“محاولة الإيقاع بشبح”.. الحكاية سبب للحياة

موقع الكتابة الثقافي writers 55
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

محمد الفخراني

إنه الغرام بالحكاية.

ومَنْ ليس مُغْرَمًا بها؟.

فى روايته الجديدة “محاولة الإيقاع بشبح”، يُقدِّم “هانى عبد المريد” حالة من الغرام بالحكاية.

“أسرة بسيطة يتحَوَّل بعض أفرادها إلى دُمَىَ من المطَّاط”، ثم تبدأ الحكايات، يمكن النظر إلى هذه الفكرة كأنها بلُّلورة تُظْهِر جانبًا جديدًا مع تدويرها: ربما مأساة صغيرة، فانتازيا رمادية، سخرية، شجن، واقع موازٍ، طرافة غرائبية، و”هانى” يصنع من هذا كله مزيجًا أُحب أن أُسمِّيه طرافة غريبة.

الرواية لا تنتظر منك أن تتقدَّم وحدك فى قرءاتها، إنما تُقدِّم نفسها لك، تقطع إليك نصف المسافة، لغة سهلة، وجُمَل قصيرة، لا أقول متدفقة، فهذا شائع، إنما إيقاع أهدأ من التدفق، وفى الوقت نفسه أكثر خِفَّة منه، هذا الإيقاع الذى بدأه “هانى” بشكل خاص فى روايته “أنا العالم”، ثم صَعَدَ به درجة أخرى من “النحافة” والخِفَّة فى مجموعته “تدريجيًا وببطء”، وهنا فى “محاولة الإيقاع بشبح”، يصل إلى مستوى جديد من الجملة البسيطة، واللغة الرائقة، الموزونة.

بعد أن تحوَّل الأب “مرزوق” والابن “مازن” والابنة “فريدة” إلى دُمَىَ من المطَّاط، تقوم الأم “هانم” بتهريب الابن “يامن”، ليعيش مع خاله الضرير “يونس”، حتى لا تصيبه لعنة المطاط، وهناك، فى تلك الشقة الصغيرة، يكتشف “يامن”، الصبىّ، عالمًا أكبر من سِنِّه، يطلب منه خاله (بمنتهى الأريحية)، أن يتلصَّص من بين إحدى فلقات الشباك، على جارته الشابة الجميلة المتزوجة، ويصف له تفاصيل جسدها، سيُعلِّمه الخال كيف يصف كل مَقطعٍ منها، سينقل له “يامن” تفاصيل العلاقة الحميمة بينها وبين زوجها “حسين”، الذى حوَّلَ هذه العلاقة إلى جحيم بالنسبة لها، بسبب ممارساته معها، هل يمكن وصف هذه الممارسات بأنها شاذة، أو غير عادية، أم مهووسة؟ الأكيد أنها غبيَّة، سنعرف ذلك فيما بعد.

فى الرواية مجموعة من الألعاب، والتكنيكات الفنية، تعتمد على فكرة الحكاية داخل الحكاية، نقرأ تلك اللعبة بين “يامن” والخال “يونس”، بأن يَذكُر أحدهما كلمة ما، أيَّة كلمة، ولتكن، “الجنون”، “الموت”، فيحكى الآخر حكاية صغيرة حولها، ربما ينطق أحدهما بإحدى الكلمات كى يتخلَّص من موقف ما، يحاول الهرب من الحكاية الواقعية التى هو فيها، بالدخول فى حكاية يتم ارتجالها بإلقاء كلمة فى الهواء، هذه الحكايات المُرْتَجَلَة تُعَبِّر بشكل ما عن مخاوف الخال، أحلامه، رغباته، عالمه الداخلى، وترسم ملامح شخصيته، بينما يعتبرها “يامن” طريقة للعب، أو رياضة عقلية مثلما يقول، لكنها فى الوقت نفسه، ودون أن يدرى، تُخَرْبِش خطوط حياته.

