محاولة لتأجيل الانتحار

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 8
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

سارة علام
تبدو محاولة الكتابة عن الشعر، كمن يحاول الرسم علي الماء، عبث بالريش لا يغير مسار النهر، محاولات لرسم لا يستقر إلا لحظات، إذ أن الريح أكبر دائمًا من قدرة الماء على المواجهة.
لا أرى فى الشعر إلا المنجى وربما هو اللعنة، قد يكون عينًا ثالثة أسير بها بين الناس لأرى بها الألم على حقيقته، أو يرانى هو فيختارنى لأنزفه دماءً وحروفًا، قد يكون الشعر داءً وقد يصير أيضاً دواءً وحيدًا، يُقال ما يُقال عن الشعر ولا أرى فيه إلا محاولة لتأجيل الانتحار أو الجنون، كذبة مجازية لبورتريه منمق عن الذات، محاولة لستر الخواء بفضحه أمام الناس فلا أخشى منه شيئًا.
قد يكون الشعر أشياء كثيرة، غير تلك التى أراها فيه وهو الذى علمنى هجر اليقين، ولكن الأكيد إنه طوق نجاة لم أعد بعد كتابته نفس الفتاة التى كنتها، لولا الشعر كان من الممكن أن أصير شجرة تسقط فروعها عمدًا فوق رؤوس باعة فقراء، غير إنه سلبنى كل ذلك، علقنى بحبال القصيدة، يذبحنى المعنى، أذوب بحثاً عن قفلات جديدة.
أهديت ديوانى الأول لنفسى، وحين كتبت ديوانى الثانى، أهديته لأبى الشعر وحده ثم عدلت عن ذلك فى ديوانى الثالث الذى أهديته لى أيضاً، توحدت مع الشعر إن أهديت الكتاب لى، فللشعر منه نصيب القلب من الجسد، نصيب العين من الوجه، ونصيبى من كل ما حصدت وما تركت وما فاتنى.
عام 2012 كنت مأخوذة بهذا الحماس الذى صنعته الثورة فى جيلى، الناس تهتف فى الشوارع، القصيدة تندلع فى قلبى، أطهو نصوصى على النار كلما سقط شهيد جديد، كانت كتابتى غاضبة جدًا، كمن يمسك بفأس يهد به العالم دون أن ينشغل بإعادة بنائه، كلما انتهيت من قصيدة شعرت أن جداراً سقط فى روحى، كسرت خوفى القديم وانتصرت بالكتابة لذاتى وعليها.
بقلق المبتدئين وحظهم، ذهبت لدار العين للنشر، لأنشر ما اسميته نصوصا، فاستقبلونى كنبى منتظر، وقالوا إنه “الشعر”، كانت الحفاوة التى استقبل بها عملى الأول مفاجأة بالشكل الذى جعلنى اتلفت حولى كلما نادانى أحدهم بالشاعرة، ليس بعد ذلك نصر، ليس بعد الكتابة مجد.
حين كتبت ديوانى الثانى «تفك أزرار الوحدة»، كنت أحاول التخلص من وحدتى، بفضحها، ليشهد الجميع إن الوحدة لا تعنينى منذ اليوم، ليست منى ولست منها، كانت محاولة للتخلص، ثم توحدت معها أيضاً، وقعت فى غرامها وصارت وحدتى منى، هى الأصل، والشراكة عابرة، جئت للعالم وحيدة، وسأغادره وحيدة، وما بينهما طارئ.
انتظرت طويلًا حتى استطيع أن أكتب حرفًا جديداً، لم يكن الشعر عصياً عليّ، ولكن أعذار الأعمال الأولى قد انتهت، فى الكتاب الثالث إما مغامرة مدهشة أو ردة إلى الخلف لا حلول وسط، مزقت قصائد كثيرة وهو عليّ ليس بهين، جربت وشطبت وبحثت عن المعنى ليالى طويلة، هجرت مسوداتى عامًا أو اثنين ثم عدت إليها بروح جديدة، حتى آمنت أن هذا الديوان يُشبهنى الآن، يقول ما لم أقله من قبل، يعاصر تحولاتى ويؤرخ لهزائمى الشخصية.
يغادر الناس الشعر إلى الرواية، لا يشغلنى ذلك أبداً، أكتبُ لنفسى ولا أفكر فى من باع ومن اشترى، أحيانًا تضيق بى القصيدة، أريد أن أقول أكثر، أن أكتب ما لا يحتمله الاختزال، وما لا تعرفه الدلالة، أريد أن أروى، أن أكتب حكايات جديدة، رأيتها بعين الشاعر وكتبتها بلغته، إن اختلفنا على القالب فلا يقلل ذلك من انتسابنا للشعر الأب، ولا يزعج الرواية كأم بديلة.
لا يتركنى الشعر، إن أردت له ذلك، الشعر نظارتى تنجى وتغرق، ترفع وتنزل، تهدم وتبنى، ولكنها لا تبرح موقعها من قلوبنا أبدًا، يولد الشاعر شاعراً وقد يموت على غير دينه ولا يعيش بغير عينه.

مقالات من نفس القسم