كي لا تجرحني مرارة الخذلان

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 10
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

آلاء فودة

في المنتصف كانت رغبةً في الهروب، الهروب اللانهائي من الأسماء والصفات والطرق والمجازات، هروب يقتضي أن نضع الكلمات بجوار بعضها لنصنع يوتوبيا جديدة نلوذ بها كلما اختنق هواؤنا بالخيبات.

الشعر الذي أُلقي في طريقي في سن المراهقة كان أضعف الإيمان، صرخة لطالما ابتلعتها كي لا تجرحني مرارة الخذلان، كي لا أفقد الخيط الرفيع الذي أتشبث به لأنجو، الخيط الذي أُعلق عليه أشخاصي وأشباهي وذكرياتي، الخيط الذي أفقد عند مبتدئه كل طاقات الحنين والذي دائمًا وأبداً يعادلني من كل شحناتي حين أصل لنهايته.

تطور الشعر بالنسبة لي من مجرد إطار لغوي تحكمه قواعده الخاصة نستطيع من داخله أن نحشو العاطفة والخيال ونستدعي الحياة بكل قيودها، إلي المدي المفتوح الذي تستدعيه الحياة لتثبت هويتها، الهوية المضطربة بكل سذاجتها وعمقها لنصل في الأخير لذواتٍ صفرية لا تحملُ ولا يُحمل عليها.

دائما ما يُقال أن الشاعر يُولد شاعرًا، ولطالما أربكتني هذه الجملة، كيف نُولد شعراء كيف نستطيع أن نتحسس خلايا الشعر بأجسادنا كيف وكيف وكيف، ولكنني مع الوقت استطعت أن أفهم المدلول الحسي وراء تلك الجملة وربما حاولت تعديلها لجملة »الشاعر يري ما لا يراه الآخرون» عين الشاعر تستطيع أن تلتقط أي مشهد شعري من صورة عادية يتناوب عليها العالم ولا يلتفت لها، الشاعر يستطيع أن يري الدم علي الطرقات فيجعل منه إشارات مرور لفاقدي السمع والنطق، الشاعر فقط يشعر بوحدة إطارٍ فارغٍ معلق علي الحائط ويشرع بملء فراغ أركانه، الشاعر وحده يسمع أنين علبة دواء انتهت مدة صلاحيتها دون أن تلامس شفة مريض، الشاعر يستطيع أن يبني علي الخلق خلقًا جديدًا لينزوي بداخله.

تغيرت أدوات الشاعر وخطوطه في الآونة الأخيرة، ويكمن هذا التطور وربما النضج في التخلي عن الصورة البطولية الحالمة العنترية المنزهة عن الخطأ التي دائما ما تحصر الإنسان في إطار مثالي له قيوده وخطواته المرسومة له مسبقًا، استبدل الشاعر هذا البطل المغوار بموظف الحكومة البسيط الذي يتقاطع مع العالم ويشتبك مع فلسفاته اليومية البسيطة، ترك الشعر الصورة الرئيسية وبدأ يصنع قصيدته من تلك الشخبطات العبثية خارج البورتريه، انسلخت القصيدة من صوت الجماعة وصارت تتبع نشازًا هاربًا من المتن، اشتبكنا أكثر مع التفاصيل وأعطينا للهوامش بطولةً نادرة.

وأخيرا استطاعت الكتابة النسائية الانسلاخ من القالب الجندري الذي كان يبدأ وينتهي عند الرجل وكل ما تحمله هذه العلاقة، وانطلقت قصيدة المرأة لتتماس مع الحياة بكل أطيافها بل وأضافت لها أبعادًا متنوعة فيما يخص بالكتابة عن تجربة الأمومة والحياة المنزلية اليومية واشتباكهما مع فلسفات تخصها وحدها.

لا يجدر بالشعر أن يكون هاديًا للأمم ولا واعظًا للشعوب ولا محمسًا للجنود ليس هذا دوره الرئيسي، ربما ينطوي علي ذلك، ربما هذا ماءٌ من فيضانه، ولكن ليس حريٌ بالشعر أن يكون عاملًا مساعدًا في تفاعلٍ ما، الشعرُ هو التفاعل نفسه، هو تلك الشرارة التي تثب من اصطكاك حجرين معاً/ تلك الحرارة التي تسري بين جسدين في لحظة عناق/ الكلمة الأولي من طفلك/ النظرة المثقوبة وأنت تلوح لأحدهم في مشهد الوداع.

تطور معي الشعر ونضجت داخله وربما استشفيت به، نعم هذه هي المرحلة الآنية التي أعيشها مع الشعر بعد مرورٍ بطور الهروب لطور الونس ومرورا بأطوار الصنعة الآن أعيش داخل منحة الشفاء التي تقدمها لي القصيدة، صار الشعر بالنسبة لي نوعًا من العلاج بالفنون (art therapy) الذي أنطلق داخله بكل ذنوبي وخيباتي وضعفي وأخرج منه مادةً خام تستطيع التشكل في تروس العائلة و المجتمع والطرق اللانهائية التي صنعتها خطواتنا.

مقالات من نفس القسم