغطت على الجرس وابتعدت لكنّ الرنين ظل لفترة طويلة حتى توقف وحده».

يتداخل وعي كل من أكرم ومازن – بالرغم من إبقاء الكاتب على تبادل الأصوات – في النهاية عبر إعادة التشويش على ما ظن القارئ أنه أدركه. فمازن (أم أكرم؟) يدرك أن الزمن الذي يعيشه لا يبدو حقيقياً، فتعاجله فاتن بقولها «عليك أن تتعلم التفاؤل». ربما قصدت القول إن هناك سماء أقرب لا نراها لانغماسنا في أحادية الرؤية. وربما أخذ أكرم معه أوراق الرواية وربما تركها قابعة في منزله، وربما أراد له مازن ذلك، فتكون آخر جملة في الرواية: «شعرت أن في داخلي شخصاً آخر يتحرك بي ويقوم بكل شيء». هي الذات التي يختلط عليها الوعي، وتتداخل أزمنتها، فتبدو لها الحياة ضيقة وكاتمة على أنفاسها لتحين لحظة الكشف وندرك الثراء الكامن داخلنا الذي يساعدنا على تمثل التعددية. في «سماء أقرب»، كشف محمد خير عن مهارته في تمثل كل شخصية على حدة، فتداخل الوعي الذي يهدف إلى لحظة الكشف الفارقة لم يكن أبداً ذريعة له ليقدم أصواتاً أو عوالم متشابهة، بل حافظ على تميز – واستقلال – كل شخصية، وهذا ما سهّل خداع القارئ.

عودة إلى الملف

 

مقالات من نفس القسم