لماذا أنا شاعر

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

شهادة : البهاء حسين*

(1)

لا أعرف كيف أصبحت شاعراً . ما أذكره ، وما زال عالقاً بى ، هو السهو الدائم أثناء الحصص بالذات . كنت أستغرق فى مراقبة التكوينات المتحركة للسحب من نافذة الفصل .. هذه نعجة وتلك السحابة الجامحة حصان ..إلخ . أدمنت النظر إلى شىء طاف يركض فى تصادم مرح ، بلا شجار ومن غير أن يخضع لأى قهر أو قواعد صارمة . مختزلاً عالماً كاملاً فى أشكال مطيعة ، إذ كانت السحب، بتعجل، تبدل هيئاتها ، وبسهولة من دون أن تتهشم ؟

وأذكر تلك الآية " كل نفس ذائقة الموت " . قرأتها على سيارة إسعاف تقل ميتاً من بلدتنا ، عاد لتوه من الخليج . ظللت أجترّ الآية وأجيلها معى فى الذهاب والمجيىء بصوت مسموع ، لكن أخى الأكبر نهرنى وحذرنى من ترديدها أمام أحد ؟

هكذا كمنت الصور واللغة للطفل . بقى أن يعيش فى بيت غير قادر على الفرح ، لتبدأ فى التناسل ذرية القصيدة .

كنت صغيراً ، لما وعيت على أمى حزينة . لا تلبس غير اللون الأسود . أنا وأمى وجلبابها الأسود كنا معاص بشكل دائم . فى النهار أصحبها مع آذان الفجرإلى القرى المجاورة ، نشترى القصب أو الفاكهة أو الخضار ، حسب الموسم ، لنبيعه فى قريتنا

وعند النوم أدس نفسى فى حضنها كجرو مذعور ، خوفاً من حواديتها المفزعة . من أى خشخشة فى سقف البوص . لا أدرى .. هل هذا أنسب ما يكتب فى الشهادات ؟

على كل عرفت أمى عندما كبرت .. إن أحداً غيرها لا يمتلك هذا المزاج المخيف للحداد والتذكر دون هوادة . كان عمرها حوالى 20 سنة وكنت فى السنة الأولى حين توفى أبى عام 1970 م ولق به شقيقها الوحيد بعد فترة قصيرة فحملت بمفردها وبلا مورد ، عبء البقاء على قيد الحياة بأربعة أطفال . وكان لديها ، فوق ذلك ، رصيد من أحزان قديمة تخص طفولتها ، لهذا كانت ” تعدد ” بصوت عال . أراها تميل بجسمها إلى اليمين وإلى اليسار مستغرقة فى البكاء فيتسع الصدع فى طفولتى ويضغط .

وقتها كنت على استعداد لفعل أى شىء مقابل أن تفك حالة الحداد الدائمة عن نفسها وعن البيت . أتذكر المأتم المتنقل الذى كانت تحمله بداخلها . لم تكن تجد صعوبة فى نصبه على أى ميت .. نعرفه أو لا نعرفه . صديق أو حتى من العائلة . لقد أكرهتنى ، عن غير قصد أو وعى منها ، على الخوف .

:

الآن وأنا أفكر فيها ، ألتمس لها العذر. لقد احتملت فوق طاقتها .غير أن اكثر شىء لا أستطيع أن أسامح فيه ، هو أننى شخص سرقت منه طفولته . وهذا الطبع الذى ورثته عنها .. القلق ؟ ولكن أسامح من ؟

المهم فى شوارع ” الحواويش ” وأزقتها الضيقة تعرفت على الانتظار .. أن ” هذا أيضاً سينقضى ” . كنت أحس بذلك احساساً مبهماً . وصرت أحلم به نيابة عن أمى وإخوتى . فى فترة ما تصورت أن لا أحد غيرنا يعانى . أراحنى ذلك الشعور .. أن أكون ، من بين أقرانى ، الولد الذى جرب اليتم ، حتى إنه لا يملك صورة شخصية لأبيه ؟ وجرب الفقر .. أنه لكونه فقيراً فإن ” كل شىء يراه ، هو شىء لا يستطيع امتلاكه ” . وجرب الألم . يبدو أننى كنت معداً لمثل هذا الألم الرومانتيكى ، إنما الواقعى مع ذلك ، ومعتداً به . الألم ، قلت : يليق بالشاعر.

