لا يصلح لشيء

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 15
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

إيتالو كالفينو

ترجمة ناصر الحلواني

عالية، كانت الشمس، تشع بزاوية على الشارع، تضيئه بنحو مرتبك، فتسقط الظلال من الأسطح على جدران المنازل المقابلة، فتتوهج نوافذ المتاجر الملونة بألقٍ باهر، ينبثق من فرجات غير متوقعة، فيضرب وجوه المارة المسرعين على الرصيف المزدحم.

كانت المرة الأولى التي أرى فيها الرجل ذا العينين الملونتين الفاتحتين عند التقاطع، واقفا أو سائرا، لا أتذكر بالضبط: كان يقترب مني أكثر فأكثر، هذا أكيد، سواء كنت أنا من يتجه إليه أو العكس. كان طويلا ونحيفا، يرتدي معطف مطر فاتح اللون، ويحمل مظلة مطوية بإحكام، معلقة في أحد ذراعيه. على رأسه قبعة من اللباد، وأيضا، كانت فاتحة اللون، ذات حافة دائرية عريضة؛ تحتها مباشرة كانت عيناه، واسعتان، وباردتان، ونديَّتان، وفي زاويتها لمعة غريبة. كان يصعب التكهن بعمره مع نحافته تلك، وشعره المقصوص مؤخرا.

في إحدى يديه كان يمسك بكتاب ، مغلق، لكنه يضع أصبعا بين صفحاته، وكأنه يحدد موضع قراءته.

على الفور، تولد لدي انطباع بأن عينيه مصوبة نحوي، عينان ثابتتان تفحصتاني من رأسي إلى أخمص قدمي، ولم تترك حتى ظهري، أو داخلي. ابتعدت بنظري على الفور، ولكني أشعر كل عدة خطوات، بالرغبة في توجيه نظرة إليه، وفي كل مرة أجده أكثر قربا، ينظر إليَّ. في النهاية، كان يقف أمامي، بفم، بلا شفاه تقريبا، ترتسم عليه بدء ابتسامة. ببطء، أخرج الرجل أصبعا من جيبه، وأشار به نحو الأسفل، إلى قدمي، حينها بدأ في التحدث، بصوت رقيق ومهذب.

“معذرة” قال “إن رباط حذائك مفكوك”

هذا صحيح. كان مُداسا عليه ومفكوكا، طرفا الرباط يتدليان على جانبي الحذاء. شعرت ببعض الخجل، وتمتمت “أشكرك” وأنا أنحني.

التوقف في الشارع لإحكام رباط الحذاء أمر مزعج، خاصة عندما تتوقف، كما فعلتُ، في منتصف الرصيف، ولا شيء أو جدار أضع عليه قدمي، مقعيا على الأرض، والناس تتخبط فيَّ. تمتم الرجل ذو العينين الفاتحتين بكلمة توديع خافتة، وذهب في الحال.

وكان مقدرا أن ألقاه مجددا: فلم تكد تمر خمس عشرة دقيقة، حتى وجدته، مرة أخرى، واقفا أمامي، ينظر إلى نافذة عرض أحد المتاجر. بمجرد أن رأيته تملكتني رغبة غير مفهومة في أن أستدير راجعا، أو الأفضل أن أجتاز سريعا بقدر المستطاع، وهو ما يزال مشغولا بالنظر إلى نافذة العرض، على أمل ألا يراني. لكن لا: لقد فات الأوان، لقد التفت الرجل الغريب، ورآني، ونظر إليَّ، وكان لديه ما أراد أن يقوله لي. توقفت أمامه، خائفا. كان للغريب رنة صوت متواضعة.

“أنظر” قال “لقد انحلَّ مجددا”.

تمنيت لو أن أختفي في الهواء. وبدون أن أرد، انحنيت لأعقد رباط الحذاء بعناية، حانقا. كانت أذني تطن، وبنحو ما، أحسست أن من يمرون بي ويصطدمون بي هم أنفسهم من مروا بي واصطدموا بي ولاحظوني في المرة السابقة، وأنهم كانوا يتبادلون التعليقات الساخرة.

ولكن الآن كان الحذاء مربوطا بإحكام، وكنت أمضي في طريقي بخطوة خفيفة واثقة. الحقيقة، أنه مع نوع من الفخر اللاواعي، كنت آمل لو أن ألقى الغريب ثانية الآن، لأسترد سمعتي.

غير أنه ما إن دُرتُ حول الميدان حتى وجدت نفسي على بعد خطوات منه مجددا، على نفس الرصيف، وفجأة تحول الفخر الذي كان يؤججني إلى رعب. إذ حينما نظر الغريب تجاهي، كانت نظرة أسف ترتسم على وجهه، وتقدم نحوي وهو يهز رأسه برقة، كما لو أن ألما أصابه جراء واقعة لا يمكن للإنسان التحكم فيها.

وبينما أتقدم، كنت أنظر شزرا، والخشية تنتابني، إلى ذلك الحذاء المجرم، كان الرباط ما يزال محكما، ولكن ليروعني، ظل الغريب يهز رأسه لبرهة، ثم قال: “الآن، الرباط الآخر هو المفكوك”.

شعرت بمثل ما يكون حين ترى كابوسا، عندما تريد أن تلقي بكل شيء بعيدا، لكي تستيقظ. افتعلت تكشيرة تمرد، عضضت على شفتي كما لو أدفع عني لعنة، بدأت في شد رباط حذائي بانفعال مجددا، مقعيا في منتصف الشارع. وقفت، أحمرَّت وجنتاي، ومضيت في طريقي، لا أريد سوى الفرار من نظرات المارة. 

لكن عذاب هذا اليوم لم ينته بعد، فبينما أشق طريقي إلى البيت مسرعا، كان يمكنني الإحساس بأربطة الحذاء وهي تنزلق فوق بعضها البعض ببطء، العقدة تنحل أكثر وأكثر، وبالتدريج انحلت الأربطة كليا. في البداية أبطأت من سيري، وبذلك يكفي القليل من الحرص للحفاظ على التوازن غير المؤكد للعقدة. لكني ما زلت بعيدا عن البيت، وكانت أطراف الرباط تجرجر، بالفعل، على الرصيف، تتخبط متقافزة. ثم صرت أمشي وأنا ألهث، كنت أفر، كما لو من رعب متوحش: الرعب من أن أقع مرة أخرى تحت نظر ذلك الرجل.

كانت مدينة صغيرة، حيث يمر المرء عبر الشوارع القليلة نفسها، جيئة وذهابا، بلا نهاية،  وإذا ما تجولت فيها، فيمكن أن ترى الوجوه نفسها، ثلاثة، أو ربما أربعة مرات، خلال نصف ساعة. الآن، كنت أجتازها ماشيا، كما لو كنت أعيش كابوسا، ممزقا بين الإحساس بالخزي من رؤيتي ورباط حذائي مفكوكا مجددا، والخزي من رؤيتي منحنيا مرة أخرى لأربطه. العيون تبدو متكاثفة ومحتشدة من حولي، مثل أغصان غابة.

اندسست في أول مدخل بيت التقيته، لأختبئ.

لكن في نهاية الرواق، ذي الضوء الخافت، ويداه تستندان إلى مقبض المظلة محكمة الطي، وقف الرجل ذو العيون الملونة الفاتحة، وبدا كما لو كان ينتظرني.

في البداية، فغرت فمي دَهِشا، ثم جازفت بما يشبه ابتسامة، وأشرت إلى أربطة حذائي المفكوكة، لأوقفه عن الكلام.

أومأ الرجل الغريب بذلك التعبير الذي يدل على الفهم والأسى، والذي عبر به آنفا.

“هذا صحيح” قال “الرباطان مفكوكان”.

رغم أن المدخل كان مكانا أهدأ لعقد رباط الحذاء، مع توفر موضع لأسند قدمي إليه، وهذا أكثر راحة أيضا، إلا أنه كان خلفي وفوقي؛ ذلك الرجل ذي العيون الفاتحة اللون، يراقبني، لا يفوِّتُ حركة واحدة من حركات أصابعي، حتى لقد أحسست بنظرته خلالهم، تربكهم، لكن في نهاية الأمر، بعدما شرعت في ربطهما، لم يعد ذلك يزعجني، بل إنني كنت أصفِّر وأنا أربط تلك العقد اللعينة، كما لو كان للمرة العاشرة، ولكن بإحكام أكبر، شعرت براحة.

كانت الأمور ستكون جيدة لو أن الرجل بقى صامتا، أو لم يشرع في التنحنح ليجلي صوته، مترددا قليلا، ثم مندفعا بالقول، بتصميم:

“معذرة، لكنك لما تتعلم بعد كيف تعقد رباط حذائك”.

ألتفت نحوه، محمر الوجه، وأنا ما زلت  منحنيا. وانطلق لساني بين شفتاي.

“هل تعلم” قلت “لا أمل في أن أُحسن عقد رباط حذائي. ربما لا تصدق ذلك. في طفولتي لم أرغب أبدا في بذل جهد للتعلم. كنت أرتدي حذائي وأخلعه بدون ربطهما. وأستخدم أداة لخلع الحذاء. لا أمل في أن أُحسن عقد الرباط، أنا مشوش. ربما لا تصدق ذلك”.

عندئذ نطق الغريب بشيء غريب، بآخر ما يمكن تصور أن ينطق به.

“إذن” قال “كيف ستعلم أولادك، إذا ما كان لك أولاد، أن يعقدوا أربطة أحذيتهم؟”

لكن أعجب جزء كان أنني فكرت في ذلك للحظة، ومن ثم أجبت، كما لو كنت فكرت في الأمر من قبل، ووصلت إلى إجابة، ثم خزّنتها في ذاكرتي، متوقعا أنه، آجلا أو عاجلا، سيسألني أحدهم.

“أولادي،” قلت “سوف يتعلمون من الآخرين كيف يربطون أحذيتهم”.

بنحو أكثر عجبا مما مضى، عاد الرجل الغريب: “لكن، مثلا، إذا اجتاحنا فيضان هائل، وأدى إلى فناء البشرية جمعاء، وأنت من تم اصطفاءك، أنت وأولادك، لتحافظوا على الجنس البشري، فكيف ستتدبر الأمر، هل فكرت أبدا في ذلك؟ كيف ستعلمهم عقد أربطة أحذيتهم؟ لأنك إن لم تفعل، فبحق السماء، كم من القرون ستمضي قبل أن تدبر البشرية كيفية عقد رباط الحذاء، وأن تبتكر ذلك مرة أخرى!”

لم أستطع فهم أو متابعة ذلك الآن، لا العقدة ولا الحوار.

“لكن” حاولت الاعتراض “لماذا يجب عليَّ من دون البشر جميعا أن أكون من يبقى، كما ذكرتَ، لماذا أنا، بينما لا أُحسن كيفية عقد رباط حذائي؟”

كان الرجل ذو العينين الفاتحتين الملونتين يقف بإزاء الضوء، عند عتبة الباب: كان ثمة شيء ملائكي بنحو مرعب في تعبيره.

“لماذا أنا؟” قال “هكذا يقول كل الرجال. وكل الرجال لديهم أربطة أحذية ليعقدوها، شيء لا يعرفون كيف يفعلونه، عَجزٌ يربطهم بالآخرين. يعتمد المجتمع على ذلك التباين بين الناس هذه الأيام: تكامل المهارات وعدم الكفاءة. لكن الفيضان؟ إذا اجتاحنا الفيضان، وأردنا نوحاً؟ إن الإنسان كإنسان ليس بقادر على جلب ما يلزم للبدء من جديد. أ ترى، أنت لا تعرف كيف تعقد رباط حذائك، شخص آخر لا يعرف كيفية سحج الخشب، وشخص آخر لم يقرأ تولوستوي أبدا، وآخر لا يعرف كيف ينثر الحبوب، إلى آخره. لقد كنت أبحث عنه لسنوات، وصدقني، الأمر صعب جد صعب، يجب على الناس أن يمسك كل منهم بيد الآخر، مثل الأعمى والأعرج، فما كان أحدهما ليقدر على التنقل دون الآخر، الأمر مثل ذلك. وهذا يعني أنه إذا جاء الفيضان، فسنموت جميعا معا”.

بعدما انتهى من كلامه، أستدار مختفيا في الشارع. لم أره بعد ذلك أبدا، وما زلت أتساءل ما إذا كان مجنونا، أو ملاكا يتجول عبثا في أنحاء الأرض، بحثا عن نوح ثان.

 

مقالات من نفس القسم