“لأن الأشياء تحدث”.. رواية “حاتم حافظ” .. الألم يُعيد للبطل المهزوم إنسانيته

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

أمـل الجمل *

رواية "حاتم حافظ" "لأن الأشياء تحدث" تنهض على موقف صغير تتولد منه حكايات وصور وأفكار مدهشة وبليغة. شاب تُباغته زوجته ذات يوم برغبة تجرح سكون الصمت الأحمق الذي كان يلف أرواحهما. كانا معتقلين في واحدة من تلك الإشارات المرورية اللعينة في مدينة "القاهرة". فجأة تقول له بهدوء وإصرار "طلقني يا حسام.."

يعترف "حسام" أنهما طوال سنوات زواجهما ظلا يُمثلان أنهما زوج وزوجة، فهو لم يحبها أكثر مما أحب اسمها، وهى لم تعرف أبداً أنه مُطوَّق بإحساس التعاسة والفشل كفأر في مصيدة. رغم ذلك يندهش ولايعرف سبباً للطلاق؟ ثم لماذا قاطعت المأذون "برقة شديدة مصحوبة بابتسامة رائعة" قائلة: "الطلاق أفضل لكلينا؟"

فجأة، بين ليلة وضحاها، وبعد ثلاث سنوات من الزواج والحياة المشتركة، أمضياها سوياً بحلوها ومرها، يجد “حسام” نفسه مُطلَّقاً وحيداً في مواجهة شكوكه وأسئلته المُعلقة: كيف يتبدل البشر بهذه السرعة؟ هل يتبدل الناس ويفقدون مشاعرهم فجأة لمجرد أن خطوط علاقتهم قد تبدلت أو تقاطعت؟ هل يكرهون بعضهم لمجرد أنهم لم يعودوا أزواجاً؟

 بكبرياء جريح، مشوب بالعدوانية والتهكم أحياناً، يحاول “حسام” لملمة شتات نفسه، خصوصاً في ظل تقوقعه وإنعزاله عن العالم، محاولا الفِكاك من مأزقه الوجودي، فالحياة بعبثها تجثم فوق أنفاسه. يظل مُطارداً بأفكاره وهواجسه الوجودية، مرتعباً من فكرة الخروج من بيته مما يُحلينا إلى بطل “الحمامة” للألماني “باتريك زوسكيند”.

عقب الطلاق ينفي “حسام” إضطرابه وتوتره أو حتى تورطه في فخ الفقد. يُؤكد أنه بحالة جيدة. تصرفاته تُؤكد العكس. يرغب في الحكي عن أزمته مع “سهام” طليقته. يهتدي إلى كتابة رسائل إلكترونية إلى شخص مجهول كان قد تعرف عليه منذ عام في إحدى غرف الدردشة على الإنترنت وظل يُحدثه عن علاقته الزوجية التي ملَّها تماماً. لكنه لا يعرف على وجه الدقة إن كان هذا الشخص لايزال على قيد الحياة وبالتالي سيقرأ رسائله الجديدة أم أنه نفذ وعده بالانتحار؟ لا يدري أيضاً هل كان رجلاً أم امرأة تخفت بهيئة رجل لتعرف فيما يفكر الرجال وكيف يُفكرون؟ كما أن هواجس الشك تُحاصره بين حين وآخر خوفاً من أن يكون هذا الشخص هو نفسه “سهام” زوجته، إذ من المحتمل أنها حاولت استنطاق صمته ومعرفة حقيقة مشاعره؟ ولاندري نحن القراء حقيقة هوية المُرسل إليه فربما كان هو نفسه “حسام” الذي أدرك أن فعل الكتابة سيُخلصه من آلام محنته.

الرسائل أشبه بقصص قصيرة مكثفة تستكمل بعضها بعضاً، لتتسع وتتغير، صعوداً وهبوطاً وتُوظف داخل رؤية فلسفية تتطور وتتعقد وتنحرف بالوعي نحو افتتان بشخصية الزوجة. رسائل غنية بالإيحاءات والتداعيات والأوهام الجذابة، تتأمل الحياة ونفوس البشر. رسائل اختيرت كلماتها بدقة وعناية وأناقة، وكُتبت بأسلوب أدبي جميل. حكايتها خالية من الأحداث والحبكة، فهى لا تعتمد على أسلوب السرد التقليدي لكنها تنبض بالحياة ويملؤها الصدق.

 طوال 32 رسالة موزعة على 140 صفحة يُواصل “حسام” رسم عالمه الزاخر بالحيرة والقلق والحزن، ينزع الحجاب عن تلك العلاقة التي طالما بدت للآخرين جميلة براقة ومثالية لكنها على أرض الواقع وفي الحقيقة كانت مفعمة بالمرارة يكتنفها الزيف والمنغصات والمخاوف.

 الإنقلاب المفاجيء في حياة “حسام” يجعله يحكي عن أخطائه وعالمه ببساطة وعمق، بسخرية ضاحكة أحياناً، ومؤلمة أحياناً آخرى. يتعرى بكامل إرادته. يلج بنا بشكل أساسي في العوالم النفسية المتناقضة لشخصيته، بأكثر تفاصيلها دقة لنُدرك كم هو إنسان بريء يملؤه الشجن. لا، ليس بريء تماماً. شخصيته مزيج من الأشياء، من الجبن والتهور، من القسوة والرقة، من القوة والضعف. أو بالأحرى مثل “تفاحة نصفها معطوب، ونصفها الآخر غض،” وهكذا أيضاً كانت علاقته بزوجته وأبيه، وبالعالم أجمع من حوله.  

على مدار أشهر ثلاثة، هى زمن الرواية، ظل “حسام” يدور حول نفسه. كأنه يبحث في حياة رجل آخر. يكتب، يُحلل ذاته وأسباب أزمته. لايُواري حقده ونقمته المتزايدة على وضعه المالي والإجتماعي والمهني. لايرى فارقاً جوهرياً بين حياته في ظل الرئيس الحكيم وبين حياة والده تحت حكم الرئيس المؤمن. الفارق الحقيقي يتجلى في عهد “الزعيم الخالد”. لا يكف عن مقارنة نفسه بالآخرين، بزوج “ابتسام” الغائب في بلاد النفط، بالخادمات اللائي تكسبن أفضل منه، بـ”عز” الزبال الذي يحصد آلاف الجنيهات شهرياً، بزوجته التي صار راتبها أضعاف مرتبه. لايمنعه ذلك من استعادة لحظات حميمة عاشها مع “سهام” كانت بقدر ما تُخفف شيئا من وطأة احساسه بالاكتئاب والوحشة تشعره بالحزن والفقدان، وفي نفس الوقت تُلقي دفقة ضوء على اضطراب علاقاته بأبيه الذي فقد اتصاله بالعالم رويداً رويداً بغياب شريكة حياته وفقدان حاسة السمع في إشارة رمزية بالغة الدلالة والمغزى تُقارن ولو بشكل موارب بين مصير الابن وأبيه.

على الرغم أن الأحداث تُسرد من وجهة نظر الزوج فقط، عبر مونولوج أُحادي، لكنها تكشف عن توتر شخصيته المُروَّعة بين ماضيها وحاضرها ومستقبلها، بين تصوره عن زوجته وبين صورتها الآخرى المُنسلة عبر التفاصيل، والمُناقضة لشخصيته تماماً. فـ”سهام” كانت قادرة على رؤية العالم واكتشافه وتقييمه وفق صوتها الداخلي. كانت تمتلك إحساساً يجعلها دائماً على خط تماس إنساني عميق مع البشر من حولها، قادرة على فهم تصرفاتهم، وسبر أغوارهم، والتعاطف معهم، مع “عز” الزبال”، مع أحقاد “وجيدة” زوجة صديقه “وليد”، مع شجون والده عندما توفت زوجته فأقام مزاداً لبيع أثاث البيت، وفي أقسى لحظات مرضه.

يبقى مركز البوح في الرواية منصباً على تلك العلاقة الزوجية، على تساؤل جوهري يُؤرق البطل. لماذا لم ينجح زواجه؟ ألأنه لم يُدرك أن الحب تضحية؟ هل كان عليه أن يفهم زوجته أكثر من ذلك؟ لماذا بقي طوال زواجهما لا يعرف عنها أكثر مما عرفه أثناء فترة الخطوبة؟ لو خطى نحوها عدة خطوات هل كانت حياته تبدلت وأنقذ حبهما الذي انطفأ. هل كان الجنس سبباً في فشل زواجهما؟ فرغباتهما لم تكن عنيفة. هل كانت زوجته تشعر بالرضا والإشباع؟ ألم يعترف أن “علاقتهما كان ينقصها سر المتعة الحقيقية؟ أنهما كانا في حاجة إلى لمسة جنون. كان الخجل ينام معهما في الفراش. علاقتهما كانت متحفظة ومحترمة أكثر من اللازم.” لماذا لم يُحاولا الإفلات من قبضة مجتمع مريض بالإزدواجية، مجتمع قام بتأثيم المتعة، كأن السعادة خطيئة.

 لماذا ترك “حسام” الأشياء تحدث حتى بات هو نفسه ميتاً أو بالأحرى على حافة الحياة والموت. “هل تحدث الأشياء لأنها تحدث، أم تحدث طالما سمحنا لها أن تحدث؟ طالما لم نخطو خطوة واحدة لمنعها من الحدوث؟ طالما تركناها تحدث كيفما اتفق، لا كيفما نُريد لها أن تكون.”

مع اقتراب النهاية وعبر تراكم ردود الفعل العفوية نستشعر حب “حسام” لزوجته حتى وإن لم تعد إليه، فالألم أعاد إليه إنسانيته، ارتقي بمشاعره، جعله يستعيد قدرته على الرؤية. انفصال “سهام” عنه أعاد إليه اتصاله بالعالم من جديد. غيابها أكد الحضور. وهى أشياء لم تكن تتحقق لو كان “حسام” شخصاً متسلطاً جباراً مهووساً برغبة التملك والاستحواذ. ربما لذلك أيضاً عندما نُغلق الرواية نُدرك مغزى جملته “أن شيئاً كان مفقوداً في طريقه للحضور”، كما ندرك مغزى كلمات “سهام”: “الطلاق أفضل لكلينا.”

 “لأن الأشياء تحدث” هى أولى روايات “حاتم حافظ”. تمكن فيها وبصفحات قليلة من صنع حكاية فريدة، مُوحية، ومكتملة التأثير يصعب نسيانها. كان طوالها يعمل بخياله الروائي على توليد الأفكار بمهارة ودقة، على رسم مواقف درامية نفسية مؤثرة، على التقاط تفاصيل إنسانية تنتصر للمرأة، وعلى طرح أفكار فلسفية بسيطة رغم عمقها. أقام بينها وشائج قوية متبادلة، نسجها ببراعة صانعاً منها بناءاً محكماً مشدود الإيقاع. ليُؤكد أنه فنان حساس له بصمته وصوته الروائي شديد الخصوصية.

ـــــــــــــــــــــــــــــــ

*ناقدة مصرية

 

خاص الكتابة

 

مقالات من نفس القسم