، ،

تلك هى الحالة التى أخذت تنكل بمخيلتى . وفى الثالثة عشرة كتبت قصيدتى الأولى . كانت مجرد خواطربالطبع ، غير انى فرحت بها فرحاً شديداً . وكما هى العادة ، عرضتها على مدرس العربى الذى قال لى : أنت شاعر . رنت الكلمة فى أذنى ، لكن هل من المفيد بالنسبة لأمى أننى شاعر ؟ لا أتكلم عن كونها أمية تجهل القراءة والكتابة ، فضلاً عن الشعر . إنما هل كان ذلك خليقاً بأن يجعلها تفرح بى ، أو تفهم ، لو أنها عرفت ؟

إلى الآن مازلت أختلق الأكاذيب ، بشأن أى شىء يجعل هذه الأرملة المستوحدة تفرح .

إذن بدأت الكتابة ، فماذا قلت وماذا بقى لأقوله ؟

قبل أن يكون علىّ التفكير بالجواب ، أشير إلى مرحلة متوازية عشتها فى الإسكندرية وأماكن أخرى تكفلت بتمشيطى بجهامة وحماس خشن . بالمناسبة ، أصبحت لدى حساسية مرضية ضد نموزج الإنسان المكافح الذى كنت أتباهى به ، بل كنت أستعبده فى شغف متواصل بالرثاء للذات . أؤنب نفسى بذلك أم أفسرها . الشاهد .. فى الإسكندرية لم يكن البحر الذى رأيته يشبه فى شىء نيل ” أخميم ” ، أو البحر كما كنا نسميه ولا الأساطير التى تحكى عنه . بدا لى غائماً مثل الحدوتة التى كنت أسمعها فى طفولتى وأفشل فى رتق المسافة الناقصة بين رواياتها المتعددة ، عن المأساة التى ارتكبها عمى بيد باردة وراح ضحيتها جدتى وعماتى وعمى الأصغر . وراح ضحيتها أبى ، فقد دخل السجن ، متهما ًبارتكابها ! مسكين أبى ، لم تلمس الحياة طبلة أذنه طيلة ربع قرن . الغريب هو انحرافى بالسماع ، حيث كنت قادراً على تخيل هؤلاء مقتولين بأكثر من طريقة ، إمعاناً ، ربما ، فى كراهية هذا العم بطرق مختلفة . قيل إنه عند دفنه ابتلعه ثعبان ضخم بمجرد دخوله من فتحة القبر . سمعت ذلك بألف رواية أيضاً . هكذا صار لى ماض قبل أن أولد . حدوتة واحدة تكفى عدة أفراد ليكون لهم ماض عريق . ماض بعيد جداً

لا ينتابنى حياله الآن أى شعور من أى نوع ، بقدر ما آسف على أننى لم اعرف حقيقته غير مشوشة . وأنه ليس بوسعى كتابته . هل يتطهر الشاعر من اشباحه بالكتابة أم يتورط فى خلق أشباح جديدة ؟ ما الذى يتيح له أن يلفظ هذه الأشباح دون أن يكون موضع عقوق أو عار ، دون أن يكون لأحد حق اتهامه أو شرف تبرئته كما يقال .

على آية حال ، ليست لدى حواديت تثير الدهشة أو حتى الرثاء . يحدث الفقر واليتم لكل الناس . مع ذلك ، أو ربما لذلك ، لا أستطيع أن أكفّ عن اعتقادى القديم .. أننى منذور لشىء كبير ، تكفيراً عن تلك الحياة التى ما زلت أحياها ، كما لو أنها تمرينات

على حياة أخرى تنتظرنى فى المستقبل .

اعتقدت كذلك بأن الله يولينى عناية خاصة دوناً عن خلقه ؟ لكن ما علاقة ذلك بما أريد أن أكتبه عن البحر والإسكندرية ، بيع السجائر أمام شركة البترول فى ” مرغم ” ، الجنس ، ” سحلولة ” وافتضاض البراءة ، ابنة عمى ، روث العائلة ، التواصل السرى مع الجسد ، التعب من مواجهة زملاء الدراسة فى الشوارع ، إذ يشترون منك أنت على وجه الخصوص ، ليس حباً فى الحلوى كما يفعل الأطفال ، إنما نكاية فى تفوقك عليهم ، مع أننى لم أكن متفوقاً . فقط لأننى فصيح ، أعنى لوفرة ما لم أكن أفشل فى الإجابة عن سؤال . على ذكر الفصاحة ، كانت عائلتنا مشهورة فى القرية بإجادة الكلام ، وبأنهم مدابيب .. جمع مدبوب .. أى خفيف العقل . ويبدو أن العائلة وجدتها فرصة لعمل أى شىء دون حرج . ما الذى ربطنى بهذه العائلة ، بالماضى الذى لا يمكننى تسيانه أو تغييره ، بالحواويش .. بقتل أى بنى آدم فيها بقرشين صاغ ، بزنا المحارم ، بمرسى مطروح ، بالمنيا ، بالحماقات الصغيرة والسمعة العكرة ، بتواطؤ الأصدقاء ، بالبنات ، بالقصلئد ، بقصص الحب التى لاتكتمل ، بصدر سعاد حسنى ، بالرغبة فى أن تكون لطيفاً مع الناس ، مثل الأب كرامازوف ، ويكون هذا هو ما يسىء إليك . الشعور أنك غريب أينما حللت . الكتابة كعبء لعنة أبدية عليك أن تحمله . وأن تستسلم للقلق . الأرض التى اغتصبها أعمامى وأولادهم بعد موت أبى مباشرة ، دروس الكراهية اليومية التى كانت أمى تلقنها لى ولإخوتى ، سينما ” أوبرا ” بسوهاج ، كنائس أخميم ، الأفراح والموالد ، صوت أحمد التونى ، وياسين التهامى ، عبدالحليم حافظ ، نجاة ، فيروز ، ما لى بهذا كله . تقليد الشيخ عبد الباسط عبد الصمد ، إقامة الشعائر فى مسجد العائلة ، إصرار أمى على تفسير الأحلام .. احلام الأسرة وأحلام الناس بطريقتها الخاصة ، نفاق الكلمات للجاحظ ، الكوابيس ، سرياليلت بيكاسو ودالى ، بساطة هنرى ميشو ، ألبير كامى ، أبو حيان التوحيدى ، الصراع الكوميدى بين فريد شوقى ، لا أطيق هذا الممثل ، وبين محمود المليجى ، الشعراء الذين لا قيمة لهم فى هذا الجيل وفى الجيال السابقة واللاحقة ، الادعاء ، التمسح فى السلطة ، الفساد ، الليل ، صوت فايزة أحمد ، موسيقى البرنامج الأوروبى ، الملامح التى تفهم دائماً بطريق الخطأ ، التصرفات ، ذلك كله .. الشخص الذى يكتب هذا ، ما علافتى به . ما الذى أتى به للقاهرة ، للشوارع المكتظة بالوجوه والكبت والعرق . أهى القصيدة ، التاريخ ، المجد .. ذلك الوهم الجميل . هل جاء ليتخلص من ذلك كله فى الزحمة ، حيث يمكنك فى المدن الكبيرة أن تكون مجهولاً ، تمارس الشعر ولا يراك أحد .

لقد صرت ، مع توم هانكس ، أسوأ نسخة من نفسى . لذلك حين طلبت منى هذه الشهادة ، وبما أننى على مشارف الأربعين .. منتصف العمر ، وبما أننى أفهم الشهادة على أنها حديث عن الشاعر قبل أى شىء آخر ، فقد وجدتها فرصة لتصفية الحساب مع نفسى . فرصة للفهم أو التسامح ، لاكتشاف الدافع العميق وراء طريقتى فى الحياة ، وراء اعتقادى الحميم السازج بأننى محل عناية الله شخصياً .

لدى انطباع ، فى الختام ، أن ذلك الاعتقاد كان حيلة ابتكرتها غريزة البقاء لاحتمال حياة لا يمكننى التحديق فيها أو فحص باطنها الآن ، دون الاحساس بأننى إزاء جملة اعتراضية طويلة ومرهقة .

هذه الحياة ، هذا الشبح الذى كنته هو ما أ حاول قوله .

2) )

لم تعد لدى شهوة اصلاح هذا العالم . لا أكتب من أجل تغييره . لست طموحاً إلى هذه الدرجة . ثم إننى شخص كسول لا يرغب حتى فى تغيير نفسه ، فات أوان ذلك . أكتب لأن هذا يحدث ، لأن عندى ما أعرفه ويعرفنى .. لدى العالم الذى يخصنى ويهمنى اكتشافه ، أكتب لأننى غير قادرعلى العيش بسلام من دون كتابة. أكتب لأتفاهم مع نفسى بالقصيدة علانية . هذا ما يشغلنى فى الحقيقة ، بدون رغبة فى الدفاع عن قصيدتى . لا أريد من أحد أن يمنحها ، أو يمنع عنها ، الاعتراف . ولهذا أنظر بعين الزراية إلى الجدل المثار حول قصيدة النثر :

– لأنه جدل ذميم ، ثنائى .. ضد أو مع . وسطحى يلمس الشكل لا الرؤية .

– ولأن هناك مشاكل عويصة لا يليق بنا التجاوز عنها أو ارجاؤها . أما قصيدة النثر فهى تجربة مستأنسة لا خوف منها على الشعر العربى .

– ولأن تجربتى ، إن صح أن لى تجربة ، مع هذه القصيدة تجعلنى أرى أنها الأجدر بالتعويل عليها لبعث الحياة فى هذا الشعر . مع التحفظ على النمازج السيئة منها وما أكثرها الآن .

هل قلت إننى اكتب لأشفى من العلل ، من الأشخاص الذين ضلوا الطريق إلى داخلى ، فصرت منهم وواحداً يجمعهم . هل هذا الشخص الواثق من نفسه ومن قصيدته إلى حد الوقاحة أحياناً هو أنا ، أو أنا الخجول المتواضع ، أو المسكون بالناس ، أو الراقد فى عزلته المتطامنة . إننى بضعة أشخاص . ولفهم هؤلاء والتعرف على تناقضاتهم ، لعقد صلة بينهم وبين العالم ، لعقد هدنة بين هاملت ودون كيشوت ، أكتب .

، ،

ولأننى أريد أن أكتب نفسى طلقت القصيدة العمودية التى كنت متعصباً لها أزيد من اللازم . كانت تلك طبيعة المرحلة . طالب متحمس يحب المتنبى ، مع اننى لم أكن أفهم ما وراء قصيدته الحادة الكتيمة من ألم ممض شامل . لكنه كان الحبل السرى الذى ربطنى بالقصيدة العمودية . أذكر تعصبى لها ، حتى إننى لم أكن أعترف لا بصلاح عبدالصبور ولا بحجازى أو السياب ..إلخ . هل كنت أقلد العقاد بدافع من تأثرى به فى هذه الفترة . كان رأيه فى قصيدة التفعيلة يغذى دوافعى للرفض .. رفض الجديد الذى يقوض قناعة غالية بالتراث ، كونتها على يد قراءات سوقت لى التراث بورع على أنه المثل الأعلى .

كنت أرى فى القصيدة على البحر الطويل أو البسيط غاية لا يدركها إلا الشعراء العباقرة . عشش فى رأسى هذا الهراء ، حتى تخرجت فى العام 1991 ، مع أن العروض كاد يصرفنى عن الشعر . إذ لم يدلنى أحد على خطوة أبعد من كتب الإرشادات المدرسية ، لكن البحور استقامت فى أذنى بعد فترة شاقة . الشاهد أن شغفى كان متعلقاً بالقشرة الخارجية للقصيدة . القشرة التى نعاينها دون استبطان . ارتبطت بالصنعة .. كم أزدرى هذه الصنعة ، فهى تعنى لى محاولة بائسة لأن يكون الشاعر شخصاً آخر غير نفسه . كنت متعلقاً بالبراعة فى توليد اللفظ من اللفظ والمعنى من المعنى مع أنها ، فى النهاية ، معان مستأجرة منذ ألفى عام . وكانت تشدنى وحدة البيت . باختصار كنت ملكاً لسيل من التقاليد الجماعية لا ينتهى ، لذلك شعرت مع القصيدة العمودية أننى أحرث فى غير أرضى .

على أنه قد بقيت لى من هذه التجربة خبرة الخروج بالإيقاع من بابه الجهرى الواسع إلى دراما القصيدة . ومعرفة بأدوات الكتابة .. النحو ، الصرف ..إلخ ، شكراً لكن قلب الشاعر أوسع من البلاغة وهمومه أعقد من ” الكلام الموزون المقفى ” . وخرجت بقناعة أن الشعر بلا ” حرية ” ليس شعراً . والتفعيلة تتكرر بانتظام أو تكون سائبة ، هذه الوحدة الصوتية التى تحجر على المعنى ليست قيداً مقدساً على مشاعرى وأفكارى وتطلعى نحو ما لا يقيد . الشعر أجل من كتمة النفس . هو شىء آخر بلا وزن أو قافية ، وبقدر تجردك فى البحث عنه سيمنحك نفسه . لكن ما الشعر . بالنسبة لى هو التأكيد الضرورى لما نراه وما نحسه وما نفكر به بوعى أو ما يأتى من وراء وعينا . تاريخياً كان أو حاضراً . النأكيد بالذاكرة . الشعر بتعبير ريلكه هو ” الماضى الذى يندلع فجأة فى قلوبنا “ . إنه انت إذ تحاول النهوض من حفرة الإجابة إلى كبوة أخرى . الشعر أن تمشى ولا تصل . هو رؤية الأشياء بشكل غير عادى . حالة تأمل وإعادة اكتشاف دائم . النفاذ إلى الجوهر والتعبير عنه فى سياق مركب من التراسل بين عوالم شتى .. الموسيقى ، الرسم ، السينما ، العمارة ، السرد ..إلخ . وفى حالة التلقى تنشأ لدى القارىء لذة نفسية وعقلية هى لذة اكتشاف المألوف بعين جديدة .

من ناحية الكتابة أفكر أول ما أفكر ، فى أن تكون القصيدة عارية ، بلا تكلف أو ادعاء . وفى إيقاع وتركيب لفكرة ما أو معنى يومض متلمساً طريقه للخارج . وعندما تبين ملامح هذه الفكرة أبحث عن صيغة لا تتخلى كلية عن الإيقاع ولا عن المجاز .. مجاز القصيدة عامة .

وثمة قارىء يطا برأسه أثناء الكتابة ، مهما حاولت فإننى أفشل فى مطاردته . كم يؤرقنى ، رغم أننى أنوب عنه فى القيام بدوره القاسى . لهذا أحرص ، بغير تعسف ، على أن تكون الكتابة شفافة ، لا تفهم فى لمحة عين ، ليست للذائقة الخاملة وفى الوقت ذاته لا تنغلق على نفسها ، لأننى ، فى نهاية الأمر ، أريد أن أتواصل مع نفسى فى تواصلها مع القارىء .

، ،

لا أدرى هل من اللائق القول إننى لم أقرأ شيئاً لزملائى إلا مؤخراً . لقد وجدت شعراً قليلاً فيما قرأت ، قليلاً جداً لا يتناسب مع الشعارات المرفوعة . لا أعطى لنفسى حق تقييم أحد ، فلست متعاليا ً ، ولا أقصد السخرية أو ادعاء الاختلاف عن جيل مفترض أننى واحد منه . كل ما فى الأمر أننى غير مؤمن بحكاية الجيل هذه . وعلى خلاف كثيرين أرى فى ” قصيدة النثر” فرصة للانحراف بها إلى الشعر لا إلى النثر ، وهذا يعنى التخلص من العناصر والقيم غير الشعرية .. لك أن تتأمل التقريرية مثلاً بحجة كتابة اليومى . وأرى فى قصيدة النثر فرصة للصدق مع النفس ومع القارىء رغم موت القارىء ، وأخيراً أرى أنها فرصة للتجديد حقيقة لا لرفع الشعارات ، مثل تطليق القضايا الكبرى أو كتابة الجسد أو خرق المقدس ..إلخ ، لأن هذا معناه أن تكون القصيدة استجابة مباشرة لقصد ذهنى ، بينما هى ، لكى تكون قصيدة ، غير قابلة للتجهيز سلفا ً .

للشاعر أن يكتب ما يشاء بالطبع إنما كيف يكتبه ؟ وله أن يدهب إلى الحافة إذ لا وسطية فى الفن . له أن يجرب حتى النهاية . لكن يفترض ، قبل ذلك ، أن يكون صاحب موهبة . أن يرى ما لا يراه الآخرون . أعنى هذه القدرة الخلاقة على إقامة عالم شعرى من الأنقاض ، فى كل قصيدة ، لا الثرثرة ، وإلا أصبحت الميول الفطرية للإفضاء والتعبير عن الخطرات ، عند كل الناس ، قصيدة نثر، تكتب بأيسر الطرق ، بحيث يكفى أن يتكلم المرء أو يمارس العادة السرية ، ليكتب هذه القصيدة . إننى أفهم التجريب على أنه التشوف الدائم للخروج على السائد . شهوة القلق . حتى فى الشكل العمودى كانت لدى المجربين الكبار هذه الشهوة فأنتجوا أشكالهم الخاصة ، ولهذا ما زلت على اعتتقادى القديم أن الشعر الجيد هو ما يجبرك على قراءته بامتنان . إعادة اكتشافه ، بغض النظر عن الشكل . والقصيدة التى تدعى لنفسها أنها وكيل الشعر هى قصيدة لا عمر لها . الحديقة تتسع للجميع . ويفترض أن أول قيمة تكرس لها القصيدة هى التسامح . خاصة مع الآباء ، لذلك أندهش ممن لا آباء لهم . معنى ذلك أنهم لم يقرأوا قصيدة جميلة على الإطلاق .

عن نفسى لا أستطيع قتل آبائى .. المتنبى ، الجاحظ ، ماركيز ، التوحيدى ، المعرى ، يحيى حقى ، المازنى ، فلوبير والدرس الأول .. ” إذا كانت لديك أصالة فعليك أن تظهرها ، وإذا لم تكن لديك فينبغى أن تخلقها ” . لا أستطيع قتل الماغوط ، صلاح عبدالصبور ، ديستويفسكى ، فرناندو بيسوا ، بودلير ، كازانتزاكس ، كفافيس ، بول فاليرى .. مع فاليرى بالذات عرفت أن الكمال يكمن فى الحذف لا فى الإضافة ، مع لوركا ، جوزيف برودسكى ، نيتشة ، هيمنجواى ، فان جوخ ، آل باتشينو ، على أدهم ، أنتونى كوين ، وآباء آخرين رافقتنى تجاربهم إلى حيث وجدت الشعر أسلوب حياة . فلماذا نقتلهم وقد وقفنا على أكتافهم فرأينا الأبعد .

كل ما أتمناه أن أتجاوزهم . كم يسعدنى ذلك ، أو أتجاور معهم ، دون أن أحسب عليهم ولا على جيل أو تيار ، بل على الشىء الكبير الذى شعرت أننى منذور له ولم أكن أعرف أنه القصيدة .

ــــــــــــــــــــــــــــــــ

* شاعر مصري

خاص الكتابة

مقالات من نفس القسم