لعبة كأنها شبح يظهر فجأة، وتُمَثِّل حكاياتها قِطَعًا فنية لها خصوصية تتماهى مع تشكيل الرواية، تُضيف ألوانًا إلى روحها، وتُزيد من أشباحها اللطيفة.

تستمر لعبة الحكى بأن تتعرَّف “هانم” إلى عجوز تحكى لها حكايات عجائبية، وتقوم “هانم” بإعادة حكيها إلى زوجها وابنها وابنتها المتحوِّلين، فيستعيدون، تدريجيًا، حواسَّهم، وأشكالهم الطبيعية، لكنهم لا يتحركون ولا يتفاعلون معها، لم يستردُّوا أرواحهم بعد، تخبرها العجوز أنها لا تعرف الحكاية التى سترُدُّ إليهم أرواحهم، وأن هذه الحكاية تحديدًا ضمن حكايات “هانم” نفسها، فصار عليها أن تحكى لهم كل ما لديها، حتى تحصل على الحكاية المطلوبة، فهل تكون هى الشبح المقصود؟.

تقول “هانم” فى أحد فصول الرواية: “أتذكَّر أننى قرأتُ ذات مرة قصة كان الولد فيها يتخذ ديكًا روميًا كأب له بعد أن فقد والده بطريقة لا أذكرها الآن”، ما قالته “هانم” هو فكرة القصة الأولى فى مجموعة “هانى” السابقة “تدريجيًا وببطء”، الكاتب هنا يلعب مع كتابته أولاً، ثم مع قارئ يتابع ما يكتبه، فى الرواية تكنيكات تستمر للنهاية، وتتكرر، وأخرى تحدث مرة واحدة، ولا تستغرق أكثر من سطور قليلة، كأنها مراوغات صغيرة داخل لعبة كبيرة، تُعادِل الحكايات الصغيرة داخل الحكاية الأكبر.

ستكون حكايات العجوز لهانم، بمثابة استراحة لها، وتسلية، وَسْطَ متاهتها، ستساعدها على التماسك، فلا تنهار بين دمياتها الثلاث (زوجها، وابنتها، وابنها)، ستمنع عنها الجنون، وتمنحها فرصة فى إحدى المرات لترى العالم من أعلى، وتلاحظ كم هو صغير بشكل مُضحِك (كل هذا فَعَلَتْه الحكايات دُفْعَة واحدة).    

من المهم أن يبتعد الكاتب عن روايته خطوتين (أو أكثر، اعتمادًا على..)، ليرى كيف يمكنه أن يُثير جنونها فنيًا، أو يبحث عَمّا يمكن أن يكون ثغرة بها، وهذا ما فَعَله “هانى”، فهناك ذلك السؤال: لماذا تحوَّلَ الأب “مرزوق” والابنة “فريدة”، والابن “مازن” إلى دُمَىَ من المطاط، ولم يحدث هذا مع “هانم”، و”يامن”؟، كانت هناك ثلاثة طُرُق للتعامل مع هذا السؤال: (1) إما أن يُقدِّم إجابة مباشرة مُغلَقَة عن المتحوِّلين الثلاثة، وهذا أضعف الاختيارات برأيى وأسهلها، (2) ألا يُقدِّم أيَّة إجابة ويترك الأمر مفتوحًا لخيال القارئ، ورغم أنه اختيار جيد، لكنه لن يُعْدَم مَنْ يظَلُّ يتساءل عن تلك الإجابة الغائبة، (3) أن يُقدِّم إجابة مفتوحة، تُثير سحابة صغيرة من الوهم، وهذا ما اختاره “هانى”، فقد ذَكَرَ أن الثلاثة الذين أصابتهم لعنة المطاط، شعروا فى أحد الأيام بزلزال وهمى، لم تشعر به الأم “هانم” ولا “يامن”، رغم وجودهما معهم داخل البيت، كما أن كل واحد من الثلاثة، تحوَّلَ فى ليلة كان القمر فيها بدرًا، وهناك فارق زمنى ثابت (تسعة أشهر)، بين تَحًوُّل كلٍ منهم والاثنين الآخَرَيْن، هذه التفاصيل أثارت غموضًا حول الثلاثة المتحوِّلين، وجعلَتْهم مُرَشَّحين لأيَّة لعنة تصيبهم، أو نعمة تُبارِكهم.

لماذا تركَتْ “فوفا” نافذتها مفتوحة بعد أن عرفَتْ بوجود الصبىّ “يامن” مع خاله “يونس”، حيث يمكن لهذا الصبىّ رؤيتها فى حالاتها حتى مع زوجها، وهذا ليس تَصَرُّفًا مُتَوَقَعًا منها؟ يظلُّ السؤال مطروحًا داخل الرواية، حتى نحصل على إجابة، قُرْبَ النهاية، فى الصفحة 123، عندما تقول “فوفا” ليامن، أنها لم تعرف بوجوده حتى وقت قريب (كان الخال يونس قد خَصَّصَ ليامن الغرفة بالجهة الأخرى من الشقة، واحتفظ لنفسه بالغرفة المواجهة لنافذة فوفا)، إنهما خطوتان فقط يتحركهما الكاتب بعيدًا عن النصّ، ليصيرَ أَقْرَب.

نتابع طوال الرواية تلك العلاقة بين الخال “يونس” و”يامن”، تتخلَّلَها حوارات الحب واللذَّة حول “فوفا”، وتعليقات الخال اللاذعة، سريعة البديهة، والانتقال منها فى الحال إلى حوارات قصيرة، تحمل بُعْدًا إنسانيًا وفلسفيًا على طريقتها، فبَعد أن تهرب “فوفا” من زوجها “حسين”، سيُعلِّق الخال على حال “حسين” البائس بدونها: “كان زمانه بياكل موز بالعسل ابن بنت المرة”، هو نفسه الخال، الذى يتحدث عن الموت بحكاية لها رؤية تَخُصُّه، وفى مَوْضِع آخر سيذكر “يامن” إحدى الأفكار التى أضاءها له خاله: “من السهل خداع الناس، بينما من الصعب، وما ينبغى أن أفخر به، هو كيف أعرف أن أعبر عن حقيقتى، لا كيف أخفيها”.

الخال “يونس”، الرجل الذى فَقَدَ بصره تدريجيًا، وبنفس هذا التدرُّج يبدو وكأن مناطق أخرى كانت تضىء بداخله، سرعة البديهة، اختصار الأفكار الكبيرة فى جُمَل قصيرة، مع اشتعال مساحات الحب، واللذة، هو الذى أَحَبَّ جارته “فوفا” دون أن يتبادل معها سوى كلمات قليلة كل يوم، ربما لا تتجاوز “صباح الخير”، أَحَبَّ رائحتها، صوتها، غناءها، ومُجرَّد شعوره أنها فى البيت المقابل، قريبة وبعيدة معًا، كان هذا كافيًا لفَرَحِه.

لن نرى “حسين” زوج “فوفا”، إلا وهو يمارس معها عاداته الغريبة أثناء علاقتهما الحميمة، سيبدو شخصًا مهووسًا، لكن ربما لا تشعر تجاهه بالغضب، قد تلتمس له عُذرًا ما، وتفكر أن “فوفا” فاتنة حدَّ أنها تذهب بعقله فى كل مرة، ستبتسم حتى من تعليقاته السَّكْرانة بهذه الزوجة المثيرة، لن تُكوِّن عنه فكرة واضحة من خلال السَّرْد، لكن وفى لحظة ما، سيُلَخِّص “هانى” شخصية “حسين” بجملة واحدة، فبعد أن يؤذى “فوفا” فى واحدة من ممارساته، حتى كاد يتسبَّب فى موتها، وبعد عودتها من المستشفى، سيقول لها: “معلش يا فوفا، المرة الجاية هآخد بالى”، هناك مرة أخرى إذن؟! عندها ستعرف كم هو شخص أنانى، ولا يرى “فوفا” غير أداة لمُتْعَتِه، مهما سبَّبَ لها من أذى.

يمارس “هانى” هوايته تلك داخل كتاباته بشكل سهل، وتلقائى: تلخيص الشخصية فى جملة واحدة مُفاجِئة، غالبًا ما تنطقها الشخصية بنفسها، ويكون بها حِسُّ من الدعابة، يفتح مجالاً للشخصية كى تمُرُّ بداخلك رغم أىّ شىء.  

تهرب “فوفا” من “حسين” ويستضيفها “يامن” فى غرفته لعدَّة أيام، قبل أن تعود ثانية لزوجها، ولا نعرف بشكل صريح، إنْ كان الخال “يونس” قد شعر بوجودها معه فى بيته أم لا، ربما هى واحدة من المساحات المفتوحة التى تركها “هانى” داخل روايته، فإذا كان الخال يشعر بها، وهى فى بيتها، ويَشُمُّ رائحتها، إذا كان بهذه الحساسية تجاهها، فمن المُتَوقَّع أن يشعر بوجودها معه، لكنه تَصرَّفَ بما يدلُّ أنه لا يشعر بوجودها، وفى الوقت نفسه يقول ليامن أشعر أنها قريبة، كأنها هنا، برأيى أن الخال “يونس” لم يشعر بوجود “فوفا” معه، فى بيته، والسبب هو وجودها معه بالفعل، وقُرْبها إلى هذه الدرجة، فقد سبَّب هذا ارتباكًا لحواسِّه، هو قد ضَبَطَ نفسه على مسافات وخيالات معها، أما وجودها معه فكان قفزة كبيرة، أصابت راداره بتشوُّش، وغيَّرَتْ، دون أن يدرى، أماكن العلامات التى وضَعَها لنفسه كى يصل إليها، حتى أنه لم يُصَدِّق عندما كانت بين يديه، تمنحه نفسها، وتتحدث إليه، واستطاع “يامن”، بسهولة، أن يُقنعه وقتها أن ما فَعَلَتْه معه كان حلمًا.

الصفحات الأخيرة من الرواية مشحونة بطاقة لطيفة من الشجن، نرى “فوفا” وهى تتبادل تحية الصباح مع الخال “يونس”: “صباح الخير يا شيخ يونس”، فيردُّ: “صباح الخير يا ست الكل”، يقولها باطمئنان، ويتبادلان بعدها جملة أو اثنتين، هى لم تُغلق نافذتها، تترك للشيخ “يونس” و”يامن” متعة مشاهدتها، وحتى بعد أن تَهدَّلَ جسدها، سيظَلُّ “يامن” يصفها له بأنها جميلة مثيرة، “جاءنى خاطر أن الخال ستنتهى حياته يوم تفقد حكاياتى بريقها بالنسبة له”، وهما، الخال “يونس” و”يامن” لن يفقِدا لعبتهما الأثيرة، سيُلقى الواحد منهما بكلمة فى الهواء، مثل شبح يظهر فجأة، ويكون الآخر مضطرًا لابتكار حكاية عنها، أو جُملة تُعبِّر فى رأيه عن جوهر هذه الكلمة.

فى الوقت نفسه كانت “هانم” وحيدة، هناك، تحكى لدمياتها الثلاث فى انتظار أن تُصادِف الحكاية التى تُعيد إليهم أرواحهم، تلك الحكاية التى يمكن اعتبارها الشبح المقصود، مع وجود فرصة لأشباح أخرى.

إذا كان “هانى عبد المريد” مشغولاً فى كتاباته، ضِمْن ما يَشغله، بفكرة الإغتراب الإنسانى، فهذه الرواية “محاولة الإيقاع بشبح”، تُقدِّم طريقة للتعامل مع هذا الاغتراب، ومراوغته، إنها الحكاية .

“محاولة الإيقاع بشبح” رواية عن الحكاية، وللحكاية، عن الحب، اللذَّة، الغرابة، الطرافة، سرعة البديهة، والإيقاع الموزون.

والحكاية دائمًا وسيلة للنجاة، وسبب للحياة.

مقالات من نفس القسم