مبررات غير منطقية

مبررات غير منطقية
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

أحمد ندا

الأمطار غزيرة هذا الشتاء

والفناء مكشوف

اللصوص الذين لا يقدرون على دفع الباب؛

يمضون يائسين

العتمة أكثر من قوية

طوال الليل

كانوا ينزحون الماء بصفائح قديمة

ولا يغطون رؤوسهم

أفراحهم تطير مع كل نقطة

الطينة كافية لجذب أحدهم

كلما حاول الخروج

والشمس ستصلح كل شيء

2004، مر عام على وجودي بمصر، أصر أبي على أن أعيش في قريتنا وأسافر يوميا إلى كليتي بالمنصورة، زوجة خالي تلد، يوم قاس من يناير، الساعة الثانية صباحا، كنت فرغت لتوي من اقتحام كل النساء اللاتي قرأت عنهن في رواية “السراب” الرواية التي رافقتني لسنين قبل نومي –وهذه قصة أخرى- ..زوجة خالي تصرخ: أحمااااااااد روح نادي دكتور..داية..أي مصيبة..قفزت من سريري مرغما غير راغب بفعل أي شيء حقيقة، الجو بارد والظلام حالك وكلاب السكك تنتظر ساذجا مثلي لتتسلى عليه ليلتها، لحظي النحس أمطرت كثيرا و”غرزت رجلي” في الطين أكثر من مرة، فقدت “شبشبي” في واحدة من مقالب الطين المعتادة.

عدت بعد ساعة تقريبا، زوجة خالي مازالت تصرخ بنفس الإخلاص، الداية هي من جاءت وخرج “أحمد” على يديها..كانت المرة الأولى التي أرى فيها جنينها يخرج لتوه، كنت متعبا متقتطع الأنفاس وأرعبني الطفل بسوائله ورائحته وجلده المجعد…

لماذا أتذكر هذه القصة وأنا أكتب عن يماني؟ قصائد يماني مرتبطة معي بأيامي في القرية، لم تطل هذه الأيام أي نعم، لكنها منقوعة في لاوعيي منذ الولادة؛ أبي الذي يتباهى بانتسابه للفلاحين بمناسبة وبغير مناسبة موجود في قصائد شجرة العائلة، القرية التي صارت جزءا من تكويني بمجرد الحكي عثرت عليها في نصوص يماني -ربما صار كل مايتعلق بحياة الآخرين مجرد حكايات، أنا نفسي مجرد حكايات أحكيها لنفسي دائما-..

السرير النحاسي

يطقطق عند أول لمسة

على أعمدته الطويلة

ستارة مربعة

يحترس في كل مرة يصعد فيها

لئلا تخونه قدماه

بالملابس الخفيفة

تبدأ مطاردات الليلة

والحب مازال ينمو

مع الخجل والاستسلام

والصراخات المكتومة

السرير يرتجف كل ليلة

والنزول تدريجيا

بالاستناد على الذراع اليمنى.

سرير جدي النحاسي، عرف أربعة ميتين، جدي أولهم ثم ابنة خالي ذات العامين، ثم جدتي، وخالي الأكبر، هكذا صار السرير ملعونا، تزيد اللعنات أيام الجمعة بالذات –مات الأربعة فيه-، ولما كنت أحاول أن أصير عقلانيا مخلصا قررت أن أكسر نحس السرير بالنوم عليه..في البداية سرت الرجفة في جسدي، حاولت عدم التفكير، لكن ثمانية عشر عاما غير كافية لأحد كي يتخلص من الميتافيزيقا..يماني كان هنا بالتأكيد، مر على مثل هذا السرير النحاسي بعواميده الهائلة وناموسيته التي تحيل إلى الحلم..هل سمعت اسمه في هذه الفترة؟ نعم وظننته في البداية “أحمد زكي يماني” السعودي! لا لم أسمعه لكن قرأته في موقع قصيدة النثر لعماد فؤاد –أنا ممتن لعماد على الهدايا الثمينة التي قدمها لي بهذاالموقع- عبرتُ اسم يماني سريعا ولم أعبر “شجرة العائلة” بنفس السرعة، ثمة قروي هنا يختبئ خلف قصيدة النثر، أو ينكشف بقصيدة النثر، أنا الحجر المتحرك الذي لم ينبت عليه العشب، أريد أن أختبئ، أريد أن أنكشف..

في برطمان زجاجي علّقته بداخل خزانة المطبخ كنت قد حرقت حبي وجمعت رماده. في نهاية الأسبوع أرّشُ منه على نباتاتي فأراها تهتز. في اليوم التالي تنتعش قليلا ثم لا تلبث أن تموت تاركة صفارا محروقا في كل أصيص. آخذ الصفار وألقيه بعيدا وأوشوش للنباتات أن تنسى الأمر برمته”.

تمد يدها بديوان أماكن خاطئة، “خد اقرا الكتاب ده ياأحمد، هو اللي فيهم” تقول لي، أسألها مين هو اللي فيهم؟ ومين هما أصلا؟ تبتسم وتقول: مش انت بتحب عماد أبو صالح وإيمان مرسال؟ قلت لها: آه..قالت: يماني بقى، قلت: مانا قريت له شجرة العائلة وبحبه قوي، قالت: كل ديوان للراجل ده أعلى من اللي قبليه، فقلت ساخرا: هو ألبوم عمرو دياب يابنتي..

كنت أحبها بإخلاص يدفعني أن أقرأ الديوان وأحفظ الكثير من نصوصه، لم تكن مصرية ولم تكن شاعرة، كانت تحب الشعر وتحب المصريين..وأظن أنها تحبني، وكنت مهووسا بها الهوس الذي أبعدها عني..

أخذني يماني من يدي إلى قصائدي أنا، بهذه السلاسة الآسرة، نسفها نسفا “بلاش التعقيدات دي ياأخي” تخيلته يؤنبني، وضعت يدي على أماكن قصائدي الخاطئة، ولغتها الخاطئة وقلت: عاوز أشوف يماني وأقعد معاه.

لكنه مات.

كان يتحدث بلا انقطاع كمن يسدّد ديناً قديماً للكلمات

التى على وشك أن تهجره.

غداً سألبس معطفى الأسود و أمضى إلى الجنازة

وعندما أعود إلى البيت سأبتسم لنفسى.

2012، أجلس في مطعم استوريل بوسط البلد، أمامي هاني وجنبي الجنتل، أشاكس الجنتل بفظاظة أحب أن أفعلها معه وحده، هاني يطلق كهرباءه الزائدة علينا بالمزاح والحكايات والتنظير، ثم نظر لي فجأة وقال: أنا هاكلم يماني، أسلم لك عليه؟ قلت له: يارييييت.

اليوم أتذكر أني استحيت أن أكلمه على الهاتف، وهاني لم يعاود الاتصال به، هاني نفسه لم يعاود الاتصال بي، أنتظر “منتصف الحجرات” فقط لأقول ليماني أني أنتظر لقاءه لنسمع مصطفى إسماعيل معا، هل ستأتي معنا ياهاني؟

أصدقائى لا يحبون الدماء.

أصدقائى يفلتون الحبل

ويمضون آسفين.

 

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم