ما لا يمكن أن تقوله إلا الرواية .. قراءة في رواية: مسألة وقت ج 2

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

 

 

د.حسن  المودن

3 ــ الرواية محكي بحث " بألف طريقة وطريقة ":

 يملك يحيى مجموعة من الكتب والعناوين التي تقدم حلولا لكل المشكلات في أقصر وقت ممكن: كيف تحقق النجاح، كيف تكون سعيدا، تخلص من القلق، كيف تعيش الحب ...

   عندما زارته رنا كانت قد اقتربت من هذه الكتب قبل مغادرتها، لكنها خرجت دون أن تطلب استعارة كتاب ما، وهي عندما حكت لناهد عن زيارتها ليحيى وصفت لها أشياء الغرفة وأماكنها كلها، لكنها تجاهلت هذه الكتب التي تضم وصفات مضمونة للنجاح في الحياة. كأنما كانت في قرارة نفسها لا تؤمن بوجود وصفة جاهزة للنجاح، أو كأنها لا تعتبر النجاح معيارا، إذ يمكن للفشل أن يكون أهم من النجاح، كما وضحنا أعلاه.

ما يهمنا هنا هو كتاب كان يعود إليه يحيى، من حين لآخر، منذ انخرط في جمع تفاصيل الحكاية، والبحث عن فهم وتفسير ألغازها وأسرارها. وعنوان هذا الكتاب شديد الدلالة: ألف طريقة وطريقة، وذلك لأنه عنوان يختلف جذريا عن العناوين الأخرى المذكورة أعلاه. فلم يعد الأمر يتعلق بوصفة جاهزة للنجاح، بل بألف طريقة وطريقة، وقد يكون الفشل إحدى هذه الطرق.

ومن الطرق التي لفتت انتباه يحيى في كتاب ألف طريقة وطريقة نذكر ثلاثا أساسا:

 

       ــ طريقة التكرار: غالبا ما يجد يحيى صفحات مكررة في الكتب التي يشتريها، وخاصة في تلك الكتب التي تهدف إلى تحفيز النفس. وعندما يجد يحيى كتابا منها دون صفحات مكررة يحس بأنه نسخة غير مكتملة، ذلك لأن التكرار في نظره رسالة واضحة للجميع لكن يندر من يراها.

      بعد عشرة أيام من زيارة رنا، عثر يحيى على الصفحة المكررة في كتاب: ألف طريقة وطريقة، وهو يعتقد أنه مادامت قد تكررت، فهذا يعني شيئا مرسلا إليه. عن ماذا تتحدث هذه الصفحة المكررة؟

       لا تتحدث الصفحة المكررة إلا عن الحكي وطرقه، ومضمون الرسالة التي تريد الصفحة المكررة ابلاغه هو باختصار أن الحكي يمكن أن يكون بألف طريقة وطريقة، فمثلا عندما لا نستطيع حكاية ما حدث لنا، نلجأ إلى طريقة مضمونة هي أن نحكي الحكاية على أنها حدثت لصديق نثق في صدقه. يمكنك أن تحكي حكايتك بطريقة مباشرة، فتنسبها إلى نفسك، ويمكنك أن تلجأ إلى طريقة غير مباشرة تجعلك تحكي براحتك متحررا من كل ما قد يثقل عليك، وذلك بنسب الحكاية إلى صديق ما، تختفي أنت داخله.

    سؤالان قد يشغلان القارئ، الأول هو: كيف استفاد يحيى، الشخصية المحورية، من هذه الطريقة في البحث الذي انخرط فيه؟ هل استفاد من طريقة التكرار أم من مضمون الصفحة المكررة في كتاب ألف طريقة وطريقة؟

    ربما استفاد من الاثنين، فقد يكون وظّـف  طريقة التكرار في بحثه، إذ على طول الحكاية لم يكن البحث يتقدم، قدر ما كان يتكرر ، ويدور حول أسئلة لم يجد، وربما لن يجد، لها جوابا: لماذا زارته رنا هو بالذات في ذلك الوقت بالذات؟

   وربما ليس الأهم أن يتقد م البحث على الطريقة التقليدية، ولا أن نجد الجواب لكل سؤال، ذلك لأن الأهم ربما هو أن نطرح الأسئلة، وأن نكرر طرحها بألف طريقة وطريقة.

     وقد يكون يحيى استفاد من مضمون الصفحة المكررة في الكتاب، وتعلقه برنا وإصراره على معرفة حكايتها ليس ربما إلا حيلة فنية، وما ينبغي أن نقرأه في حكاية رنا هو يحيى نفسه، إذ على طول الحكاية نشعر أن يحيى عندما يسأل عن رنا وحقيقتها وشخصيتها ووجودها وموتها وحياتها، فهو في الواقع لم يكن يسأل إلا عن نفسه، عن علاقته بالزمن والوجود، بالحياة والموت. وحكاية رنا ليست إلا حكاية يحيى. وقد لا يتوقف الأمر عند هذا الحدّ: ألا يمكن أن تكون حكاية يحيى هي حكاية السارد، وحكاية السارد هي حكاية الكاتب؟ وفي النهاية، أليست حكاية رنا هي حكاية الكاتب؟ ألم يقل فلوبير إن مدام بوفاري هي أنا؟

     والسؤال الثاني هو: هل استفاد السارد، وبالتالي الكاتب، من طريقة التكرار؟ 

     سجلنا أعلاه أن رواية مسألة وقت، بالرغم من تجريبيتها، فهي أشدّ تعلقا بأصول السرد والحكي، كما هي في أعمال مؤسسة من مثل دون كيشوط، أو كما أعيد إنتاجها في أعمال كتّاب معاصرين من مثل ميلان كونديرا وبورخيس …

     وأهمية هذه الخاصية أن الكاتب عندما يعيد كتابة عمل أدبي سابق، فذلك يعني أن الكتابة ليست محاكاة للواقع الذاتي أو الاجتماعي، بل هي محاكاة لأعمال أدبية سابقة. كأن الكتابة لا تكتفي بحكاية إنسان ما، بل تقصّ علينا الرواية العائلية للأدب نفسه، أو الأصح أن الكتابة هي تلك التي تكرر تلك الحكاية التي لا ينفكّ الأدب يكررها عبر تاريخه.

     ولا يعني التكرار هنا إلا  إعادة الكتابة، وإعادة الكتابة ليست مجرد نقل سلبي لنص سايق، وليست مجرد تكرار لمكتوب ما، بل إنها عمل حقيقي، لأنها تقوم على أساس التحويل، والسؤال الذي قد يشغل الكاتب هو: كيف أعيد اليوم كتابة دون كيشوط مثلا؟ كيف أجعل دون كيشوط تخضع  لعملية تحويل بالشكل الذي يبدو معه النص كما لو أنه لوح ممسوح أعاد الكاتب كتابة ما كان فيه بالطريقة التي تسمح له بأن ينقش عليه حكايته  الخاصة. فكتابة نص قديم من جديد يعني أننا أمام كتابة مضاعفة مزدوجة، أي أنها كتابة تعيد النسخ والنقل، ومن خلال ذلك تبتكر وتبدع، وهذا ما يجعل منها كتابة ذات طابع إشكالي، وذلك لأن إعادة الكتابة تكشف أن وراء كل نصّ نصّـا آخر أو نصوصا أخرى، وأن الكاتب لا يكتب فقط، بل انه يقرأ ويكتب ويكتب ويقرأ، بشكل لا يمكن الفصل فيه بين الكتابة والقراءة، فبينهما علاقات جدلية إلزامية. وفوق ذلك، فالنصوص، التي تقوم على إعادة الكتابة، تبتكر محاكاة جديدة مؤسّسة على متخيّـل يشتغل أو على الأصحّ يعيد الاشتغال على مصادر مكتوبة.

     والخلاصة أن طريقة التكرار تستتبع تأملا في طرق السرد والكتابة، وتفكيرا في حدود الأدب الروائي، ففي رواية منتصر القفاش ّ ندرك أن الكتابة باعتبارها حكيا وسردا وبحثا تكون موضوعة، هي نفسها، موضع السؤال، كأن الرواية لا تحكي أزمة الإنسان ومصيره فحسب، بل إنها تحكي أزمتها هي نفسها، وتكتب حكايتها الخاصة التي لا تملّ الأعمال الروائية، في كل الأزمنة، من كتابتها وإعادة كتابتها.

 

  ــ طريقة المرآة:

  من عناوين الطرق في كتاب ألف طريقة وطريقة عنوان: ” طريق طويل “، وقد ظنه يحيى يشير إلى الأشياء التي تحتاج وقتا طويلا حتى تتحقق، إلا أن الكتاب تحدث عن شيء آخر، تحدث عن: المرآة، مركزا على مزاياها وخصائصها.

    المرآة، تبعا للكتاب، هي الأداة التي تسمح لك بمعرفة وجهك: ” هل هو وجهك أم وجه تراه لأول مرة؟”(ص 57). وهي الأداة التي تسمح لك بأن تمنح نفسك الوقت اللازم قبل الإجابة عن هذا السؤال، فالمرآة ” لا تعرف معنى للوقت، ولا تستطيع استعادة شيء مرّ من لحظة، تعكس ــ فقط ــ الموجود أمامها الآن، وما تحديقك فيها إلا لتعوضها عما ينقصها، وتتيح لها رؤية الماضي والمستقبل من خلالك؟”(ص ص 57 ـ 58).

    من بين الأسئلة التي شغلت يحيى سؤال يتعلق بالعلاقة بين المرآة والمرأة. ففي غرفته، خلعت ناهد الجاكت الجينز الذي كانت ترتديه، وارتدت بلوزة رنا، أكانت ناهد بذلك تتحول إلى مرآة تعكس امرأة أخرى اسمها رنا؟

     وسألت ناهد عن مرآة، ثم أضافت شيئا استغرب له يحيى ولم يجد له تفسيرا، فقد قالت ناهد إن رنا حدثتها عن مراة ثانية كانت موجودة على الحائط تواجه مرآة الدولاب، وأن رنا ” استطاعت رؤية نفسها من الأمام والخلف، وتمنت لو ظلت تنظر فيها، لكن ” ما كانش فيه وقت ” . “(ص 41).

      نفى يحيى وجود مرآة كانت معلقة على الحائط، فهو لم يغير أيّ شيء في غرفته منذ أن زارته رنا. ويبقى السؤال معلقا: أكانت هناك فعلا مراة؟ أهناك مرآة تراها رنا ولا يراها هو؟ ما معنى أن توجد في غرفته مرآة تحدثت عنها رنا؟

    أسئلة لا جواب عنها، إلا أن يحيى سيستيقظ ذات مرة في الأيام اللاحقة ليجد المعدية التي نقلت رنا على حائط غرفته، بركابها وحيواناتها وعرباتها وسياراتها وقططها.

     رقد يحيى على السرير، وظل ينظر إلى المعدية التي رفض الذهاب إليها، فوجدها تظهر له في غرفته، وكأنها لم ترض عن قراره. دقّـق النظر في كل الوجوه، فلم يلمح رنا بين الركاب. ما معنى ذلك؟ ما معنى أن تحضر المعدية إلى غرفته بكل ركابها وحيواناتها وعرباتها من دون رنا؟

      كان، يحيى وهو يسأل ويحاول أن يفهم حكاية رنا، يستحضر أحلامه، ويستدعي أحلام الآخرين، ويترك خياله الداخلي ينشط، ويحاول أن يرى الأشياء في وجهها الآخر  الأكثر غموضا والتباسا، والأكثر قربا من الحلم والاستيهام. ومع يحيى، صار العالم الداخلي مرآة يعكس العالم الخارجي، كما صار العالم الخارجي مرآة تعكس العالم الداخلي، وتتقدم الحكاية كلها كأنها جمع إشكالي من الصور والمرايا والاستعارات والتضعيفات التخييلية. فجانب من الحكاية يمكن اعتباره ” حقيقيا ” و ” واقعيا “، غير أن هناك جوانب أخرى ذات علاقة وطيدة بالحكاية تحيّر القارئ برمزيتها وغموضها، وهي تأتي في شكل أحلام واستيهامات وتخيلات وتهيؤات. فالحكاية لم تعد موحدة بالمعنى التقليدي، بل هي منقسمة بعضها يقول الواقع، وبعضها الآخر يقول الحلم والاستيهام. أو الأصح أن بعضها يعكس البعض الآخر. وهو ما يفترض الاحتكام إلى لعبة المرايا ، فالحكاية في مجموعها هي مجموع من المرايا والعاكسات والتضعيفات التخييلية التي تجعل من الحكاية، أو جزءا منها على الأقل، رمزا أو استعارة و مجازا.

     الخلاصة أن لعبة المرايا تعني أننا أمام نص روائي يقوم أساسا على التضعيف والازدواج والتعدد(نص داخل نص، حكاية داخل حكاية، النص والميتانص)، فالمحكي يبدأ بسيطا لكنه سرعان ما يتعدد ويتضاعف بشكل يمنح النص ملامح واقعية وحلمية واستيهامية، فالنص الروائي لم يعد يكتفي بمحاكاة الواقع، بل هو يحاول إخراج النص التخييلي إلى دوائر أوسع وأغنى ينسجها الحلم والاستيهام والمونولوج والاستعارات الداخلية والمحكيات النفسية التي تحاول بلغتها الرمزية الاستعارية أن تقول ما لا تستطيع لغة الواقع أن تقوله، مؤلفة بذلك رؤية استيهامية غريبة ومقلقة، كما في هذا النموذج:

 

    ” ما إن استيقظ حتى رأى المعدية على الحائط. نزل من السرير ووقف وسط الغرفة ليتأكد من أنه لا يحلم …كل الأوصاف التي قالتها ناهد عن المعدية رآها على الحائط … دقّ يحيى بيده على الحائط لكن المعدية ظلت واضحة عليه. رقد على السرير وظل ينظر إليها. معدية رفض الذهاب إليها وجدها تظهر له في غرفته.” (ص ص 115 ـ 116).

 

     وبهذا تبدو الكتابة كأنها تتكلم لغة الحلم، وتحاول أن تقول المعنى المنفلت، وأن تدخل إلى دائرة اللامعنى، وأن تستنطق الحكاية في  احتمالاتها الأخرى، المغيّبة أو اللامفكّر فيها.

 

 

 

   ــ طريقة الصياد:  

  ” الصياد ” من الطرق الأخيرة في كتاب ألف طريقة وطريقة. والصياد هو ذلك الذي يمعن التفكير في الكيفية التي يصيد بها طريدته، ويحسب لها ألف حساب، ويركز فيها على قدر استطاعته لعلمه أنها لن تسلم نفسها له طواعية، والصياد هو الذي يفكر في كل شيء يحيطه على أنه احتمال مساعد له في عملية الصيد سواء صغر أو كبر.

    هل نقول إن يحيى صياد يفكر في الكيفية التي يحصل بها على حقيقة رنا، ويستخدم ألف طريقة وطريقة لعلمه أن حقيقتها لن يكشفها بسهولة، ” حتى النوم قد يفكر فيه على أنه وسيلة ليظفر بصيده. كأن طريدته صارت في كل مكان وفي كل وقت”(ص 118)؟

    هل نقول إن السارد، وبالتالي الكاتب، هو ذلك الصياد الذي يفكر أكثر ما يفكر في الكيفية التي يصيد بها طريدته: حقيقة الإنسان، حقيقة وجوده، حقيقة حياته وموته. وهو يستخدم ألف طريقة وطريقة، ويستحضر مختلف الاحتمالات، لوعيه بأن ” الحقيقة ” لن تسلم نفسها له طواعية؟

 

    إجمالا، لابد من تسجيل ملاحظتين حول كتاب ” ألف طريقة وطريقة “: تتعلق الملاحظة الأولى بعنوان هذا الكتاب الذي جاء  على وزن كتاب هو اليوم من أهم مصادر الإنسانية في الحكي والسرد: ” ألف ليلة وليلة”: ميزته هي بلاشك تحرير الخيال وتوالد الحكايات بألف طريقة وطريقة. وقد نجحت رواية مسألة وقت في تشغيل بعض التقنيات السردية اللافتة في ألف ليلة وليلة ، وبالطريقة التي تخدم رؤيتها وغائيتها.

     وتكفي الإشارة إلى أن  الحكايات تتوالد في رواية منتصر القفاش تحت نسق ينطلق من العجيب(زيارة رنا ليحيى) إلى الأعجب(وقت الزيارة ومغزاها) إلى الأكثر عجبا(سماع صوت رنا على الهاتف، وهي التي في حكم الموتى)، في ظل حكاية إطار كبرى(حكاية يحيى ورنا) تولّـدت عنها حكاية أخرى كبرى(حكاية يحيى وناهد)، وهما معا حكايتان مترابطتان متشابكتان، تعكس كل واحدة منهما المرجع الواقعي الخارجي، دون أن يمنعهما ذلك من أن تعكس كل حكاية الحكاية الأخرى. وفوق ذلك، فعن هاتين الحكايتين تتفرع حكايات أخرى بعضها ينتمي إلى الواقع، والبعض الآخر ينتمي إلى الحلم والاستيهام والخيال، بشكل يجعل حكايات مسألة وقت أشبه بحكايات ألف ليلة وليلة التي تسبح في فضاءات حلمية وفوق واقعية وفانطاستيكية ولازمانية، تدعو قارئها إلى فضاء مفتوح متحرر للخيال، من دون حدود ولا حواجز.

   وتتعلق الملاحظة الثانية بحضور كتاب ” ألف طريقة وطريقة ” داخل الرواية، وبلا شك كقوة مرجعية فاعلة. فالجديد في رواية منتصر القفاش أن التخييل لم يعد يتحدد مرجعه في الواقع العائلي والاجتماعي والنفسي والتاريخي، بل إن بعض مراجعه ذو طبيعة نصية أيضا، فهناك اقتباسات من كتاب ” ألف طريقة وطريقة ” هذا الكتاب الذي ندري إن كان حقيقة أو أنه منى  المصادر النصية التي يحيل عليها النص هي من صنع خيال الشخصية.

   ما يهمنا أن نسجله هنا أن الرواية لم تعد تخييلا سرديا فقط، بل إنها تخييل تأملي أيضا، فهي لا تكتفي بسرد حكاية ما، بل إن الرواية هي بحث ودرس وتأمل في حكاية كاللغز، لا يملك السارد كما الشخصية كل أجزائها وأطرافها، ولا يعرف كل ملابساتها وخلفياتها. وبمعنى آخر، فالرواية تتحول إلى بحث ودرس وقراءة، وتقدم نصا يبدو أقرب إلى ما يسميه الناقد الفرنسي المعاصر دومينيك فيار Dominique Viart بـــ ” Essai – fiction “.    

    

       4 ــ تبدو رواية مسألة وقت في أقصى البساطة، بشخصيات قليلة، وفضاءات معدودة، وحدث مركزي يتحول هو نفسه إلى موضوع للتأمّـل. وهكذا لم تعد الرواية ضاجّـة بالأحداث والشخصيات، بل صارت تراهن على حكاية بسيطة قصيرة، بتأملها تتكشف خيوط وتفاصيل وأسئلة، وتنفتح فضاءات معتمة، ويزداد البحث عن بقية الحكاية لغزا لا حلّ له، لغزا يقع خارج عقولنا العملية ومنطقنا الاجتماعي، ويبقى الحكي من دون نهاية، ويعلن فشله في ملء بياضات وفراغات عديدة، لأن ما يهمّه ليس الوصول إلى نهاية أو حقيقة ما، فالجوهري في الرواية هو حركة البحث نفسه، هو هذا البحث الذي لا ينتهي إلى جواب أو يقين، لأن الغاية هي نفض الغبار عن الأسئلة العديدة التي لا تقال، أو التي تبقى من غير جواب. 

     في رواية منتصر القفاش  لم تعد الكتابة مجرد استنساخ للواقعيّ والمرئيّ من الأشياء، بل إنها أصبحت أكثر ميلا إلى اللامرئي واللاواقعي، مفتونة بتلك الاحتمالات الأخرى التي تبدو مستحيلة، غير قابلة للتصديق، لا تكتفي بنقل الواقع، بل تقول ما وراء الواقع، وهي لا تكتفي بنقل الأحداث كما تقع في الزمن المسترسل من الماضي إلى الحاضر، بل هي تركز على واقعة واحدة يصعب الحسم في الزمن الذي وقعت فيه.

     وبذلك تتقدم الكتابة كأنها دعوة إلى تأزيم اليقينيات الراسخة والعقائد التابثة، دون أن تكون مهمتها إيجاد حلّ للأزمة. فهي تتقدم كأنها التفاتة إلى هذا المنفي المقصي الغريب في داخل ما نعتبره منطقيا ومعقولا ومألوفا في حيواتنا الخاصة والعامة، في عوالمنا الداخلية والخارجية، في علاقاتنا المعقدة بالزمن والمكان وبذواتنا والآخرين… وهي في كل ذلك، تدعونا إلى الانفلات من الزمن الذي يؤطر تجربتنا وإحساسنا وإدراكنا للعالم، وتدعونا إلى سماع  صوت آخر عبر الهاتف، هاتفنا الداخلي، يملك نغمة خاصة تحملها الكلمات، وتبدو النغمة، القادمة من مكان آخر، من زمن مغاير، قلقة من كل هذه الغرابة التي تملأ حياة الإنسان وقدره ومصيره.

    وبهذا يبدو أن الوظيفة المركزية للرواية المعاصرة لم تعد هي نشر رؤية للإنسان والعالم والتاريخ موضوعة مسبقا، بل وظيفتها أن تكشف، بطرقها الخاصة، ” ما لا يمكن أن تقوله إلا الرواية” (حسب عبارة هرمان بروخ التي عمّقها ميلان كونديرا). فالأمر صار يتعلق باستخراج ما لا يقال في التاريخ الرسمي، وباستكشاف مناطق التجربة الإنسانية التي يقصيها المؤرخون، وبخلخلة اليقينيات والمسلمات والتصورات الجاهزة، وباكتشاف الوجه الآخر للإنسان الحديث في علاقته بالزمن، وبكشف النقاب عن ” المكبوت ” في التاريخ الرسمي وفي المجتمع الشمولي القاهر.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*  ناقد وأكاديمي مغربي

 

 

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم