كرسيان متقابلان لعلاء خالد.. شعرية البحث عن الآخر

كرسيان متقابلان لعلاء خالد.. شعرية البحث عن الآخر
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

إبراهيم فرغلي

في كرسيين متقابلين يعود الشاعر علاء خالد إلى ركنه الشعري الحميم اثر غياب لحساب النثر، بعدما اجتذبه إليه إغواء العلاقة مع الآخر وتأمله مليا في مساحات واسعة من الجغرافيا، مدفوعا بتجربة اكتشاف البشر المهمشين، سكان الأطراف البعيدين عن المركز كموضوعات لمجلته المميزة "أمكنة".

العودة إلى الشعر هي إذاً بديوان رابع كانت سبقته ثلاثة كتب لافتة: “الجسد عالق بمشيئة الحبر” 1990، “وتهب طقس الجسد إلى الرمز” 1992، و”حياة مبيتة” 1995.

“كرسيان متقابلان”، الصادر عن دار “شرقيات” في القاهرة، يبدو من الوهلة الأولى محتفيا بالآخر، على عكس الشائع في قصيدة النثر الحديثة، ويبحث فيه الشاعر عن ملامح الجيرة الدافئة التي يرسمها من وجوه جيران عابرين، مثل خادمة عجوز، أو جار يتردد إليه شاكياً من مرض أصاب امرأته، ويبدو الموت مصيرها المحتوم، أو المكوجي، أو حتى صديق طفولة قديم، وغيرهم. يرسم الشاعر لكل من هؤلاء بورتريها شعريا، يحولهم من بسطاء الحي العابرين إلى ناسه الحقيقيين، وعلاماته الماثلة، وتبدو عينا الشاعر كأنهما تزيلان عن الحدقتين غشاوة النمطية وعادية الرؤية اليومية لتغوصا في دواخل هؤلاء البشر وتبثا فيهم حيوية شعرية.

يبدو جليا في مجموعة القصائد الأولى التي أعطاها عنوان “جيرة دافئة”، تأثر الشاعر بتجربته في “أمكنة”، إذ أصبح متعلقا بتأمل الآخر، وإعادة طرح الأسئلة حول ذاته من زوايا جديدة تماما، ويظهر أحيانا أن هذه الأسئلة، وتلك الملامح البشرية، تستغرقه على حساب اللغة التي كانت مختبرا للتجربة الشعرية نفسها في دوواينه السابقة.

العنوان الموحي الذي اختاره لديوانه مستعيرا إياه من قصيدة شفافة عن العلاقة بالأم، يمتلك في حد ذاته طاقة شعرية وتخييلية معا، إذ يحفز صورة لكرسيين خشبيين عتيقين في غرفة خاوية، قد يجلس إليهما اثنان يؤكدان هذا الحس بالعلاقة بين الذات والآخر عبر تجليات عديدة. لكني مع قراءة القصائد اكتشفت أن خيالي الفقير هو الذي جعلني أستدعي هذين الكرسيين، في حين ان في الإمكان استدعاء صور عديدة لكرسيين متقابلين من أجواء الديوان. فقد يكونان كرسيين عصريين في غرفة معاصرة الطراز، أو كرسيين من كراسي الشواطئ على رمال الإسكندرية التي تستدعيها مقاطع عديدة من الديوان بلمحات أو بأسماء الشوارع.

كما أن العلاقات التي يمثلها الكرسيان عديدة، تبدأ من الأب والأم أو الشاعر والأم، إلى الشاعر والأب، وقد تستدعي عاشقين عاريين، أو امرأة وحيدة أمام كرسي خال تضع عليها قدميها. صحيح أن الشاعر لا يقول شيئا من هذا، لكن أجواء القصائد تجعل العنوان مرنا ليستوعب صوراً شعرية عدة.

لكن القصائد تقترب أيضا من الموت، تتأمله، كأنه صديق، وتختبره عبر علاقات الفقد، ومرور الزمن، وصور الرحيل، وفوبيا الخوف من الفقد التي تسيطر على روح الصفحات. تتأمل الموت عن كثب، تحاول أن تعرف لونه وصوته بصور شعرية عدة، منها مثلا ما يقوله الشاعر في “الألبوم العائلي للموت”: “كانت تضغط بإحدى يديها على يدي/ ويدها الأخرى كانت تصفف خصلة شعر هشة/ طيّرتها أجنحة ملائكة الموت (…) في عروق زرقاء/ كنت أجس هذا اللحن القديم/ النبض وهو ينسحب تدريجيا/ ويخلي المكان لصمت طويل”.

يرسم الشاعر في هذا الجزء من الديوان صورا حزينة وشفافة للمكان، للحي الاسكندراني الأريستوقراطي، بناسه البسطاء وغيرهم، مثل عجوز هاجرت إلى أوروبا، ولا تشعر روحها بالدفء إلا عندما تعود لتتأمل شرفة بيت طفولتها القديم. أو صديق الطفولة التي كانت أخته تشجي الروح بغنائها من الستينات، أو سائق التاكسي الذي أطلق لحيته، شأن نماذج عدة تؤكد الفجوة التي تتعمق يوميا بين ماض جميل وواقع أصبح الدفء فيه وهماً من زمن قديم.

إلا أن الشاعر يعطي القسم الثاني من الديوان عنوانا متناقضا مع روح القسم الأول منه، إذ يسميه “سنواتي الجميلة”، وهي قصائد يعود فيها الشاعر إلى ذاته، يختبر معنى الزمن في عقده الخامس، ويتأمل ما ترسخ في وجدانه، والتفاصيل الصغيرة التي قد يكون لها وحدها معنى مبهجا أو مختلفا. كما يتأمل فكرة الحياة الداخلية التي يحرص الفرد عليها، ليس بدعوى السرية وإنما لأنها “شفافة أكثر مما يجب”، في صورة مستدعاة من عاملة النظافة في الفنادق، في وصفها صاحبة الحق في تأمل خصوصيات رواد الغرف.

لا تخلو قصائد هذا القسم من حسية شعرية تفيض، ربما، في قصيدة “أقوى من أي ماض حزين”، وفيها يقول: “أي جسدين عاريين/ أقوى من ماض حزين لأغنية/ أو لحياة مليئة بالإخفاقات/ ساعتها أود أن أدخن علبة سجائر كاملة/ حتى تضيء الحجرة بالدخان/ تصعد أجسادنا مع الغناء/ تتسلق الحواف المضيئة للشجر/ مآذن الفجر، منبهات البيوت المجاورة/ الحياة تبدأ/ ونحن متضافران بين شغف العتمة والضوء/ لا نهبط إلا والنهار يعري تنفسنا البطيء/ إيقاع الحياة والموت”.

يؤكد علاء خالد بهذه القصيدة الشغف الذي راحت الذاكرة تعمل عليه بدأب بحثا عن كل ما يذكّر بحب الحياة، محققة انتصارا لا يخلو من شجن على نقاط سوداء معتمة فطرتها الهموم، لكنها بالنسيان وبالشعر وبالآخر أيضا، يمكن أن تكون محتملة.

 

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم