“لا أرى جسدى” .. قصائد تعانق الروح والحرية وتغازل الوجود

لا أرى جسدي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

سعيد نصر
فى رحلة السفر الطويل مع الشعر وقضاياه، غالبا ما يبدأ الشعراء بنظم الشعر العاطفى والوجدانى، وبعد أن تصقلهم تجاربهم ويمرون بمراحل شعرية عديدة، ينتهى بهم المطاف إلى الشعر الفلسفى والواقعى، ولكن عمار على حسن ، يفاجئنا فى تجربته الشعرية الأولى، وهى ديوان “لا أرى جسدى” الذى نظمه فى ميعة الصبا ونقحه فى الفترة الأخيرة، بأنه يبدأ مما ينتهى إليه الآخرون، فالإنسان المتمسك بالقيم العليا والسامية هو محور الكون كله فى شعره، وقصائد الديوان تجمع بين الفلسفى والواقعى، وربما ساعدته قدراته الروائية والسردية على النجاح فى فعل ذلك، خلال أول تجربة .
قصائد الديوان تراوح بين الشعر الحر والنثر، ولكنها تقوم على العبارة الشعرية المقفاة، ويظهر فيها الشاعر مشغولا بالذات والزمان والمكان، ومشغولا بكائنات وأشياء يراها تشعر وتحلم بما يحلم به البشر، ومشغولا أيضا بقضايا كبرى، مثل الحياة والموت والعدم والوجود، والضياع والخلود، والحرية والوطن والظلم والعدل، واليأس والأمل، وذلك من خلال شعر تتوافر فيه جماليات الدهشة والمتعة، الناتجة عن تفاعل الايقاع الداخلى مع الايقاع الخارجى وانسجامها التام مع الصور الجزئية والكلية المعبرة عن الدفقة الشعورية الواحدة فى كل قصيدة.
عنوان الديوان هو عنوان القصيدة الأولى، وهو عنوان يعبر بشكل كبير عن الدفقات الشعرية والتجارب الشعورية فى القصائد، ويعطى انطباعا واضحا عن مضامين وأهداف القصائد التى يحتوى عليها الديوان؟ والعنوان لم يختاره الشاعر، بحسب قراءتى، وفقا للطريقة التقليدية ، ودليلى على ذلك أن دلالته الروحانية والنفسانية تكاد تكون موجودة فى معظم القصائد، وليس فى القصيدة الأولى فقط، فضلا عن غلاف الديوان يعبر عن العنوان ويكاد يتطابق معه.
الديوان يحوي 12 قصيدة، هى (لا أرى جسدى، هى ..هى، ريشة، سنبلة، سمكة، طائرة، محاق، على عتبة المساء، لا، موت المسافة، صرخة، دنياى القديمة)، وتوجد قصيدتان من بين تلك القصائد بنظام المتتاليات، هما قصيدة “هى..هى” ، وتتضمن 6 متتاليات يجمعها رابط واحد هو الحبيبة، وتبدأ بـ” عيناها ،جبينها ،شعرها المنسدل ، كفها، صدرها، جيدها” ، وقصيدة”لا” وتتضمن 4 متتاليات يجمعها ثالوث السجن والسجين والسجان.
السطر الشعرى والعبارات الشعرية والنهايات المقفاة ، أهم ما يميز كل قصائد ديوان “لا أرى جسدى”، وهذه النهايات المقفاة للعبارات الشعرية توجد فى معظم مقاطع القصائد ، وليس فى مقطعى البداية والنهاية فقط، مع التأكيد هنا على أن كل قصيدة تمثل دفقة شعرية واحدة، والأمثلة كثيرة على النهايات المقفاة، ففى قصيدة صرخة، تظهر موسيقى الايقاع الخارجى من خلال نهايات العبارات المقفاة بالتاء المربوطة “المداولة، المحاولة”، والسجع الناجم عن حرف الحاء المسبوق بالياء فى كلمتى “الريح، نستريح” ، وكلاهما يعطيان موسيقى لا تقل جمالا عن موسيقى شعر التفعيلة، حيث يقول الشاعر فى مطلعها:
” صراخنا أكله الريح
عمرنا انقضى في المداولة
لا شيء أتى
وليس أمامنا من سبيل
سوى أن نقول لأنفسنا
كي نستريح
يكفينا شرف المحاولة”.
وما قلناه فى قصيدة صرخة ينطبق على قصائد عديدة أخرى، منها قصيدة “محاق”، وقصيدة “هى..هى”، حيث تظهر النهايات المقفاة وموسيقى الإيقاع الخارجى فى مطلع الأولى، فى كلمات الرفاق ومحاق، وتظهر فى الثانية فى كلمات طليقة ورشيقة، حيث يقول الشاعر في قصيدة محاق واصفا حال القمر:
” رأيته أيها الرفاق
يتبدل في الأفق البعيد
من تربيع إلى محاق”
ويقول الشاعر فى “هى.. هى”، وبالتحديد فى المتتالية الثانية:
“جبينها سماء طليقة
ألملم نجومها في كفيَّ
أرض براح أركض فيها
بخطى رشيقة”.
الشاعر يحسن اختيار الكلمات والألفاظ ذات الدلالات والمعانى المنسجمة مع الدفقات الشعورية فى أشعاره وقصائده، ففى قصيدة دنياى القديمة، يستخدم لغة تشعرك بمصداقية إحساسه بالشعور بالغربة بسبب تغيرات هائلة طرأت على أشياء وأماكن فى قريته أو مدينته، كان يستمتع بها فى شبابه، حيث يقول فى قصيدة دنياى القديمة:
“ومطعم الفلافل الذي كنت أملأ منه بطني
صار محلا لبيع الهواتف
وقفت أمامه حزينًا
فلا الرنين يشبعني
ولا التماع الشاشات الماجنة
يساوي بريق الزيت فوق الأطباق الساخنة”.
وفى قصيدة محاق، يرمز القمر غير المكتمل، بالتلميح لا التصريح، إلى الصورة المثلى للمواطن فى عيون الحاكم المستبد وحاشيته، ويستخدم هنا كلمات وألفاظ وعبارات منسجمة مع بعضها البعض، وترسم صورة معبرة للغاية لإنسان يسحقه الظلم والاستبداد، اللذان ما إن حلا فى بلد حل فيه الظلام والجهل، وهذه الكلمات والعبارات هى: عبد ، نخاسة ، كسيرة ، تزول ، مستباح ، كعبد فى سوق نخاسة، والحد الفاصل بين الظل والحرور، حيث يقول الشاعر:
“كعبد في سوق نخاسة
كمسافة تزول
بين روح كسيرة
وجسد مستباح
كالحد الفاصل
بين الظل والحرور
ككأـس يدور
على شفاه السكارى”.
الشاعر يستخدم لغة السينما وتقنية بصرية مأخوذة من الفن التشكيلى فى رسم صور ومشاهد جزئية وكلية تعزز من طابع الدهشة فى قلب المتلقى، وهو ما يحسب له، على اعتبار أن الدهشة هى المعيار الفاصل فى القصيدة النثرية بين الشعر واللاشعر، وذلك من خلال تأثيرها النفسانى والوجدانى على الايقاع الداخلى للقصائد، ففى قصيدة سمكة يقول الشاعر:
“معذبة في طرف حاد
يأخذها إلى بطن جائعة
حين تطل علي الفراغ
تنطلق الفاجعة
تتلوى كسجين يجرونه إلى المشنقة
والمحرقة
التي تنتظرها فوق موقد معزول”.
الشاعر رسم أيضا فى قصيدة طائرة صورة سينمائية معبرة ومؤثرة فى نفسية المتلقى تربط بين الطائرة والجمل، فى الخوف والقلق والألم والوسيلة والهدف، وتربط بين الفضاء والصحراء فى المشقة والقسوة، وتربط بين السحاب والحصى، وتظهر الطائرة كما لو كانت كائنا حيا مثل الجمل، حيث يقول عنها:
“نقطة ضائعة في الفراغ
تغالب الريح
وسخط الشمس
تزعج الطيور المهاجرة
لكنها تبكي أمام عاصفة غادرة
وزخات مطر السحاب الأسود
ومجنون يشرع السكين في وجه قائدها
وسهم نار أطلق عليها من أدنى الأرض
بحساب أو دون حساب”.
وفى قصيدة محاق يرسم الشاعر صورة شجية وحزينة للإنسان المثقف الذى يكون مغلوبا على أمره فى دولة الظلم ، وهى صورة أشبه بلوحات الفن التشكيلى، وذلك من خلال رمزية القمر غير المكتمل،ف هو ذرة رمل تكنسها الريح فتعلق فى نعال العابرين، خاصة الجبابرة، بالإيحاء والدلالة، فيستخدموها فى غسل ممارساتهم القذرة بتشويه ضحاياهم، حيث يقول الشاعر:
” كذرة رمل
تكنسها الريح من فوق الرابية
فتحني هامتها نحو الهاوية
وحين تدوسها أقدام العابرين
تعلق في ثقوب النعال الثقيلة
كالقتيلة
التي تمنح قاتلها دمها
كي يطلي به الرمل
ويسقي الحصى”.
القارىء للديوان بعين الفحص والمحص، والمتعايش مع مضامين قصائده بالقلب والروح، يجد نفسه حتما متفاعلا بقوة معها، شغوفا لقراءتها أكثر من مرة، فهى قصائد تحمل دلالات محيرة ومربكة للعقل والنفس، وذلك لما تنطوى عليه من غموض فلسفى وروحانى، يثير دهشة القارىء ويجعله يشعر أن المعين الصوفى حاضر بذاته فى الكلمات والألفاظ والعبارات والصور ويوجه المعانى فى الاتجاه الذى يقصده الشاعر، وينطبق ذلك على معظم القصائد، ولكنه ينطبق بشكل أكبر على قصائد (لا أرى جسدى، هى..هى، موت المسافة، على عتبات المساء)، وهذا يجعلنى أقول من باب الاجتهاد فى فهم مدركات النص، أنه نص قابل للتأويل، وهذا أروع ما فيه، فالنص ينطوى على حس صوفى من نوع خاص، فالشاعر فيه يخاطب الوجود الإنسانى، ويبدو متأثرا ببعض شعراء الصوفية، وأرى أنه متأثر فى قصيدة محاق بفكرة مقتل القمر للشاعر الراحل أمل دنقل ومتعايشا مع شعراء جيله، من مدرسة الشعر النثرى، خاصة رفعت سلام، حيث النهايات المقفاة فى العبارة الشعرية، وشعرية الصورة وشعرية التأمل وشعرية التأويل، وكلها موجودة بوضوح أكثر فى قصيدة “لا أرى جسدى” .
تلك النزعة الصوفية السابق الإشارة إليها، تتجسد بشكل كامل فى قصيدة” لا أرى جسدى، وهى القصيدة الأطول والأهم فى الديوان، وتتكون من تسع مقطوعات شعرية، تنطوى كل واحدة منها، وفقا لرؤيتى لها، على دفقة شعورية صوفية، وصورة متكاملة لمرحلة من مراحل حياة الزاهد، ويبدأ كل منها بداية صوفية وينهيها نهاية صوفية، وأجمل ما فى النهايات أنها بائية مقفاة ولها إيقاع صوتى جميل، ففى الأولى يبدأ بـ “روحى فى قاع المجرة .. أخلع لذتى” ، وينهيها بـ” لأعرفَ مَنْ أتى حزيناً.. ومَنْ بالفرحِ قد ذَهبْ.” وفى الثانية يبدأ بـ “أسأل روحى محدقا فى عزلتى” وينهيها بـ ” خُطوتي دهرٌ.. ووحدَتِي زِحامْ.. لأ أعرفُ فيه مَنْ أقامْ ..ولا مَنْ هَرَبْ.”، وفى الثالثة يبدأ بـ “أستعير جنونى .. واقفا أمامه .. كخيط دخان”، وينهيه بـ ” فلا أعرف مَنْ أَعطَى.. ومَنْ عزَّ عليه الطَلبْ.”، وتبدأ المقطوعة الرابعة بـ ” أنادي غُربَتي كيْ أُجالِسَها.. تتهادَى حزينةً كالشفقْ”، وينهيها بـ” وبعد رحيلِها .. لا أعرفُ من اقتربْ.. ولا من اغتربْ”، وفى الخامسة يبدأ بـ” أنادي توبتي كي أعانقَها.. فتَهبُني غفراناً أبيضَ”، وينهيها بـ ” وتسرِقُ منِّي ماءَ الحياةِ.. فلا أعرف إن كان قد تبخَّر.. أو أنَّه غارَ وَنَضبْ”، ويبدأ السادسة بـ”أنُادي شيخي الذي تَركَني في وحْدَتي.. يعودُ من موتِه جليلاً في الكَفنْ.. وفي كفِّه سُّر الخلودْ.. وحفنةُ ترابٍ من جَنَّة عَدَنْ”، وينهيها بـ ” ورَاحَ وغَابَ وجاءَ الخواءْ.. فلم أعُدْ أدركُ مَنْ زهد.. ولا مَنْ رَغِبْ”، ويبدأ المقطوعة السابعة بـ” ناديتُ كَأْسِي فجاءت مملوءةً بالفراغْ.. تركتُ لذَتها على قارعةِ الطريقْ”، وينهيها بـ” فلا ذهَابَ ولا رُجُوعْ.. ولا وُقُوفَ ولا رُكُوعْ.. فلا أعرفُ مَنْ قتله الظَمَأْ.. ومَنْ ذَاقَ وشَرِبْ” ، ويبدأ الثامنة بـ” ناديتُ الحبيبَةَ ونظرتُ مليّاً في عَينيها”، وينهيها بـ” فلم أعُدْ أدري مَنْ فارقَ.. ومَنْ عَانَقَ خلَّه واصطحبْ”, وفى المقطوعة التاسعة يبدأ بـ” ناديتُ دربَي فلبَّى ثَقيلاً.. يأكلُ خُطاهْ”، وينهيها بـ” وستظلُّ هكذا لا تعرفُ ما يجبُ اجتنابُه.. ولا ما عليك قد فُرِضَ وَوَجَبْ.”
قصائد الديوان تشتمل على ثلاثيات شاعرية جميلة، منها ثلاثية الروح والنفس والوجدان، وفيها لا يرى الشاعر جسده، وهذه هى الدرجة القصوى فى سلم قيمة إنكار الذات فى سبيل المصلحة العليا للمجتمع وإحلال الخير محل الشر والسعادة محل الشقاء ، ومنها ثلاثية الوجود والعدم والضياع ، وتظهر هذه الثلاثية فى قصائد عديدة، منها قصيدة “موت المسافة” ، ويقول فى مطلعها:
“ماتت المسافة
انقطع السبيل
واستيقظت الأماني الزائفة
صرت معلقا في الهواء
فراغ تيه خواء
لا عودة .. لا رحيل”.
والشاعر يعزف فى ثلاثية الوجود والعدم والضياع على وتر الأسطورة الإغريقية سيزيف ودلالة التعذيب بالعمل فى أشياء تافهة لاقيمة لها، وكأنه يريد أن يقول أن محاولات التغيير فى عالمنا ، ماهى إلا جولات تعذيبية يتسلى بها الحاكم وحاشيته، وكأن هذه الصورة تحاكي مقولة مبارك فى يوم ما :”خليهم يتسلوا”، وهى أمور لم يصرح بها الشاعر، ولكن دلالة التأويل المبنى على النظرية السيامية فى النقد الشعرى تشى بها، حيث يقول فى قصيدة صرخة:
“أيتها المحاولة المراوغة البغيضة
الآن أخبرك بأني أكرهك
وآن لك أن ترحلي
فقد مللت الهبوط والصعود
سيزيف مات
والحجر صار أثقل
في رحلة القيام والقعود”.
والشاعر ينتصر فى ثلاثية الوطن والغربة والحرية، لقيمة الحرية من خلال الرفض الهامس والثورة الخفية على الظلم والسجان، وليس بالحماسة والخطابة الشعرية، ويظهر ذلك بوضوح، على سبيل المثال لا الحصر، فى قصيدة “لا” ، وبالتحديد فى المتتالية الرابعة التى تنتهى بنفس كلمة العنوان “لا” ، ومن خلال الرفض والسخرية للنتائج الشكلية للعولمة على حساب القيم الأصيلة للمجتمع المصرى، ويظهر ذلك بوضوح فى قصيدة دنياى القديمة، والتى ينهيها بعبارات شعرية مؤثرة للغاية يقول فيها:
“والمقهى الذي طالما تسرب حزني
على مقعد جانبي فيه
أغلقوه
باعوا واجهته ومقاعده
والنصبة الساخنة
والنادل فارع الطول
والأكواب الفارغة
ومراوح السقف القديمة
وطاولات النرد والدومينو
وأيد اللاعبين البارعة
وكل ما كنت أحسبه الوطن.”
ويتجلى الرفض فى بعض قصائد ديوان “لا أرى جسدى” من خلال تعاطف الشاعر مع ذرة رمل تتألم تحت نعال العابرين، ومع سمكة لا يشعر من اصطادها ولا من يضعها فى الزيت ولا من يتلمظ ليأكلها بالمأساة التى لحقت بها، ويستخدم الشاعر هنا لغة شجية وصور حزينة ترسم بكائية على لوحة تشكيلية بديعة تظهر فيها السمكة كطفلة افتقدت حريتها وضاع حلمها، بعد أن كانت تحلم بأن تلعب وقتا أكثر فى كونها الفسيح، وتتبدى الرمزية الشعرية هنا في إسقاط القصيدة على أى إنسان فى أى مكان وأى زمان يتعرض للظلم ويفقد حريته على أيدى حكام لا يشعرون بقيمته الإنسانية، كما أنها رمزية لجدلية الخبز مقابل الحرية، حيث يرفض الشاعر تلك المعادلة من خلال صورة شعرية يختلط فيها الواقعى بالفلسفى والدنيوى بالصوفى الروحانى حيث يقول فى القصيدة:
” لكنها تحاذر
من ذلك الطعم الخفي
الذي يقول لها دون مواربة:
موتك في بطنك
ولتعلمي أن الاشتهاء
يفضي إلى الفناء
وما نشدو به
ونحن على حافة الهلاك
أصدق الغناء.”
وفى قصيدة “لا” يعزف الشاعر على وتر ثلاثية الرفض والعدل والسماء، وينتصر بشدة لمبدأ المعارضة للظلم والظالمين، من خلال صورة متكاملة تضمنتها المتتالية الرابعة فى القصيدة، ونصها:
“الذين أتوا بالأمس
تجالسوا عند المساء
في غفلة من سجانهم
تساءلوا عن الرفض
وعدل السماء
ولما طال بينهم الجدل
اقترب منهم الذين أكلت الزنازين جرأتهم
وشيئًا فشيئًا ذهب الوجل
فوقفوا جميعًا عند الباب الثقيل
وانفجر العويل
همس وصراخ وبكاء
تجمع في قلب الساحة
التي طالما انحنت فيها الظهور
انداح على الأرض القاحلة
وأوقات الفزع الذابلة
رسم كلمة واحدة من حرفين
حرفان تمددا على اتساع الخلاء
كانا لاء.”
ورغم أن الشاعر كتب قصائد ديوان “لا أرى جسدى”، منذ نحو ربع قرن من الزمان، إلا أن جدلية الرفض فى بعض قصائده تبدو كما لو كانت تواكب وتشاكس التطورات المستجدة على الساحة السياسية فى المنطقة العربية، أو ربما لأن مشكلاتنا راكدة منذ زمن، فهو يرفض فيها مبادىء معطلة للحرية والديمقراطية كالصفقات الهادفة لمصالح ذاتية على حساب المجتمع، ويرفض العمل السياسى بنظام التجارة والمقاولات، ويطوى كعادته اليأس تحت قدميه وينتصر للأمل، حيث يقول فى قصيدة صرخة :
“ويصل ذلك الهتاف الذي كان يهتف:
أخرجوني من حساباتكم
أنا خارج هذه المقاولة
وحين يصير صوتي جهورا قهورا
لا يكف عن الصياح
حتى يزيج النور الظلام
ويقتل النصر الهزيمة
سأطلق أحلامي
وأُعلن استئناف المزاولة.”
قصائد الديوان حافلة بالصور البلاغية و الشعرية والمعانى، ويظهر فيها الشاعر متمكنا من أدواته، ففى المتتالية الثالثة من قصيدة”لا”، يصف مياه حنفية دورة مياه السجن بالدموع الحبيسة ، التى تقتلها أيادى السجناء من لهفتهم الشديدة عليها، حيث يقول:
“حين تُفتح الأبواب الخفيضة عند الصباح
ترى كل عين في أختها انكسارًا
وحين يصطف طابور طويل
أمام الكنيف
وتمتد الأيدي لتقتل دمعًا حبيسًا
لا يكفي لمحو العرق والغائط
وغبار الخريف
وعبث الرياح”.
وفى قصيدة “هى.. هى” ، وبالتحديد فى المتتالية الأولى يرسم الشاعر صورة حركية عميقة الدلالة والمعنى لشمس الأصيل، تعبر عن حالة حزن دفين، وتنطوى على صراع نفسى رهيب يعكس القلق الشديد من المستقبل المتمثل فى الغد، خاصة أن الحلم العنود فيها يصبح على مشارف الموت ومهددا به، حيث يقول الشاعر:
” وحين تحاذر شمس الأصيل
تاركة أشرعة الليل تبحر
صوب الرحيل
وعند التقاء الأزرق الكيئب
بالأسود الرهيب
تقع الواقعة
وبين السنان ونار البارود
تتراءى أضرحة الحلم العنود”,
وقد استخدم الشاعر فى تلك الصورة تعبيرات تنسجم مع الدفقة الشعورية، فالأزرق الكئيب يعبر عن الكسل والخمول، والأسود الرهيب يعبر عن الشدائد والمصائب، وعندما يلتقى الاثنان فى نقطة واحدة، تقع الحرب بين البشر، وكأن ذلك يمثل قانونا إنسانيا حتميا، منذ الحرب بالسنان، أى بنصل الرمح والسيف، وحتى الحرب بنار البارود، أى بالبندقية والصاروخ والقنبلة، وفى كلها تتراءى أضرحة الحلم العنود، وهى صورة لها دلالة متماشية مع الطابع الصوفى والروحانى للقصائد، فالأضرحة لفظ يخص فى الأساس أولياء الله الصالحين.
كلمة أخيرة، أقولها فى هذا المقام، وهى أن سياحتى فى قصائد الديوان وجمالياتها وأفكارها وصورها والتجارب الشعورية الخاصة بها، قد أوضحت لى أنها قصائد متنوعة مؤثرة بشدة فى نفسية المتلقى، وتمثل قيمة مضافة فى المشهد الشعرى النثرى، وقد تأكد لى هذا، من خلال شاهد مهم للغاية، وهو أن عنصر الدهشة الشعرية فيها استفزنى ودفعنى لقراءتها مرات عديدة، وربما يكون قد شجعنى على ذلك قصر الديوان، فهو لا يزيد عن 3300 كلمة، فضلا عن أفكار القصائد وأساليبها البلاغية تجعل أى ناقد لها قادرا على وضع يده بسهولة على المميزات السبع فى هذا النص الشعرى النثرى المتميز.

مقالات من نفس القسم