كرامات سيدي الدمنهوري

موقع الكتابة الثقافي writers 48
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

محمود عبد الهادي

كانت قريتنا ككل القرى، لديها غيطان وترعة وغرزة ومسجد، ومقام لولي من أولياء الله تدور حوله الكثير من القصص والحكايات التي نرثها من الأجداد كما نرث أملاكهم وأموالهم وأحزانهم. أما عن المقام فهو مقام سيدنا الدمنهوري الذي وجد قبل وجود القرية بزمن غير طويل، وأما عن حكايتنا فلم يعد يعرف أحد زمن حدوثها على وجه التحديد لكنهم أجمعوا أنها كانت منذ زمن بعيد، زمن غير الزمن.   

وعندما بدأت كان الوقت قبل صياح أول الديوك وبعد توقف آخر الكلاب عن النباح، حين هربت الفئران من جحورها، وتزاحمت الأفاعي فوق مقام سيدي الدمنهوري، ونطحت الماشية الجدران حتى فاضت روحها، في ذلك الوقت تحديدا استيقظ الجميع على صوت الارتطام الأول..

هرع من هرع إلى مكان الصوت الذي رج منازلهم منذ قليل، فكان إسماعيل الفكهاني -لقرب بيته من المقام- هو أول الواصلين، بُهت لما رأى، وقف مذهولا ينظر إلى جثة رجل بجلباب أزرق مطروحة على بطنها أمام باب المقام، ولما اقترب قلب الجثة على ظهرها، فإذ به يجدها جثة أبيه، انتفض مذعورا يرتعش كمن أصابته لوثة، لا يصدق ما يراه، فأبوه كان قد مات منذ عدة أشهر بمرض غامض صاحبه ما يقرب السبع سنوات. زُلزل الناس الذين تجمهروا حول الجثة، أخذوا يحوقلون ويبسملون غير مصدقين ما حدث:

-يبدو أنه سقط من أعلى وإلا ما سر صوت الارتطام العظيم الذي حدث؟

-هل سقط من السماء؟!

صاح صوت من بين الجموع: إنها كرامات سيدي الدمنهوري!

فرد آخر: وما الكرامة في أن تعود جثث الأموات وهي لا روح بها ولا حياة؟!

– ربما مات من الارتطام، ألم تقولوا إنه سقط من السماء؟

فردد أكثر من صوت: إنها كرامات سيدي الدمنهوري! إنها كرامات سيدي الدمنهوري!

فرد آخرون واختلطت الأصوات ولم يعد تمييزها يسيرا، أما إسماعيل الفكهاني فلم يدرِ هل يفرح لأن أبيه عاد إلى سطح الأرض مرة أخرى، أم يحزن لأنه مات من جديد!   

وعلى الظهيرة كان قد تم دفن جثة الأب في مدافن غير مدافنهم المعتادة لأن أهل قريتنا اتفقوا على أن دخول المقابر القديمة هو آخر خطأ يمكن أن يرتكبوه الآن. وانصرف الجميع إلى أعمالهم وهم يتمنون أن يكون ما حدث حلما ينسونه بمجرد استيقاظهم. واستقبل ابن الفكهاني المعزين في بيته من جديد وقرأوا عليه القرآن من جديد. وكان الجميع يشعر بأن هناك غمامة قد ظللت قريتهم وأن ما هو قادم غير مُبشر.

وعندما كانت الشمس تهبط متثاقلة خلف الجبل سمعوا صوت ارتطام كالذي حدث صباحا، غير أنه كان أشد وأقوى، وعندما ذهبوا فوجئوا بجثتين؛ رجلا وحمارا، الحمار كان نافقا، أما الرجل فمازال يحتضر وكان هو المعلم إدريس تاجر الأفيون الذي وجد مذبوحا هو وحماره داخل غيطان القصب منذ عامين، وجن أبناؤه وقتها لعدم معرفتهم بالقاتل وأخذهم بالثأر. التف الأبناء الذين اشتهروا بالإجرام والفاحشة حول أبيهم الهابط لتوه من السماء كقديس لا ينقصه غير هالة من نور حول رأسه، فلم ينطق غير اسم قاتله ومات. وفي لحظات كان الأبناء قد ذبحوا شريك المعلم إدريس وعلقوا رأسه على باب مقام سيدي الدمنهوري.

لم يستطع أحد أن يعود إلى بيته في تلك الليلة، ظلوا جميعا واجمين خائفين بجوار المقام، لا يعلمون ما الذي يحدث ولا كيف سينتهي لكنهم أجمعوا على أنهم يجب أن ينقذوا الهابط التالي من السماء..

وكانوا قد توقعوا حدوث الارتطام الثالث عند الشروق. واستعدوا له جيدا بوضع الكثير من المراتب والوسائد وأجولة القطن أمام المقام بحيث تصبح كوسادة كبيرة تحمي الهابط من وقع الارتطام، وقبيل الشروق كانت الأعين مصوبة نحو السماء فيما بدت نقطة سوداء بعيدة تقترب وتكبر حتى ارتطمت، تمنى كل منهم أن يكون ذلك الهابط من أهله. وعندما قام من بين أجولة القطن فوجئوا بأنه مأمور المركز الذي ضيق عليهم تجارتهم الممنوعة وسجن الكثير منهم حتى ضاقوا به فنصبوا له فخا وقتلوه وألقوا بجثته في الترعة منذ خمس سنوات. فقتلوه على الفور والقوا به في الترعة مرة أخرى.

وعاد صوت يقول: إنها كرامات سيدي الدمنهوري!

ويردد آخر: إنه غضبه ولا شك!

-هل قامت القيامة؟

-لو قامت لحدث غير ما يحدث!

-لو قامت لن يحدث غير ما يحدث!

-هل نتصل بالمركز؟

-هل سيعود جميع من ماتوا؟

فصاح أحد الدراويش: اصمتوا يا غجر وتأملوا كرامات سيدنا الدمنهوري، فقد جاء منذ زمن ليشفي المرضى بيديه، وينبت الأرحام العقيمة إذا أمرها.. قد عاد يخلصنا من آثامنا من جديد.. إنها كرامات سيدي الدمنهوري ولا شك!

فقال أحد الكارهين لسيدي الدمنهوري: لم يكن سيدك إلا حرامي مواشي استوطن أرضنا هو وعصابته وعندما مات ادعوا إنه ولي لكن الحقيقة إنه لم يكن إلا مجرم متشرد.

احتدم النقاش وانقلب إلى معركة لا يدري من اشترك بها عدوه من صديقه، فسالت الكثير من الدماء، لكنهم كانوا يتوقفون عند كل ارتطام، يعاينون الهابط  وإن كان عليه ثأر يقتلونه، وإن كان من أعدائهم -وكانوا كُثر- يقتلونه أيضا، وإن كان ليس هناك ما يدينه أعتقوه، لكنه لا يسعد بحياته كثيرا إذ يظن البعض أن وجوده حيًا هو نذير شؤم فيقتلوه أيضا، وظلوا على تلك الحال ثلاثة أسابيع، كان قد مات بها كثيرون، منهم من مات للمرة الأولى ومنهم من مات للمرة الثانية. حتى توقفت السماء عن إلقاء الأموات، وتوقفت كرامة سيدي الدمنهوري الكبرى التي عدها أهل قريتي معجزة ذلك الزمان وكل زمان. 

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون