محمد جبريل: أنا موجود فى كل كتاباتى

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 29
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

حاورته: عائشة المراغي

عائلة مكوَّنة من أب وأم وثلاثة أطفال، بنت فى الخامسة من عمرها، وصبيان، يناهز أكبرهما العامين ولا يتعدى الصغير شهرًا؛ انتقلت خلال النصف الأول فى العام 1938، من العقار الذى يسكنونه إلى المقابل له، لتبدأ رحلة طويلة لذلك الطفل الرضيع، تزيد على ثمانين عامًا، منذ قطَن الدور الثالث فى 54 شارع إسماعيل صبرى بمنطقة بحرى فى الإسكندرية ووصولًا إلى شقة 4 فى 18 شارع الدكتور سليمان عزمى بمصر الجديدة فى القاهرة؛ تلك السنوات شهدت محطات متباينة وثرية فى حياة الكاتب محمد جبريل أو «محمد لطفى حسن جبريل» كما جاء فى شهادة ميلاده.

لبِنات التكوين

منذ أدرك كينونته فى الدنيا؛ وجد نفسه فى بيئة تحض على القراءة والتأمل والدهشة واكتساب الخبرات، والمتمثّلة فى مكتبة أبيه، مترجِم الاقتصاد المهتم بالثقافة والأدب، الذى استلهم شخصيته فى رواية «حكايات الفصول الأربعة». وفى عمر 15 عامًا وقف جبريل أمامه المكتبة قائلًا: «سأصبح كاتبًا، لابد أن أكون مثل هؤلاء». هؤلاء كانوا طه حسين والزيات والمازنى ويوسف السباعى وعبد الحليم عبدالله وغيرهم. وفيما بعد انضم إليهم نجيب محفوظ ويوسف إدريس؛ صاحبا التأثير الأكبر فى تكوينه الأدبى.

يقول محمد جبريل: لا أعرف سوى الكتابة، لكن الأدب لا يؤكِل عيشًا، لذلك صِرت صحفيًا.

يصمت للحظات، ثم يستكمل بنبرة هادئة: تمنيتُ لو عاش أبى ليرى مؤلفاتى، لأنه لم يؤمن بقدراتى أبدًا فى صغرى. حينما كنت أعرض عليه شيئًا مما أكتب، كان يرد دائمًا: من كتَب لك؟. ربما يعود ذلك لخشيته من أن يصرفنى الأدب عن «المذاكرة»، ولأنه لا يصلح – فى رأيه – كعمل يمكن الاشتغال به، وهو محِّق.

تخيلتُ لبرهة وهو يتحدث أن والده كان قاسيًا، لأنه لم يشجِّعه على فعل ما يحِّب. لكنه ردَّنى سريعًا بقوله: لم يكن أبى قاسيًا على الإطلاق، على عكس أمى. أو هكذا كنت أظن، لدرجة أننى حينما توفيت قلت لنفسى «حسنًا، لقد ارتحتُ من ضربها»، لكنى تبينتُ بعد ذلك أنها كانت أمًا حقيقية، ولم تكن تلك سوى قسوة المحِّب، لأنها كانت تخاف علينا وتريدنا مثاليين.

ربما فقدانه لوالدته مبكرًا كان سببًا فى غياب المرأة عن معظم إبداعات محمد جبريل الأولى، لكن؛ ورغم أنها رحلت وهو لا يزال فى التاسعة من عمره، إلا أنه يتذكر كل شيء، حتى جُملتها القصيرة الحنون، التى لم يسمعها إلا منها. يقول: بعد تناول الطعام؛ كنت أقول لها «أنا شبعت» فترد علىَّ «وأنا فرحت».

بحرى و«بنحبوه»

عاش محمد جبريل سنوات عمره الأولى حتى بلغ سن العشرين، فى الإسكندرية. تفتح وعيه عليها، وشهدَت طفولته ونشأته وصباه. من يقرأ أعماله سيعرف جيدًا قدر تغلغل تلك المدينة فى كيانه. إنها، كما يقول: صورة «الموطن» فى ذاكرتى، وهى المكان الذى تخلَّقتْ فيه – حتى الآن – غالبية أعمالى، وبالذات؛ هذه المنطقة ما بين المنشية وسراى رأس التين، والتى مارس فيها أبطال قصصى حيواتهم، حيث سكنوا البيوت، وتنقلوا فى الميادين والشوارع والأزقة، جلسوا على شاطئ الكورنيش، قضوا الأمسيات فى حدائق رأس التين، عاشوا اللحظات الهانئة، والقاسية، اصطادوا بالسنارة والجرافة والطراحة، واصطادوا المياس ساعات العصارى، ترقبوا النوات وعانوا تأثيراتها، بدءًا باختطاف الرجـال فى البحر، إلى توضح الكساد فى ملازمة البيوت، أو شغل الوقت بالجلوس على «القهاوى».

يثق جبريل أن دافعه الأول للكتابة عن الإسكندرية هو الحنين. ربما لو أنه لم يتركها ما كتب عنها هذا الكم من الروايات والقصص القصيرة. ومع انتصاره للمخيلة، فإن الزمكان الذى يتناوله – فى الأغلب – هو حى بحرى، ذلك الحى المتسم بخصوصية بالغة، مفرداتها البحر واليابسة والصيادين وعمال الميناء والبحارة والجوامع وأضرحة أولياء الله، وانعكاس ذلك كله على مظاهر الحياة اليومية. ذلك الحى الذى وُلِد فيه وتعرَّف على المعتقدات والقيم والعادات والتقاليد التى تسِمه بخصائص مغايرة. يوضِّح: إنها بيئة خلاقة، تهِب ما لا نهاية له من الرؤى والتأملات والتعرف إلى الواقع المتفرِّد فى أدق تفصيلاته، بدءًا بوسائل العيش، وانتهاء بمحاولة السير فى الطريق التى سار فيها من قبل النديم وسلامة حجازى والتونسى وسيد درويش والحكيم ومحمود سعيد وأدهم والنشار وبيكار والشوباشى والعدوى وعشرات غيرهم.

فى حى بحرى – أيضًا – عرف ملامح التصوف الأولى دون أن يدرى، حيث كان بيته تطل عليه مئذنة، فاعتاد أن ينصت إلى الأذان من جامع سيدى على تمراز، ويشاهد زحام المصلين فى الميدان الواسع أمامه، ويستمع وقت صلاة الجمعة إلى خُطب الشيخ عبد الحفيظ – الشخصية الرئيسة فى روايات «رباعية بحرى»، «أهل البحر» و«ورثة عائلة المطعنى» – ويردد تكبيرات المصلين فى عيدى الفطر والأضحى، منذ ما قبل شروق الشمس. يتذكَّر: مثَّلت لى صلاة الجمعة والعيدين، وامتلاء سعة ميدان الخمس فوانيس، بداية التعرُّف إلى الدين. تأملت، وسألت، وتلقيتُ أجوبة. تلاصقتْ الجزئيات والتفصيلات، لتشكِّل – فى النهاية – مشهدًا بانوراميًا يعانى الشحوب، ثم لحقته تكوينات جديدة، فرضها التعرُّف إلى معنى الدين. لكنى لا أتعمد البُعد الصوفى، إنما هو تعبير عن الشخصية، وعن الموقف والحدث، فى اللحظة التى يختارها.

وجد جبريل فى الواقعية الصوفية تعبيرًا متماهيًا، أو موازيًا للواقعية السحرية التى توصف بها إبداعات جارثيا ماركيز وإيزابيل الليندى ويوسا وغيرهم من مبدعى أمريكا اللاتينية. لكنه تبيَّن لاحقًا أن تسمية «الواقعية الروحية» أقرب إلى الدقة، بل هى – فى قناعته – صحيحة تمامًا. يفسِّر: الواقعية الصوفية تحصر الجو الإبداعى فى الممارسات الصوفية وحدها، فى مكاشفات أولياء الله وكراماتهم، ما ينسب إلى السيد البدوى وأبى العباس والشافعى والرفاعى والشاذلى والحجاجى وديوان أم العواجز من خوارق ومعجزات، وما ينسب إلى الفرق الصوفية بعامة من إجراءات وطقوس. أما الروحية فهى تهب دلالة أكثر رحابة، وأشد تحديدًا فى الوقت نفسه. مكاشفات وبركات الصوفية تتماهى مع بنية الواقعية السحرية، وتوظيف الفن للبعد الصوفى ليس لمجرد ما يحمله من خوارق ومعجزات، لكنه يصدر عن فلسفة حياة تشمل الميتافيزيقا وعلم الجمال والهموم الآنية من سياسة وتاريخ وعلم اجتماع وعلم نفس وغيرها.

منذ ستين عامًا، أى سنة 1959؛ قرر محمد جبريل الانتقال إلى القاهرة، بعد سنوات قليلة من وفاة والده، وتفرُّقه هو وأخوته، حيث ذهب كل منهم للعيش مع أحد أقاربه. إلا أن الإسكندرية لم تغب عن خاطره يومًا، وهو ما عبَّر عنه فى كتابه «أيامى القاهرية»، وكأنه ينفى اتهامًا، قائلًا: «ابتعدتُ عنها، دون أن تبرح موضعها فى داخلى». وهو ما أوضحه مستطردًا: منذ غادرتُ الإسكندرية لم تغادرنى، ظلت فى داخلى بذكرياتها، وتأثيراتها، وصور الحياة بين اليابسة والبحر. حتى عندما حاولتُ التعبير عن «أيامى القاهرية» فإن صورة بحرى ظلت على إلحاحها ولم تغادر وجدانى.

فلسفة حياة

رغم أنه بدأ الكتابة فى سن مبكرة، ويعَّد من كُتَّاب الستينيات، لكنه لم ينشر قبل عام 1970، الذى شهد ميلاد مجموعته القصصية الأولى «تلك اللحظة»، لأنه قضى عشر سنوات كاملة يقرأ فقط، أو على حد تعبيره «يؤسس نفسه». يقول عن تلك الفترة: كانت لدىَّ حالة هوس بالقراءة، أخذّتنى من كل شيء، وشغلتنى عن الاستمتاع بكثير من التجارب، حتى أننى لم أتعلَّم «العوم» رغم نشأتى الإسكندرانية.

اعتاد محمد جبريل، قبل أن يدفع إلى المطبعة بعملٍ ما، أن يعود إليه – فى أوقات متقاربة – ليراجع، ويضيف، ويحذف، متأثرًا فى ذلك بقول بلزاك إنه قد يقضى فى قراءة النص ثلاثة أيام، ثم يحذف حرفًا، ويقضى فى القراءة ثلاثة أيام تالية، قبل أن يعيد الحرف المحذوف. لكنه يؤكد: إذا صدر العمل لا أعود إليه على أى نحو. إلا أن أصداء بعض الكتابات فى نفسى، وفى عملية التلقى؛ دفعتنى – أعترف – إلى إضافة أوراق أخرى إلى أوراق المتنبى، وإلى استعادة ما حذفته الرقابة فى الطبعة الأولى من «الأسوار»، وإلى استكمال أحداث قصتى القصيرة «نبوءة عراف مجنون» فى رواية «رائحة الحنين»، وقصتى القصيرة «انكسارات الرؤى المستحيلة» فى رواية «أحمد أنيس.. ظلّى الضائع». والحق أنى خلوت إلى الروايتين كنصين جديدين أول خيوطهما فى محاولتين قصصيتين، ثم تشابكت الخيوط فى عملين روائيين، لا صلة لهما بغير لحظات الكتابة الآنية.

القارئ لكتابات جبريل سيجد جانبًا ذاتيًا فى كل عمل، أو كما يقول هو «أنا موجود فى كل أعمالى. من يقرأنى جيدًا يعرفنى جيدًا». لكنه منذ البداية وضع إطارًا عامًا لمشروعه الأدبى حرص فيه على فلسفة الحياة التى تنعكس فى شخصيات وأقوال وتصرفات، بالإضافة إلى «الحكاية» فى المقام الأول. يقول: الحدوتة دعامة أولى فى بناء أى عمل روائى، ثم تأتى بقية الدعامات، وهى بالنسبة للتقنية عندى؛ الإفادة من العناصر والمقومات فى وسائل الفنون الأخرى، كالفلاش باك والتقطيع فى السينما، والتبقيع فى الفن التشكيلى، والهارمونى فى الموسيقى، ودرامية الحوار فى المسرحية… إلخ، فأنا أؤمن بقول بريخت «يجدر بالكاتب – لكى يسيطر على القوة الدينامية للواقع – أن يفيد من كل الوسائل الشكلية المتاحة، بصرف النظر عن جدتها أو قدمها». وأتصور أن ذلك يتبدى ـ بدرجة وبأخرى ـ فى كل رواياتى؛ بدءاً بالأسوار وانتهاء بالنفى إلى الوطن، مرورًا بما يجاوز الأربعين رواية، فضلًا عن عشرات القصص القصيرة.

ويستطرد جبريل: على الروائى – والقاص بالطبع – أن يثرى إبداعه بإسهامات الفنون الأخرى، بما تملكه الفنون الأخرى من خصائص جمالية وتقنية، فيتحقق للنص الأدبى أبعاد جديدة، وتتحقق كذلك أبعاد جديدة للفنون الأخرى.

يجعل محمد جبريل من تلك الكلمات الثلاث «أقرأ.. أتأمل.. أكتب» شعارًا لمشروعه الأدبى، أما فلسفة حياته، التى تظهر فى كتاباته أيضًا؛ فهى «المقاومة». ثمة مقاومة الخوف والمطاردة والسلطة الظالمة، وفى المقدمة مقاومته للعدوان الصهيونى، فهو ضد الصهيونية؛ لا اليهود. يؤمن بالوحدة العربية، ويقول: أنا ضد إطلاق اسم الشرق الأوسط على بلادنا، تلك تسمية أُطلِقت من أجل إسرائيل. إنه الوطن العربى، المكوَّن من أقطار كثيرة، من بينها المصرى. وهذه المنطقة لن تتبدل أحوالها إلا إن صرنا وطنًا واحدًا.

عروبى وافتخر

تلك الروح العروبية؛ تعود غالبًا إلى اهتمام محمد جبريل الشديد بالتراث، الذى يحتل عددًا كبيرًا من أعماله، فعندما يحِّن لفترة معينة، يقرأها جيدًا ليوظِّفها فى نص أدبى، فيتعرف – بصورة حميمة – إلى مفردات لغتها وعاداتها وتقاليدها ومظاهر الحياة فيها، يقول: لا أبدأ الكتابة إلاّ وأنا فى حالة توحد كاملة مع الفترة التى اخترتها. بعد ذلك أترك للعمل الإبداعى عفويته وتلقائيته، لا تشغلنى الملابسات التاريخية، لأننى لستُ مؤرخًا.

عرض جبريل فى دراسته التى جاوزت الأربعة آلاف صفحة بعنوان «مصر فى قصص كتابها المعاصرين» لثورات المصريين منذ 1881 إلى 1952، اعتمد فيها على ما أتيح له قراءته من كتب المؤرخين. إلا أنه فى روايته «اعترافات سيد القرية» التى دارت خلال العصر الفرعونى، والأعمال الإبداعية العديدة التى كانت ثورة يوليو 1952 نبضًا لها، مثل: «النظر إلى أسفل» و«عناد الأمواج» و«الشاطئ الآخر» و«رباعية بحرى» و«حكايات الفصول الأربعة» و«رائحة الحنين» وغيرها؛ جاءت وليدة خبرات شخصية وغيرية، لأنها جرت فى الأمكنة التى عاش فيها، والأزمنة التى عاصرها.

أما فى روايته الأخيرة «النفى إلى الوطن»؛ فيعود جبريل إلى فترة انتقال مصر إلى العصر الحديث، من خلال العلاقة بين الحاكم محمد على والزعيم الشعبى عمر مكرم. وهى فترة حافلة بآلاف الأسئلة والصراعات والمؤامرات والصمود الشعبى، يصفها قائلًا: إنها فترة – لخطورتها – تحتاج إلى التأمل العميق والاستيعاب والفهم ومحاولة التوصل إلى النتائج الصحيحة.

مقاومة لا تهزمها الآلام

فى أوائل الثمانينيات من القرن الماضى؛ انتقل محمد جبريل إلى شقته الحالية بمصر الجديدة، ليقضى فيها ما يقرب من أربعين عامًا، حتى صارت تشبهه. كل ركن فيها له حكاية. بدءًا من المكتبة وما تحويه من كتب متنوعة، وحتى الصور القديمة التى تزيِّن حوائطها، و«التُحف» التى تعبر كل قطعة منها عن ثقافة بلد زاره هو أو رفيقة دربه د.زينب العسال، أو كليهما.

وكما شهدت الشقة أجمل لحظاته؛ احتضنت – أيضًا – آلامه، التى أصبحت شبه يومية بعد تعرضه لإصابة، يعتبرها «إصابة عمل». نعم. فمن يعمل فى الصحافة يعرف جيدًا ما تعانيه العظام، من جراء القراءة والكتابة. لكن إصابته تضاعفت بعد خضوعه لعملية جراحية، تسببت – بخطأ من الطبيب – فى تدهور حالة عموده الفقرى وإعاقة حركته، فلازم بيته ولم يعد يبرحه سوى نادرًا.

مع تزايد آلامه، ازداد تمسكه بالقراءة والتأمل والكتابة، وصاروا سلاحه لتحمُّل الآلام. ولأن فلسفته هى «المقاومة»؛ فلم ييأس أو يستسلم، ومازال يبادر بالذهاب إلى كل طبيب يخبره أحدهم بأنه قد يكون قادرًا على مداواة ما أتلفه زميل مهنته، ولذلك سافر مؤخرًا إلى الإسكندرية، لكن جواب الطبيب جاء كالتالى: «إذا أجريت عملية ثانية فإن نسبة إصابتك بشلل كلى تبلغ 70%، والاقتصار على المسكنات يرجئ ما أخشاه». ثم أردف بلهجة متصعبة: «العملية تنجح فى أوروبا لأنهم يجرونها كمجموعة أطباء، كل فى تخصصه».

غادر جبريل العيادة وهو يجتر الكلمات التى لم يفهمها! لكنه مازال مستمرًا فى مقاومته، وينتظر يوم السبت، والجريدة ماثلة للطبع؛ لقاء مع طبيب آخر بمستشفى دار الفؤاد، ربما يجد لديه الحل.

 

مقالات من نفس القسم