كوليرا

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

فصل من رواية : محمد العشري *

شب الولدان ـ سعيد وإبراهيم ـ ارتفعا عن الأرض قليلا بين أذرع أبويهما, في تلك السنة كان وباء الكوليرا قد انتشر في القطر المصري كله.. سن منجله وقطف رقاب الفلاحين..

كان يسري في القري كقطار هارب, يحصد أرواح الآلاف من الرجال, والنساء, والأولاد, والبنات, والشيوخ, والعجائز.

ما الذي أصاب القرية فجأة؟

لا أحد يستطيع أن يوقف زحف الموت, كأن الملك قد نفخه في السحب المعبأة بالأسود, فصارت تقبض روح كل من تمر من فوقه, دون أن تفرق بين أحد.

امتلأت أكوام الجير الحي بالأجساد الميتة, انتشرت سحب الدخان الذي يتصاعد من تلك الأكوام, بيوت القرية وشوارعها, ضجت بالحزن والخوف, تسلل الرعب إلي الناس, الكل يخطو الخطوة بحذر, يقف بعدها لفترة يتحسس الرهبة تحت قدميه.

***

في تلك الأثناء وقفت تماضر أمام بيتها, تتطلع هنا وهناك, تبحث عن زوجها وابنيها, حين رأتهم قادمين من ناحية البحيرة, أغلقت باب البيت, هرولت تجاههم وهي تحمل مؤونة علي ظهرها.

وصلت إليهم, والخوف, والجزع, والدموع, والصراخ, والألم, والنحيب, كل ذلك يصاحبها, يلون وجهها, احتضنت ولديها, قالت:

ــ سوف نذهب إلي تانيس, إلي أن يرحل ذلك الوباء عن قريتنا.

ــ ولماذا نذهب بعيدا؟, الموت آت في أي مكان.. وقد مر أسبوعان والحمد لله مازلنا أحياء.

ــ دخل الوباء إلي بيت أبي.. ماتت أمي.. لن أنتظر حتي يأخذ الموت مني ولدي.

ــ متي حدث ذلك؟

ــ منذ ساعة تقريبا.

ووجهه ممتلئ بالأسي. قال:

ــ لله الملك من قبل ومن بعد.

ــ هيا أسرع واسبقنا, جهز لنا المركب, لنذهب إلي البحيرة ونحتمي بها.

***

هرول وسبقهم, أعد المركب, أنزلهم به بسرعة, انطلق هاربا من كائنات الكوليرا المرعبة.. بدا في ضربه ماء البحيرة كمن يضرب شيئا كريها بغل, كأنه يري ذلك الفيروس اللعين, الذي قضي علي نصف أهل القرية في أسبوعين فقط.. وتماضر تحتضن ولديها, تئن أنينا مكتوما, مع ضربة كل مجداف, تزأر وتخيف الكوليرا.. شعرت في لحظة أنها تراها وجها لوجه, فملأت يديها من الماء وقذفته, فبلل الرذاذ وجه زوجها الذي بصق بقوة.. فتخاذلت الكوليرا.. وهدأ الخوف حين وصلوا إلي تانيس.

***

بعيدا عن القرية, نسوا ما هربوا منه لفترة, لولا ذلك الدخان الكثيف, المتصاعد من مرجل الموت العملاق, يلفت انتباههم وهو يلف القرية بوشاح أسود, يملأ العيون, يلونها بالرعب الذي ظل ملازما للناجين من الموت في مسيرة حياتهم, التي هربوا بها من ذلك الفيروس المرعب.

***

ثعابين خرافية تدلت من جحيم الكون, فتحت أفواهها, بخت الرعب في قلوب البشر, الواقفين في حالة عجز تام, حيال ما حدث لهم.. راقدين استسلاما, أمام رحمة الإله..

أبرقت السماء وأرعدت, امتلأت الدنيا بأصوات الفزع, بعد ذلك أسالت السحب الماء علي الناس, أمطرت أياما متواصلة بدون انقطاع.

جرف المطر الكوليرا, أنزلها في أسفل سافلين.. خرجت الشمس قوية, استردت الناس عافيتها, تحت أشعتها الدافئة, أجلت بطونهم وطهرتهم.. بمرور الوقت منحتهم القوة والحياة من جديد..

والأطفال في الشوارع يغنون ويرقصون:

طلعت الشمس والنور في عينيها..

هات لنا هدية..

هلت الشمس وفتحت لنا عينيها..

هات لنا هدية..

***

اكتست الحقول بثوب أبيض ناصع, والفلاحون يخرجون في الصباح الباكر, خلفهم أولادهم وزوجاتهم.. يصطفون في صفوف عريضة, يبدأون في جني القطن, والأغنيات تتردد من أرض لأرض, تخرج من أفواههم منتظمة, تنتقل من أذن لأذن.. في فترات متباعدة, ينادون علي الماء, فتستعد البنات اللاتي يملأن الجرار بالماء العذب, يتمخطون بطول الصفوف, يروين العطشي, يتبادلن الضحكات مع جناة القطن, فيزلن بمرحهن تعب العمل, يلطفن بحضورهن حرارة الشمس, يجلسن بعد ذلك, ليجففن ملابسهن الزاهية, التي ابتلت بالماء.

في الظهر, يجلس الجميع في مجموعات صغيرة, يتناولون الطعام, يضجعون علي جوانبهم وظهورهم لفترة.. بعدها يبدأون في العمل من جديد, وغناؤهم يدفعهم ويحفزهم أكثر, علي إنهاء موسم الجني بأقصي سرعة, ففي نهاية الموسم سوف يحصلون علي المال اللازم لمعيشتهم, لزواج الأبناء والبنات, وسوف تتم المشاريع المشتركة التي رتبوا لها في موسم الزراعة والإعداد لجني القطن.

***

حياتهم تمر في سلاسة ويسر, رغم قلة العائد, لكنهم كانوا يقهرون ما يعوقهم عن الحياة, بعشقهم لعملهم وأرضهم, رغم أنهم من صغار ملاك الأراضي, حصلوا عليها من الاصلاح الزراعي, الذي حولهم من فلاحين أجراء إلي ملاك..

ذلك العشق للعمل تشربوه منذ ولدوا, جعل الواحد منهم يقضي أطول وقت ممكن في عمله وأرضه وهو سعيد مبتهج, بالمرور فيها والجلوس علي ترابها, والدوران حول جسورها وحدودها..

بلبول وسعيد يغنيان وهما يحرثان أرضها, يرويانها ليلا, يجنيان محاصيلها, في أوقات لا تصلح أبدا للخروج من البيت.. كانهمار المطر فجأة أو هبوب الريح والعواصف أو ظلام الليل, الذي لا وجه له أو من تلك الأمور مجتمعة حين يسوء الطقس, يقذف بها دفعة واحدة في وجوه الفلاحين.

***

وقف بلبول في تانيس, راح ينظر إلي حوائطه سقفه, ممراته, وهو في نشوة, وضع أصابعه ببطء علي الجدار, مرر بصماته علي النقوش والرسومات.. بدا كمن يلمس ذهبا.. التمعت عيناه.. قال لزوجته بصوت خفيض, مقتربا منها:

ــ هذا ما خلفه الأجداد لنا..

وتساءل بأسي:

ــ فماذا سنترك لأولادنا؟

ــ ربنا يحفظك لنا, ويطيل في عمرك.

داعب صغيريه, أخذهما في صدره, أمسك أيديهما, قربهما من الحوائط, علمهما أن يتعاملا معها مثلما يفعل.. تردد في ذهنه سؤال ألح عليه:

ــ إلي متي تظل الذكري هي كل إنجازنا؟

قال لزوجته:

ــ أود أن أعلم الولدين النحت, كي يصنعا لنا مثل هذا.

ضحكت ضحكة عالية, قالت:

ــ اتركهما يتعلمان الزراعة ليساعداك في عملك.

قال:

ــ لا..

تعرفين أنني أتمني من كل قلبي أن يتعلما, لن أبخل عليهما بشئ.

أضاف:

ــ أود أن يصبحا موضوع فخر لنا, يعليا من شأننا في الحياة والممات.

أشار بيده وعينيه, وقال:

ــ مثل هذا البيت تماما.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــ

*فصل من رواية بعنوان ” تانيس ..رائحة منسية “تصدر قريبا

*روائي مصري

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون