محمد خير .. الوجوه المتعددة للشاعر

تصبحين على خير .. التقاط الشاعرية من الموت!
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

إبراهيم عادل

بعد فترة طويلة من القراءة، ومراجعة العدد من الكتابات حول ما قرأت تكتشف أنك إزاء

مشكلة أو مأزق حقيقي، وهو الرغبة الشديدة في كتابة مختلفة عمَّا تحب، أو عن من تحب أيضًا، ولكن الكلمات كالعادة تتطاير، والأفكار تهرب!

علاقتي بما يكتبه "خير" تشبه أن تمسك صورة بين يديك وتتطلع فيها باهتمام، ليخبرك أحدهم أنها صورتك، فيما تكتشف فجأة أنك أمام مرآة فعلاً .. وأن هذه صورتك .. هذا ليس كابوسًا!

لا أعرف كثيرًا عن نظريات الكتابة والقراءة والتلقي، ولكن ما أنا على يقين منه أن الكاتب الذي يبرع في “التعبير” عن القارئ بشكل حميمي وصادق .. هو كاتب محترف

 هناك شبه إجماع على أن هذا ما فعلته (هدايا الوحدة) في قراءه .. لدرجة أني لا أعرف أحدًا انتقده!

نقد الكتاب والتجربة أمر مهم بالنسبة للشاعر،لاسيما إذا كان كتاب/ديوان الأول ..

 لكن “خير” يخدعنا دائمًا، هو ينشر ديوانين  بالعامية، يمكنك ببساطة أن تزيحهم جانبًا، وتنتقد أشياء كثيرة فيهما، مع إعجابك بعدد من القصائد، ولكنه يخرج لنا فجأة بـ”هدايا الوحدة” الذي يجعل كاتبًا  مثل “أشرف عبد الشافي” يصرخ عندما يقرؤه  لاعنًا الشاعر وسنينه لعنًا حقيقيًا .. كما قال (اغلق باب غرفتك جيدًا قبل قراءة القصائد)

لذلك ربما ببساطة شديدة استطعت أن أراهن ـ عبر كتابة محمد خير ـ على شاعرية “قصيدة النثر” وقدرتها على تجاوز ما يتعارف عليه النقاد باسم القارئ المتمرس للوصول إلى القارئ العادي، وهو ما لم يفعله ـ في ظني ـ إلا “سوزان عليوان” .. يستطيع “خير” أن يجذبك إلى عالمه الشعري الساحر منذ القصيدة الأول فالتي تليها لتجد نفسك متورطًا في الديوان، شاعرًا أن هناك من يتحدث باسمك ويحكي عددًا من تجاربك ببساطة ورهافة شديدتين!

(من شرفتكِ تسكبين الماضي/مثل ماء الغسيل/ الذكريات لا تفنى/ والماء تسترده السماء/ لتسكبه فوقنا مجددًا/ إن لم تدمعكِ الذكرى/ سيبللك المطر)

 المفاجئ في هدايا الوحدة ليس قدرته على التعبير عنك بشكل بالغ  ولا تنوع الحالات التي تجد نفك شريكًا فيها فحسب، بل هو أن كل قصائد الديوان تصلح تمامًا كشواهد على ما نقوله، لدرجة يغدو معها من العبث الكتابة عن الديوان دون استحضاره كاملاً!

والوحدة ليست جديدة أو غريبة عند “خير” بل هي دائمة ومقيمة، تتنوع أشكالها وطرق التعبير عنها، حتى في دواوينه الأخرى، في (بارانويا) يبدأ محمد خير الديوان بفصل الذات عن العالم في (كده أحسن بكتير) وتخيلها مجرد تمثال في متحف لايوجد فيه أحد سواه!

(مش عايزك تقلق /بمجرد ما هاحطك في الفاترينة/ مع ظبط الإضاءة /هتلمع/أكتر من أي يوم تاني ..عموماً /أنا شايفك بتبالغ قوي في مخاوفك /لأن محدش غيري/هيزور متحف/مافيهوش تمثال غيرك ..) والتعامل بسخرية مريرة مع النفس في اعتذار ( الموضوع مالوش علاقة بموقفي منك

فلو تعتزل/ هتريّحني فوق ما تتصور /لأنك مش بس هترتاح /من نقاشي معاك ../دة انت كمان

هتخليني أخيرًا/أقدر بالإيد اللي فضلت/أتفرّغ/ لكتابة قصتك الحقيقية ) وفي (مالحقتش أسألو) كأنه آخر يحاول الانتحار (السطوح كان واسع ومن غير سور / مع أول خطوة منّي طار كل الحمام ../ والمسألة كانت اسهل بكتير من تخيّلها :/انا بس فردت ايديّا وانا باجري/ وسبت الريح على مهلها تزيح الأرض عن رجليّا )

للحد الذي يجعل لحظات السعادة أو الفرح المفاجئة مجرد خدعة في (صباحك)

وهو بسرعة وشاعرية شديدة يجعل نفسه معادلاً موضوعيًا في الممثل (قصيدة خدعة) أو العصفور في (غلطة)  

يقر (الحقيقة): التلج مش موجود/ دي الحقيقة اللي انتهى اليها/ للأسف /مافيش جبال خضرا

ومافيش حمام مطمئن بيعاكس السياح/ مافيش أنهار /أو بيوت متلونة أو غابات/ بيروت واسكندرية و أثينا/ مش موجودين الأغاني حنجرة بتكذب/ومافيش حواديت من ساعة م اختفوا الأطفال/مافيش أحلام تخليك تصحى مش عارف بتضحك ليه /خلاص/ خلصت أقواس القزح

والأمهات اللي على قيد الحياة/ والأصوات المبهجة /كلها مجرد ذكريات /مشكوك في صحتها..)

لامفر إذًا من العودة للحظات البهجة الصافية/ الطفولة التي تحضر بأجمل تجلياتها في (المرجيحة):

(مش ح اتخطّى حدودي ../ أنا واقف برة  أهو ../ ومش طالب منك غير ضحكة واحدة ../

بس تكون بأعلى صوت عندك ../ يعني ممكن تضحكيها /لحظة طلوع المرجيحة زي عوايدك ..

ضحكة واحدة بس ../ عشان اتأكد ..إنك لسة موجودة ..)

 واللعب ( يا بختهم .. خارجين من المكن / بمنتهى السعادة/ مش زعلانين من إنهم بيشبهوا بعض

مش مضطرين/ يبذلوا مجهود للضحك/ وعينيهم متلونة جاهزة/ مش ناقصة غير تتركّب /بسهولة شديدة/ ع الوشوش القطن…)

ويصل المعادل الموضوعي لأقصاه في قصيدة الختام (للعبرة) التي يتحدث فيها عن نهاية مأساوية ل”سيجارة”: (السيجارة الوحيدة /اتفرمت فى العلبة من غير قصد/من غير ذنب/ ما حدش شافها/ولا حد عرف أصلاً /انها كانت موجودة هناك /اتهمشت بسهولة وبدون مشاعر.. سيجارة لا عاشت ولا ماتت زى طفل حرام .. ما لحقتش تتنفس ولا تترعب /من جهنم المحبوسة فى الولاعة /ولا جربت شهوة الشفايف /فى برد الصبح /وما حدش هيتحاسب على قتلها .. هتنتهى تماما /زى مأساة مخجلة /زى أى حد /إتوجد فى اللحظة الغلط)

* * *

 براعة رصد التفاصيل من لمح البصر إلى رمش العين!

6 سنوات، وديوان فصحى ورواية، ما فرق بين مجموعة محمد خير الأولى “عفاريت الراديو” والأخيرة “رمش العين”، ست سنوات، وربما أكثر قليلاً استطاع فيها “محمد خير” أن يصل إلى طريقة خاصة في القص، طريقة تشبهه كثيرًا، تشبه نَفَس الشاعر وروحه، طريقة أزعم أن كل قراء المجموعتين سيلحظونها بوضوح، وهي البراعة في اقتناص تلك اللحظة العابرة البسيطة، وتكثيفها بشدة (في المجموعة الأولى) أو الدوران حولها بذكاء في المجموعة الأخيرة.

في “عفاريت الراديو” 12 قصة قصيرة جدًا تندرج  تحت عنوان (لمح البصر) و11 قصة أطول نسبيًا بعنوان (هجرات مؤقتة)، ونلمح في قصص المجموعة الأولى تلك القدرة البالغة على التقاط اللحظة العابرة ووصفها كما هي بدون زيادة أو نقصان، هي مجرد لحظات ترصد بشاعرية حينًا وحيادية أحيانًا، تضم في طياتها عالمًا كاملاً مرة ولقطة عابرة مرة أخرى، في (لم نفكر) يستعرض بشكل موجز جدًا علاقة بدأت منذ الصغر حتى المدرسة والجامعة حتى الزواج والسفر (وعلى ناصية كل مفترقٍ في حياتينا كانت حياة متحفزة للانطلاق لو أننا التفتنا إليها معًا في نفس اللحظة) في (ألوان البالونات) مثلاً يتعرض للقاءٍ عابر يختصر الزمان بصديقة قديمة يلتقيان لتحدثه عن مخاوفها من خطوبتها المقبلة، وكيف باعد الزمان بين إحساسه بها القديم وبين ما يراه أمامه الآن، ليختمها بهذه الجمل (أوصلتها إلى سلم المترو وراقبتها وهي تبتعد إلى أسفل وسط بقية النازلين، وبدت لي صغيرة وضعيفة ومسكينة، فاندهشت من أنها كانت تدوخني في تلك الأيام البعيدة، واكتشفت أنني لا أتذكر شيئًا من طعم جسدها) على هذا النحو تبدو مجموعة لمح البصر و(عفاريت الراديو) كلها بالتالي كأنها رثاء هادئ لتلك اللحظات العابرة، التي يمكن الآن استحضارها بقوة وخلق ذلك العالم المليء بالشجن والحنين من خلالها.

ربما يختلف الأمر قليلاً مع (رمش العين)

حيث أكاد أعتبر عددًا من أفكار قصص هذه المجموعة بمثابة مشاريع روايات مؤجلة مثلاً، أفكار مثل فكرة “القيلولة” التي أقام عليها “محمد خير” تلك القصة بنفس العنوان، وجعل البطل يدور حول حياته التي تلخصت في كوابيس فترة القيلولة وعلاقتها بالمجتمع من حوله، فكرة أكثر تفصيلا مثل قصة (الكلام) وذلك العالم الذي بنيت عليه إشاعة عابرة لتدمر مستقبل الطبيب، وذلك العبث الهائل الذي يمكن أن ينتج ويتسبب فيه مجرد “كلام”(لكنني أؤدي دورًا اجتماعيًا ولا أنتقم لأحد، بل أؤدي عملي، ولا تظنه سهلاً، أفسده أولاد الانترنت، يختلقون ترهات بلا معنى أكاذيب بلهاء يسمونها شائعات، وصار تمييز الشائعة الأصلية من الزائفة أمرًا صعبًا يومًا بعد يوم، لا أعترض، هذا صار حال البلد، انحطاط ثقافي!)

  وفي المقابل يشير أيضًا إلى العلاقات العاطفية العابرة التي يشعر المرء إزائها أنه “تغير” ورؤيته للعالم والناس تغيرت، ثم لا تلبث الحقيقة أن تظهر له بشكل غامض ومفاجئ في (وقت مستقطع) وغيرها .. الحالات التي يرصدها “خير” في ” رمش العين” والتفاصيل التي يتعرض إليها تدور كلها في تلك اللحظة المراوحة بين الوعي واللاوعي، بين الحقيقة والهلاوس أو الأحلام، ولكن “خير” يضفي على كل قصة تفاصيل تجعلها شديدة الواقعية وقريبة التحقق إلى حدٍ بعيد، وبين فرادة الفكرة والاستغراق في التفاصيل تجد نفسك إزاء قصةٍ فريدة وممتعة في آنِ معاً، ولذا أعتبر هذه المجموعة أفضل من السابقة، إنها تترك بصماتٍ في نفس قارئها لا يمكن تجاهلها أو استبعادها حتى بعد مضي فترة على القراءة، والملاحظ دومًا عند “محمد خير” حرصه على شاعرية الموقف أكثر من شاعرية اللغة، يبدو ذلك جليًا بدءًا من عناوين المجموعات أو القصص التي تحويها، فهو لا يولي “العناوين” اهتمامًا بالغًا ولا يقصد أن يصوغها بشكل مبالغ فيه، بل يأتي العنوان بسيطًات ومعبرًا عن الموقف في آنٍ معًا، كما قد يحمل معه سرًا خفيًا (مثل يا عيسى) أو معنى شاعريًا كـ (الدبيب) و(رمش العين) أو يأتي معبرًا عن الحالة فحسب مثل (القيلولة) و( الأيام المفقودة) ..

هكذا يمكننا أن نتناول كل قصةٍ ونتحدث عن جمالياتها وتفاصيلها، ولكن كما تعلمون الأفضل دائمًا أن تقرأ بنفسك J

* * *

كاتب الرأي..

ربما يعتبر الحديث عن “محمد خير” كاتب المقال مفاجأة للكثيرين، لاسيما من لم يتعرفوا على “خير” إلا باعتباره شاعر أو قاصًا أو روائيًا، ولكن المفاجأة الأجمل هو ما يكتبه في هذه المقالات، مبدئيًا “خير” لا يكتب في مكانٍ واحد، بل ربما بدأ أصلاً صحفيًا أو مراسلاً للأخبار اللبنانية، معلقًا على أحداث أدبية وفنية وثقافية، ولكن الأمر تطور ـ تقريبًا في 2012 بعد الثورة ليتحول إلى كاتب “رأي” ـ كما يقولون ـ وصاحب عمود ثابت في جريدة التحرير.

 في الوقت الذي يكتب فيه في الأخبار عن مجموعات قصصية لـ “عبده جبير، ومحمد عبد النبي ومحمد فاروق (مثلاً) ويعلق على برنامج باسم يوسف وغناء مريم صالح، أو أفلام كـ لامؤاخذة والميدان وغيرهم، فإنه يكتب في “التحرير” مقالاً سياسيًا رصينًا، يتناول أمور “الثورة” وصراعات “الإسلام السياسي” وأمور ومواقف أخرى عديدة.

إذا كنت قد أعجبت تمامًا بمحمد خير الشاعر والقاص، فإنه يترك لك مساحة أخرى واسعة معه للاختلاف (وربما الاتفاق) في المقالات التي يكتبها، ولكنه الجميل أيضًا أنك تجد نفسك فيها، وتجده “خير”  من يعبر عنك، والحقيقة أنه يصل إلى ما يريد أن يعبَّر عنه أو يتحدث فيه بطريقة ذكية جدًا، ربما لا تختلف كثيرًا عما يفعل في كتابة الشعر أو التقاط لحظة القصة المفارقة، اقرأ مثلاً مقاله “أصل المآسي في الإسلام السياسي” أو “عالم الإنسان” أو “الشريعة أوهام التطبيق” “أخلاقنا وتقاليدهم” … والقائمة تطول، والحقيقة أنه إذا كنت قادرًا على الحديث عن ديوان أو مجموعة قصصية بعرض أفكاره أو الحديث حوله فإن الموضوع ينفلت من بين أيدينا إذا جئنا للحديث عن “مقالات” محمد خير سواء منها ما كان رأيًا خالصًا أو تعليقًا على كتابة أو فن آخر.

..

ربما يلمح البعض أننا لم نشر إلى روايته (سمـاء أقرب) .. ولكنني أفضل أن أترك فرصة لأن تقرؤوا عنها من غيري ..

م الآخر كده .. محمد خير نعمة .. يجب أن نشكر الله عليها.

 

عودة إلى الملف

 

مقالات من نفس القسم