لَو كُنتِ أقل وقاحة

محمد سعيد درويش
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

محمد سعيد درويش

  آه يا قَطرة مطر في نيسان ، آه يا مَن نساكِ النسيان”

أصحو فجأة مِن النوم ، أصحو كَمن كان في كابوس

أتطلعُ بسرعة على الساعةِ ، وأراها الواحدةِ

وثلاثا وعشرين دقيقة، أنهضُ فجأة وأزيحُ السَتارة

مِن على النافذةِ، وأرى المساءُ .

السيارتُ تمرُ بسرعة على الأسفلتِ

المقطورات تمشي واحدة تِلو الآخرى

حيث يُسمح لها بالسير

في هذه الساعاتُ الأخيرة مِن الليل

أعمدة الإنارة الصفراء، المقهى في الواجهة المقابلة للشقَّةِ

مفتوح، ثِمة ثلاثة رِجال في الزاوية

ورّجل يدفعُ الحِساب، ورجلان يلعبان الورق

كُشك البقالة مُزدحم نوعًا ما، البقال يتحركُ بسرعة

يُعبئُ الحليب في أكياس، ورفيقه يعبئُ البيض والجُبن

الزبائن يتراصون حول الخُبز . الوقت متأخر ، والكُلٌ يُريد أن يُغادرُ

أما أنا فأشعر بأنه مِن الضروري أن أتجول

في الخارج ، أشعرُ أن الجو دافئ ، عكس طيلة النهار

كان حارًا ، كئيبًا ، شوارع مُزدحمة ، طُلاب بلهاء

يظنون أن بهذه الطريقة سيربحون 6 آلاف جُنيهًا شهريًا

عُمال كثيرون وموظفون أرياف يتناوبون على محطات القِطار

ضُباط وجنود وعُمال بنوك، ثِمة مظاهرة بشرية كُبرى تحدثُ

كُلَّ صباح ، تصفيق وصفير إلى أن تشرق الشمسِ

لكُلَّ مَن يتجول وسط كُلَّ هذا الكم مِن الناسِ

دون أن يفقدُ شيئًا مِن إنسانيته.

*

أغلقُ النافذة وأكتشفُ أنني نسيتُ فِنجان القهوة

ممتلئا حَد النِصف والنصفُ الآخر تملأهُ إبتسامتك

وإبتسامتك حلت محل الشمس المذكورة

في قول الشاعر “نصفُ كأسك فارغ

والشمس تملأ نصفها الثاني” (1)

أتجول بين أربعة جُدران، هُناكَ كأسان على الطاولة

مازالا في مكانهما، في الزاوية مِرآة ، تحتجُ

لأنها لَم تركِ مُنذُ ثلاث ليالي وسِت وعشرين دقيقة

لَم تركِ وأنت تسرحين شَعرِك أو تضعين أحمر الشفاه

مُنذُ زمن بعيد كُنتُ أحسدُ مِرآتِك لأنها كانت تراكِ عارية

لا بأس بهذا، جُدران غُرفتي تحتجُ لأنكِ غادرتِ

دون أن تترُكِي لي ورقة تشرحي فيها الأمر

أعرفُ أنني لديَّ تصرفات غريبة نوعًا ما

ربما غريبة بطريقة أكثر مِن العادية

مثلًا أغلق هاتفي، أو أفعلُ وضع الطيران

وعلى السرير أتساءلُ لماذا لَم يتصل بيَّ أحد!

أحذفُ تطبيق الواتساب ثلاث أو أربع مرات يوميًا

أقوم بإلغاء تنشيط حِساب الفيسبوك

 مرة في الصباح ومرة في المساء وست مرات بينهم! .

تُساعدني السجائر في التفكير بشأن الإقلاع عَن التدخين

أشياء كثيرة تحدثُ لي يوميًا تتسمُ بالغرابة الأكثر مِن العادية

لكن أعتقدُ أن الشيء الوحيد الذي فعلته دون أن أندم عليه

دون أن أتراجع فيه ، دون حتى أن أشعر أنه غريب

هو أنني أحببتك ، وأُحبك .

*

الساعةُ الآن الواحدةِ والنصف

مازلتُ أنتظر أن يرن هاتفي

مازلتُ أنتظر أن أسمع نغمة رسالة الواتساب

تقولين “اشتقتُ لكَ” فأكسر الكاف فورًا .

أمسكُ هاتفي، ثلاث مُكالمات فائتة

مِن رقم غريب، أدققُ في أخر ثلاثة أرقام

878، أحاولُ أن أتذكرُ صاحبه، ربما يكون صديق قديم

أو أحد الأصدقاء في العمل، أو ربما يكون رّجلًا مِن الصعيد

انتهت وردية عمله الليلية ويشعرُ بالوحدة ، يمتلكُ دقائق مجانية

ويظنُ أن هذا رقم إمرأة مطلقة تبحث عَن رجل جاد

آه صحيح، أفكرُ في أن أعرض على شركات شبكات المحمول

بأن تدرسُ الحالة الإجتماعية والعاطفية قبل أن تُعطي دقائقُ مجانية

لعملائها، أنا – في أيام الوحدة – أشعرُ بالسخافة والسخرية معًا

مِن تِلكَ الهدايا، لأنني ليس لي أحد أكلمه

والسخرية نابعة مِن الآلم، لا سخرية إلا بآلم.

رسالتان في البريد الإليكتروني، واحدة للمنظمة السياسية

والآخرى للمؤسسة الثقافية، لا أجيب عليهم

حيث قطعتُ العمل معهم، لأنهم في الحقيقة أولاد إمرأة وسخة

أتجولُ بين “الفيسبوك”، و “تويتر”

ألقي نظرة هُنا هُناكَ، على أشياء تافهة .

*

الساعةُ الثانية إلا عشرة دقائقُ

هُناكَ كثير مِن الكلمات في المُعجم

يمكنني أن أستخدمها لأتكلم عَنكِ

أو عَن حُبي لكِ، كلمات كثيرة وبكل اللهجات

لكن في الحقيقة ” كُلَّ اللغات ترجمة رديئة “(2)

في وصف حُبي لكِ

أو في وصف عينيكِ ، وأيضًا في وصفُ الخرابُ بداخلي

الكلمات تخدعنا أحيانًا ، وفي الغالب نحنُ نحب ذلك

نحنُ نُحب أن نسمع الكلام الذي يجعلنا نشعرُ بأننا رائعون

رغم عِلمنا بأننا لسنا كذلك ، ولن نكون كذلك

نحنُ نكتُب كُلَّ يوم ست قصائد للحب

وسبعا للحُزن وثماني للحرب ، وتسعا للحبيبة وحدها

رغم كُلَّ هذه القصائدُ ، لا نشعرُ بالحُب ولا يُشفى فينا الحُزن

ولا تموت الحرب ، ولا تأتي الحبيبة كما نكتُب .

نكتُب المزيد مِن الكِذب

حتى الحُب هو كِذب ، حين رأيتُ السماء تلمعُ في عينيكِ

كان كِذبا ، حين رأيت غمازتك بدت ترقصُ على خذيكِ

حين غازلتِك ، كان كِذبا . حين عانقتك ونمتُ

كان كِذبا ، إذا أنني أستيقظتُ ذاكَ المساء إياه وأكتشفتُ أنني عانقتُ نفسي .

*

أسمعُ صوت إذاعة القاهرة

تدقُ الآن الساعةُ الثانية

صحيح ، كُنتُ أودُّ لو أن تكوني موجودة في تِلكَ الساعة !

أودُّ لو كُنا – أنا وأنتِ – نجلسُ على الطاولة تحت المروحة والتِلفاز في الزاوية

نتعاركُ على مَن يمسك ريموت الكنترول ، لكننا نكتشفُ الحل الأنسب

هو أننا نحبُ الأفلام الفرنسية ونجلُس نتفرج فقط .

لكنني الآن وحيد ، أجلسُ على حافة الأريكة

أمس وأنا عائد إلى البيت ، سقط المطرُ مِن السماءِ

مطرة في نيسان ! كُنتِ تشبيهين حقًا ذلك المطر

وسط درجات حرارة مرتفعة وسط موسم الصيف الكئيب

ورقة التقويم الميلادي المُعلقة على الحائط

تفزعني كُلَّ يوم ، كُلَّ صباح

حيث أرى على الأوراق البيضاء

أسماء الشهور الصيفية

أفتحُ النافذة وفي العمارة التي أمامي

أرى على أحبال الغسيل

الملابس الصيفية ، أدخُل الشَقَّة

أفتحُ خزانة الملابس ، لا أرى المعطف الكحلي

ولا ” الكوفية” الرمادية ، الأشياء الشتوية

سأفتقدها لموسم كامل . حَسنًا سأحاولُ أن

أتحمَّل درجات الحرارة المرتفعة مع نوبات الإكتئاب

التوتر والزِحام مع الميول الإنتحارية

خراب القلب مع غلاء فاتورة الكهرباء

لأن المراوح تشتغل لأربع وعشرين ساعة

لكن ذلك سيعوض عَن فاتورة سخان الكهرباء

لسنا بحاجة بأن نُدفئ المياه .

*

الساعةُ الآن الثانية والنصف

أفتشُ في مكتبتي عَن كِتاب أقرأه

لكن لا شيء جديد هُنا

كُلَّ الأحداث هُنا أعرفها ، لكن حسنًا مِن الممكن أن أكتُب

وأخلق أحداثا جديدة ، لكنني أرى الأحداث التي أكتبها

مملة ومثيرة للسخرة بالنسبة لي ، أتناولُ الدفاترُ الخاصة بيَّ

مِن دُرج المكتب ، أفتحها ، أقرأُ بعض القصص التي كتبتها

أشعرُ بالخجل ، وأتمنى لو كان معي مسدس في تِلك اللحظة

كي أطلق النار على رأسي فورًا

أتناولُ عُلبة السجائر ، أجد سيجارة واحدة فقط

أشعرُ بالفزع ، أنهض فجأة وأمشي نحو النافذة أفتحها بسرعة

ألقي نظرة على البقال ، أجد الأبواب مُغلقة

أضعُ يدي على رأسي ، أكتشفُ أن شعري كثيف جِدًّا .

” غدًا عليك أن تذهب للحلاق “

أسمعُ صدى تِلك الجملة التي قُلتيها لي

ليلة الخميس الفائت .

أغلق النافذة وأطلق زفرة

ثُمَّ أشعلُ السيجارة وأتحركُ نحو المطبخ

المعالق وسخة ، الأطباق أيضًا

أكواب كثيرة مُلقاه على الأرض

زُجاجة كونياك وعُلب سجائر فارغة

أشتمُ فيكِ لأنكِ تركت المطبخ بهذا الشكل

بهذه الفوضى ، لكنني أكتشفُ أنني أحبُ فوضويتك

ما أبله النِساء اللواتي يهتممن بالنظام ، يضعن الملابسُ

في الدولاب ، ويضعن الأطباق على حاملة الأطباقِ

إنني أحبُّ فوضويتك

وأحبُّ الفوضى في قلبي التي بسببك

*

الساعةُ الآن تقترب مِن الثالثة

أدلف الحمَّام كي أغسل وجهي

أفتحُ الباب وألقى حمالة صَدرك الحمراء

أمامي ، هذا الشيء قد يقتلني أكثر مِن

النووي الخاص بــ” كم جُنغ يون”

ألعنك ، وأقول

” الساقطة ، آخذت ثيابها كُلها

ونسيت هذا الشيء ، حقيرة ! ” .

أغسلُ وجهي ثُمَّ ألتفت إلى الحمالة ثانيةٍ

وتثقبني القشعريرة ، أمسحُ رغوة الصابون مِن على وجهي

ثُمَّ أخرجُ مِن الحمَّامِ ، كي أكتشف وحدتي

أكتشفُ أيضًا أنكِ نسيتِ أشياء آخرى غير حمالة صَدرك تِلك

نسيتِ رائحة عطرك ، وأغنيتك المفضلة وفستانك الأزرق

على الغسالة وتركتي الثياب كُلها متسخة

 أنا لا أعرف كيف أشغل هذه الغسالة ، الغريبة

وأيضًا لا أعرفُ كيف لي أن أُقطع البطاطس

أشعرُ بالجوع ، حَسنًا

أفتحُ دُرج التسريحةِ

ألقى كِتاب طبخ

يحملُ عنوانًا مؤنثا ، أخجلُ مِن نفسي

أطلقُ زفرة وألعنك للمرةُ الثالثة

*

الساعةُ الثالثةِ والنصف

عليَّ أن أنتظرُ أربع ساعات

حتى أشتري سجائر ، أتسألُ ماذا لو كُنتِ هُنا الآن

كان ممكنا أن أتحدثُ معكِ عَن فوائدُ الشوكولاتة مع القهوة

وأنها أفضل نِظام غِذائي ، كان من الممكن أن أتحدثُ معكِ

عَن كُلَّ كِتاب قرأته ، وعَن كُلَّ فِلم شاهدته ونستمعُ الموسيقى

معي أغان كثيرة ، كثيرة جِدًّا ، فرنسية وإيطالية وغيرها

لو كُنتِ أقل وقاحة

كان مِن الممكن أن آكُلُ شفتيكِ بدلًا مِن السيجارة

كان مِن الممكن أن أُعانِقك بدلًا مِن أن أظلُ أقرأ

في كِتاب طبخ !

لو كُنتِ أقل وقاحة

كُنا سنكون حبيبين إلى الأبد .

أنا الآن سأغدو للنوم

وسأصحو حين تشرُق الشمس

وسأحلمُ بكِ ، وسأمارسُ معكِ الحُب

سأنام لأنني لا أملك سجائر

ولأنكِ تمتلكين كما كبيرا مِن الوقاحة تجعلك تتركين قلبي لثلاث ليالي

وساعتين وعشرين دقيقة .

…………….

(1) محمود درويش … (2) فرانز كافكا

مقالات من نفس القسم