ماكينة حلاقة لا تمنحك الثواب

موقع الكتابة الثقافي writers 50
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

نادين قاسم

لاحظ مؤخرًا أن النسوة الكبيرات في السن عندما يوجهن له التحية يُقبلنه ويُمسدن بأيديهن على

شعره، تُوفي أبوه وعج البيت بالمعزين. ما أدركه هو أن أبوه لم يعد موجودًا معهم، وأنه لن يراه ثانيًة.

حرصت أمه علي إلهائه وسط أقاربه من الأطفال والتهى بالفعل في اللعب والعراك. لاحقًا، أدرك سبب فعلتهن الغريبة عندما سمع إحداهن تتحدث عن الثواب العظيم لكل شعرة يمسها بشري من رأس يتيم.

يتيم .. صفة جديدة تضاف لمجموع صفاته، بجانب شقي، جيد بدراسته، يعشق اللعب، وقد سمعها كثيرًا خلال اليومين الماضيين.

سأل عن معنى الكلمة فأخبره أحد أصدقائه، أما الكبار فحزنوا لسؤاله واستمروا في تقبيله ومحادثته بطريقة لطيفة، والنسوة استمررن في فعل ما كرهه بالفعل.

لم يفهم معنى الكلمة تمامًا، ولكنه كرهها نظرًا لرد الفعل الذي يتلقاه بسببها. صار يميل برأسه يمينًا ويسارًا عندما تفعل إحداهن ذلك، ويرفض السلام عليهن عندما ينادينه تجنبًا لذلك. ارتدى الكاسكيت أحيانًا ورحب بهن من على بعد أحيانًا أخرى.

خفتت أعداد المُعزين، ولكن استمرت بعض الجارات بالمرورعليه وإلقاء السلام، من ضمنهن واحدة أحبها كثيرًا ولكنها استمرت بنفس الفعل كل مرة، التمسيد علي رأسه. أخبرها أنه لا يحب ذلك وتململ، ولكنها استمرت به، مدة لقائها به لا تتعدى الثلاث دقائق ولكنها حريصة أن تقضي الثلاث دقائق في فعل ما يغيظه.

دخل إلى المرحاض. مر أسبوع ومازال كل شيء في مكانه. ومن ضمن الأشياء كانت ماكينة الحلاقة الكهربائية التي تخص أبوه المتوفى. رافقه سابقًا وهو يحلق شعره وذقنه بها ولكنه لم يسمح له أبدًا باستخدامها. سابقًا قتله فضوله من أجل أن يجربها ولكنه كان يعلم أن العقاب ينتظره إن فعل ذلك. الآن قد يكون الوقت المناسب لاستخدامها ولكن – وهو نفسه تفاجأ بذلك- لم يعد مهتمًا بها كما سبق.

أما أمه فكانت صامتًة معظم الوقت، بدت في مكان بعيد في أفكارها، لا تنهره ولا تزعق به كما فعلت مسبقًا، ولكنها احتضنته وبكت. أدرك بعدها أن شيئًا ما تغير، شئ ما لن يعود لسابق عهده.

حتى المدرسة، صار الجميع ألطف فجأة، الأطفال الذين كرههم يدعونه للعب الآن، الجميع حريص على ألا يتركه وحيدًا، والأساتذة لطفاء، والأستاذات أيضًا، ماعدا واحدة فعلت نفس الشئ واحتضنته بقوة ، نزع نفسه من حضنها وجرى بعيدًا.

انتهى يومه وحان موعد نومه استعدادًا ليوم دراسي جديد، لم يدخل لغرفته مباشرةً. كان يفكر، يستعرض كل ما جرى ويحاول الوصول لنتيجة. سرح بأفكاره، ولم تكن الآن عن وفاة الأب فحسب، بل عن الواجبات والأصدقاء وأحداث اليوم، فإذا بدموعه تباغته، احتشدت في عينه ورافقتها مرارةً في حلقه ، ثم انطلقت وحدها.

نزلت دموعه ساخنًة على خديه، علا نشيجه وانهمرت دموعه أكثر.كان تائهًا في البداية ومستسلمًا لها فحسب، ولكن الآن فقد تنبه إنذار الحزن بداخله وأطلق صوته العالي الذي لا حيلة له أمامه سوى الإنصات له، عله وعساه يخرس من نفسه.

كان الحزن موجودًا طوال الأيام السابقة، لكنه لم يظهر إلا الآن. الحزن – كمشاعر إنسانية أخرى- موجودة بداخل الإنسان، كشعر الجسد، مجرد أنك لا تراه على سطح جلدك لا يعني أنه غير موجود، إنه موجود طوال الوقت هناك، ينمو ويكبر، لكنك لا تدرك وجوده إلا لحظة أن تراه عيناك.

هدأ شلال الدموع. وقد حرص هو ألا يرتفع صوته بالبكاء كيلا يُحزن أمه أكثر، توجه لا إراديًا للمرحاض. مازالت الآلة هناك، لمح أمه تنظر لها من أيام ثم تركتها وخرجت. وقف أمام المرآة محدقًا بنفسه. إدراكه جعل مخه فارغًا الآن، لكنه يأبى أن يدعه وشأنه. فقد ذكره بكلمة جده عدما كان يشاكس الصبية الآخرين، نهره عن ذلك وأخبره أنه رجُل أمه الآن وعليه تحمل المسئولية كالرجال. يعلم الآن جيدًا أنه يكره أولئك الرجال والنساء أيضًا ويكره مسئولياتهم، ولكنه أمسك بالآلة على كل حال وبدأ بحلاقة شعره. قرر جعله بالكاد يُغطي رأسه، كما تعود أبوه أن يفعل. لم يشبهه أبدًا ولكن كلما تساقط الشعر أحس أنه صار يشبهه أكثر. أنهى حلاقته وتطلع لنفسه بشكله الجديد. لا يكترث على أية حال، جل ما يرجوه أن يخف حزن أمه وأن يعاملوه كرجل كما قال جده، كما أن النسوة سيتوقفن الآن عن تمسيد شعره. من الجيد فعلًا حلاقة شعره، فإحداهن- كما تذكر الآن- تحدثت عن الثواب لكل شعرة تمسها يدها من رأس يتيم، وهو لا يريد منحهم ذلك الثواب على كل حال.

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون