لمْ أنو الموتَ أبداً

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

سيومي خليل

 استيقظت قبل الشّمس عدد ثلاثين سنة من الأيام .

قبل الفجر بدَقائق تكُون عيناي تغتسِلان من نوم ليلة كاملة، أُعد نفسي لاستقبال يوم عمل جديد، أضع بَرّاد الشاي على البوطاغاز، وأنتظرُ أن تدق الدقات اليومية الغامضة التي يُفْتَتح بها مسرحي اليومي؛ في الأيام الأولى للعمَل ، وحين وجدْتُني مطالب بالاستيقاظ باكرا، وأخذ الحافلة لمَقر العمل البعيد بعشرات الكيلومترات عن بيتي، وقبل ثلاثين سنة، سمعت دقات غَريبة في تلك الصباحات، اعتقدتها أول مرة دقات على باب جَار، أو على حائِط مُلاصق لشقتي، لكن تكرارها جعلني أومن أنها دقات غريبة تأتي معَ مَجيء الشمس. الدقات مازالت كما هي حتى وأنا أشَارف على تقاعدي، بل وأنا أعُاني من صمم فُجائي أصَاب أذنيّ معا، وجعلهما لا تلتقطان من الكلام والأصوات إلا المرتفع منه، لكن الدّقات دون غيرها تسمعها أُذناي دون أي مجهود، وهذا دون شك مردّه إلى العلاقة الحميمية التي تم نسجها على طُول ثلاثين سنة بين دقات غريبة لم أعرف مَصدرها وبين أذنين أصابهما صمم فجائي .

لأكثر من ثلاثين سنة لم أصَادف صباحا أي جار، لم يسَايرني في الطريق الرابط بين بيتي والشارع العام الذي تمر منه الحافلات الذاهبة إلى مقر عملي أي شخص، وحتى بعد أنْ اشتريتُ سيارة ،كان هذا الطريق نادرا ما يستقبل سيارات في الصّباح ، فالوقت الذي أخرج فيه من شقتي يكون أَغلب النّاس ملتحفين أفرشتهم وأغطيتهم الدافئة. بعد معاناة شهر من الاستيقاظ الباكر جدّا في أول أيام عملي سَيُبَرمج جسدي برمجة دقيقة على هذا الاستيقاظ ، وستعدل ساعتي البيولوجية تعديلاً لا رجعة فيه كي تستيقظ في هذا الوقت .

لم يكن الأمر صعبَا كما يظن الجميع .

لقد سألني أحد الموظفين معي على هذا التبكير الدّائم إلى العَمل رغم أني أسكن منطقة بعيدة، أجبته:

– الأمر سهل جدّا، فإذا كنت قد اعتدتَ أن تكون نائما ذلك الوقت، فأنا اعتدتُ أن أكون مستيقظا، إنّها مسألة عادة ، أتدري أنّه كما تستغرب لاستيقاظي الباكر ، أستغرب لنومك في ذلك الوقت، فبسَببْ اعتيادي على الإستيقاظ بت أرى النوم أمرا مجهدا في ذلك الوقت.

لولا مروري من الطريق الرابط بين بيتي والشّارع العام مساء حين عودتي من العمل لَمَ عرفتُ هيئته،ومما يتكون، والبنايات التي عليه ، وهل قربه حديقة أم لا، وهل تحوطه مزبلة أم لا… فحين أمر عليه صباحا يكون ملفعَا بالظلام، وحتى إن بدت بعض أشعة الشمس فإنّها تكون خجلى لا تكشف منه شيئا، ولا تعري أي شيء منه .

لم أفكر يوما ما الذي يمكنه أن يحدث إنْ استيقظت متأخرا بعض الوقت. كان بإمكاني أن أستيقظ متأخرا في مدة الثلاثين سنة فأيام السبت والأحد لم أكن أذهب فيها إلى العمل، إضافة إلى أيام العطل، لكني كنتُ مصرا على الإستيقاظ باكرا، والبقاء في فراشي، أو الاستماع إلى محمد عبد الوهاب الذي أعشقه حتى الموت، أو الذهاب والمجيء في غرفة نومي محدثا نفسي …بلْ إنّي أبقى أيام العطل جميعها في الشقة حتى المساء ثم أخرج لأقابل بعض الأصدقاء؛ تحديدا أخرج حين تغرب الشمس تماما .

لقدْ لاحظت أنّ جسدي قام بحيلة ماكرة كي يخرج والجو مظلم، فحين أهم بالذهاب إلى عملي ينشط وتزداد حرارته، وحين أكُون في أيام العطل يتكاسل لدرجة يعتكف فيها في البيت ولا تزداد حراراته ونشاطه إلاّ عند المساء ، وتحديدا حين تغرب الشمس تماما .

وافقني هذا النمط من العيش :

فأولا أنا وحيد

وثانيا لا أحب الاختلاط كثيرا

وثالثا الخروج في جو مظلم يساعد الذّهن على الاشتغال أفضل من الخروج في جو منير.

أقل من شهر ويحتفل الموظفون أصدقائي بحفل تقاعدي . حين ذكرني رئيس العمل أنّ مطبوع ملأ التقاعد قد أصبح جاهزا أحسستُ بوخز عظيم في معدتي كأن أحد الأمعاء لُوّي فجأة وبيد قوية . كظمت صرخة مباغتة ، فلم يسبق لي أن أظهرت سلوكا غريبا في العمل لثلاثين سنة ، فكيف أصرخُ فجأة حين يذكرني رئيس العمل بمطبوع ملأ التقاعد ؟ ملأتُ المطبوع وبدأت أتذكر أحداثا كثيرة ميزت عملي.

أرَقت بعد ملأ المطبوع ولم أنم تلك الليلة ، ورغم ذلك ذهبت للعمل كما دائما ، ثم أرقت الليلة بعدها ولم أنم ، ورغم ذلك ذهبت للعمل …عموما لقد أرقت أسبوعا كاملا ، كنت فيه نهبا لأسئلة كهل شارف على الستين سنة ، لم يسبق له أن تزوج ، ولا أحب ، لم تعد له عائلة ، فقد تلاشت يوما كما تتلاشى السحب .لم تكن أسئلة مثل هذه تراودني أبدا ، كانت طبيعة الأسئلة التي أفكر فيها غريبة مثل :

أين أصرف راتب هذا الشهر ؟

أي بار سأقضي فيها مساءاتي؟

أي بدلة سموكينغ سأشتري هذا الشهر؟

كيف سأنقص وزني وأزيل الكرش؟

لقد سَميت الأسْئلة الجديدة أسئلة التقاعد ، فلأول مرة بدأت أسأل نفسي:

من سيرعاك؟

أي امرأة ستقبل بك وأنت الذي جرحت نساء كثيرات؟

أي معجزة هذه التي ستجعلك أب بعد الستين؟

ماذا ستفعل حين لا يبقى هناك عمل ينسيك العالم كله؟

لقد كان عملي وسيلة نسيان ناجعة وقوية ، فيه كنتُ أنسى كل شيء مرتبط بالعالم . لم أخطط لمرحلة التقاعد ، كأني ظننتُ أني لنْ أترك العمل إلا حين أموت . بدوتُ في الأشهر المتبقة لي في العمل مضطربا ، قلقا ، وظهرت هَالة سَوداء تحت عيني، نَحِفتُ بشكل ملحوظ ، وفقدت شهيتي للأكل ، لكن حماستي للعمل والإستيقاظ باكرا لمْ تخفت ولو قليلا . أثناء الاحتفال بتقاعدي كنتُ أتعَس الحَاضرين رغم أن كلمات الإطراء التي قيلت في حقي كانت رطبة وجميلة. وددت أن أصيح في الجميع وأقول :

– سَأموت إنْ لمْ آتي للعمل.

في أول يوم من تقاعدي عن العمل ذهبت إلى العمل ، استيقظت باكرا كما العادة ، وركبت الحافلة ، وكنت قبل الجميع في العَمل . كل من رآني في باحة الإدارة التي تتوسطها نافورة جميلة محاطة بزهور وأعشاب خضراء فهم ارتباطي الكبير بالعمل ، لكن لا أحد ممن رَأونِي كان قادرا على إعادتي له . كررت الذّهاب إلى العمل مدة أسبوع ، وكنت مزمعا الذهاب إلى العمل مدة أطول رغم أني لا أفعل شيئا ، وأرى فقط مكتبي يستغله موظف جديد، وأتجول بين مكاتب أصدقائي مدردشَا، طالبا منهم مساعدتي لهمْ فِي أي عَمَل كيفمَا كَان، إلاَّ أن ما قاله الرئيس لي جعلني أتوقف نهائيا عن الذهاب .

– مجيؤك هنا يوترنا جميعا ، أنت أول متقاعد يصر على القدوم إلى العمل والتجول في أروقة الإدارة والدخول إلى المكاتب كأنه يشتغل ، إنّ وجودك يذكرنا بمصيرنا بعد حين ، أنا صراحة حين أراك أفكر في الطريقة التي سأتصرف بها حين أصل مرحلة التقاعد …أرجوك لا تأتي مرة أخرى كي لا تؤلمنا .

عند هذه اللحظة شَعرتُ أنه آن لي الآوان كي أنام كثيرا ولا أستيقظ باكرا ، فلم يعد من داع لأستيقظ …

– لأنم جيدا …

همست لنفسي .

في الصباح رأيت الشّمس داخل الشقة لأول مرة بعد ثلاثين سنة . كنت ممددا بدون حراك ، وحوالي كان هناك الكثير من الأشْخَاص ، عرفت بعضهم ، والبعض الآخر لم أعرفه ، سمعت أحدهم يقول :

– الرائحة هي التي نبهتنا إليه.

عن أي رائحة كان يتحدث هؤلاء ؟ ثم لم لا أقوم وأطرد هؤلاء المتطفلين عن شقتي ؟ لقد كنت نائما بعمق لدرجة أنّ الكوابيس التي أحلم بها كنت عاجزا عن طردها ، أو حتى عن تغييرها بأخرى.شعرت أني مشاهد لا غير ، وأنّ ما يخصني حقيقة في كل ما أراه أمامي من عويل سيدة تبينتُ أنها أختي الصغرى، ومن تهدئة لها من طرف شخص تبينت أنه زوجها ، ومن وجود أناس يظهرون ويختفون ، هي أشياء لا تخصني حقيقة إنّما تخص شخصا في الحلم ، لكنه للأسف الشديد كان أنا .

نويتُ فقط أن أتأخر في النوم ولا أستيقظ باكرا كما فعلت لأكثر من ثلاثة عقود ، ولولا تقاعدي عن العمل لما نويت هذا الأمر ، ولظللت نشيطا كما عادتي ، واستيقظت قبل الشمس ، واستمتعت بحماس جسدي وحرارته . لم أنو الموت أبدا .

قلت للجمع الذي يحيط بي ويبكي :

– لم أنو الموت أبدا.

——————

شاعر وقاص من المغرب

 

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون