“ليالي الظمأ” لعبد الجليل الوزاني: سيرة الحب المنفلت والطمأنينة الغائبة

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

تأتي رواية "ليالي الظمأ" لتضيف إلى المتن السردي الذي أنجزه الروائي المغربي عبد الجليل الوزاني التهامي عملا آخر ينحت به بَصمَته الخاصة في الرواية المغربية. ورواية "ليالي الظمأ" هي العمل الرابع للكاتب بعد "الضفاف المتجددة-تيكيساس" و"احتراق في زمن الصقيع" و"أراني أحرث أرضا من ماء ودم". فما الإضافة التي أنجزتها الرواية في المنجز السردي لعبد الجليل الوزاني التهامي؟ وأين تتجلى ملامح الجديد في الرواية؟ وكيف جسدت "ليالي الظمأ" سيرة الحب المنفلت والطمأنينة الغائبة؟

ننطلق من هذه الأسئلة لقراءة رواية "ليالي الظمأ" التي تمتد على أكثر من مائتي صفحة، وهي الرواية التي اتخذت من فضاءات تطوان والرباط ومدن مغربية أخرى مجالا لتحرك الشخصيات، وتطور الأحداث. وجعلت من شخصية رشيد أبو العز الروائي والكاتب التطواني الشهير –حسب متخيل الرواية- محورا لها، كما جعلت الشخصيات الأخرى تبرز من خلال علاقتها برشيد وتقاطع مصائرها بحياته. ولقد شكلت سيرة هذه الشخصية المحورية جوهرَ الرواية وأهم مفاصلها، ومن خلال هذه السيرة تتشكل عوالم الرواية في أفق رصد الحب المنفلت أبدا من حياة رشيد، ومن ثم غياب الشعور بالاطمئنان والأمان. فكيف عملت الرواية على تشكيل هذا المتخيل؟ وكيف صورت معاناة بطلها ومأساته؟ 

إن رصد الروائي لمعاناة بطله ومأساته تبدأ منذ البداية الغامضة والمشوقة التي ترتبط باختفائه من سيارة أجرة السائق إبراهيم وتركه حقيبته التي ضمت أوراق سيرته، وما خلفته تلك الأوراق لإبراهيم من قلق وتساؤل وحيرة، حول مصير الكاتب المعروف، خاصة بعدما كتبت الصحف عن احتمال انتحاره، من جهة، وما أثارته في نفسه من رغبات “السرقة الأدبية” وتحقيق بعض طموحاته الأدبية القديمة، من جهة ثانية.

ولكن سيرة الطمأنينة الغائبة والحب المنفلت سيطلع عليها المتلقي من خلال قراءة أوراق رشيد التي يحكي فيها عن حياته وتجربته. وتفتح السيرة أسرارها للقارئ بالحكي عن موت الأم وفقدان حنانها، وتخلي الأب تحت ضغط زوجته الثانية عن ولده، واضطرار رشيد للجوء للعيش مع عمته وأخواله دون أن يلقى القبول والترحيب، ثم عودته مرة أخرى، وفي ظروف ملتبسة وقاسية إلى كنف الأب وجبروت زوجته. ومن هنا تترى مشاهد غياب الحب في حياة البطل، ومظاهر غياب الطمأنينة والسعادة في مختلف تجلياتها، ما عدا قبسات من حنان جدته (أم والده) العاجزة العمياء، وحدب خاله رضا وتشجيعاته وفتحه أمامه مجال القراءة والمطالعة. ومن ثم، لم يجد رشيد من عزاء سوى في الانكباب على الدراسة والمطالعة، وقد تحدى صعوبة الظروف التي أحاطت به، واستطاع الاستمرار في متابعة دراسته بالرباط، ومن ثم الاشتغال والعمل على مساعدة أخيه فيصل الذي اختفى لأسباب مجهولة.

ولعل أول علاقة حب جميل عرفها البطل رشيد كانت مع ابنة عمته صفاء التي عايشها طفلة، وربطهما فضاء الثانوية وسعيا معا إلى كسر تحجر أب صفاء وتعنته دون جدوى، فكان الانكسار، وكانت المأساة، بعد ذلك، بحيث نجد حياة صفاء مع زوجها لم تكن حياة اطمئنان سوية، واختتمت بالفراق ليظل رشيد حاملا شعوره الدفين بذنب لم يرتكبه، وهو تخاذله أمام سطوة الأب عبد الصمد وتركه صفاء لرجل آخر. وكانت صفاء هي الضوء الأزلي/الأبدي الذي أشرق في روح رشيد، وظل يحلم بالإمساك ببهائه إلى آخر المطاف، كما نتبين من سياق أحداث الرواية.

وقد عرف رشيد، أيضا، نوعا من الاطمئنان المؤقت والحب الإنساني خارج محيط الأسرة والعائلة بعدما تعرف على الطالبة السورية ندين ابنة مستشار المندوبية السامية لليونسكو بالرباط الأديب الدكتور سليم شلش، وبعدما قام الأخير باحتضان الشاب وفتح مجال النشر أمامه، وتشجيعه على الترجمة بحيث كان كرم الرجل وسخاؤه سبيلا نحو تحسن أحوال رشيد واسترجاع نوعا من الثقة في ذاته وفي إمكاناته الثقافية. وقد كانت هذه اللحظة بداية تحول حقيقي في حياة البطل، وسعيه إلى الخروج من شرنقة اليأس وغلبة القلق وغياب الإحساس بالاطمئنان. وقد كانت صداقة رشيد وسليم شلش عميقة في معناها الإنساني القائم على حدب الأب الروحي على الإبن المفترض اللذين جمعهما حب الأدب وحب المعرفة. وفي هذه العلاقة الفريدة استطاع البطل أن يستشعر قيمة علاقات إنسانية راقية تتجاوز حدود علاقة الدم والقرابة. وقد منح الروائي تصوير هذه العلاقة وتجسيد آثارها وتبعاتها حيزا هاما من سيرة رشيد وروايته نظرا إلى أهميتها وقيمتها في مسار حياة بطله.

غير أن سيرة الحب المنفلت والطمأنينة الغائبة سرعان ما ستعود لتهيمن على مجرى الأحداث حينما سيعرف رشيد تجربة جديدة رفقة طالبة الطب نسرين قريبة زوجة خاله رضا (ابنة عمها)، وهي الفتاة التي لم يكن يعنيها من رشيد سوى دخله، وابتزازه ماديا ومعنويا بأشكال بشعة، ثم تخليها عنه لتقيم نهائيا في مدينة تولوز الفرنسية وارتباطها بعشيقها هناك.

وتتكرر المأساة ذاتها، مرة أخرى، مع نوال الزوجة الثانية لرشيد، صديقة نسرين وزميلتها في كلية الطب، بحيث اتخذته سلما نحو تحقيق طموحاتها، ومارست عليه شتى أنواع السادية والقهر رفقة أمها ووالدها الدكتور عيسى، بل إنها، وإمعانا في جبروتها وبإيعاز من الحماة، انتزعت منه ابنته الوحيدة ندى، التي لم يعد يراها إلا بعد عناء ومكابدة، كما أذاقته مرارة الخيانة ومهانة الإذلال عبر نزع منصب مفتش التعليم وإعادته إلى مهمة التدريس مرة أخرى.

وهكذا نرى أن علاقات البطل النسوية، كانت وراء خلل حياته وغياب الاطمئنان فيها، وكلما أضاء قبس من نور المحبة والقربى الذي قد يُشعره بالسعادة والاطمئنان غاب وولى تحت قهر المرأة وجبروتها، كما جسده متخيل الرواية عبر تتالي أحداثها وتشابك وقائعها. وعن طريق رصد أوجه هذا الخلل يتمكن السارد من تصوير اضطراب المجتمع واختلال قيمه وتراجع معاني الجمال والخير ومقومات الإنسانية فيه. وقد كشف السارد عن بشاعة الواقع من خلال الوقوف طويلا عند بشاعة المرأة وتدنيها متمثلة في صورة زوجة الأب الأمية الجاهلة، أو في صورة الطالبة الطبيبة التي تنتمي إلى وسط فقير، وتسعى إلى تغيير ظروفها وأحوال حياتها، أو في صورة امرأة تنتمي إلى طبقة راقية في المجتمع وذات أصول بورجوازية.

وبهذه الشاكلة تقدم الرواية سيرة فشل الحب وغياب الطمأنينة في حياة رشيد باعتباره تمثيلا لجيل عانى من هيمنة الانتهازية والوصولية، ومن سيطرة القسوة والجهل على أبنائه. ولعل الرواية، وهي تقف عند أوجه الخلل الاجتماعية هذه، تسعى إلى إثارة الأسئلة حول ما حدث ويحدث أكثر من طرحها إجابات شافية عن أوجه معالجة هذه الاختلالات، وهو أمر لا يعني الروائي، بقدر ما يعني، أشخاصا آخرين في الحياة وفي الواقع.

وعلى العموم، يمكننا القول إن الرواية أضافت الجديد، فعلا، إلى منجز عبد الجليل الوزاني التهامي السردي، إذ إنها عالجت قضايا جديدة لم يتطرق إليها في عملين سابقين قرأتهما له، وهما: “الضفاف المتجددة-تيكيساس” و”احتراق في زمن الصقيع”، كما أن الشكل الفني للرواية يختلف عن شكل الروايتين المشار إليهما.

ولا يفوتنا تأكيد أمر هام قبل أن نختم هذه القراءة، وهو الإشارة إلى جمال أسلوب الكاتب وانسيابية سرده وتدفقه، وهي لمحات فنية طبعت الأعمال الثلاثة التي قرأتها له، وتشي بتمكنه من فنه وعنايته بلغته. ويبين هذا الأمر مدى عمل عبد الجليل الوزاني التهامي بدأب على أن يكون صوتا روائيا متميزا بين الأصوات الجادة التي أنجبتها تطوان: محمد أنقار، وبشير الدامون، وخالد أقلعي، وبيوسف الركاب، وخليل السباعي، وهشام مشبال… وغيرهم من كتاب الرواية. ومن الأكيد أن في جعبة الروائي أعمالا أخرى سيتحف بها القارئ المغربي وتكون إضافة إلى إبداعه الجاد الجميل.    

         

مقالات من نفس القسم