كان المكان مختنقاً ومفزوعاً

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

أحمد ثروت

كان المكان مختنقاً ومفزوعاً من العدد البشري الذي يسكنه. شكل هائم يضم بين منحنياته المتعددة عشرات الأرجل والعيون والأذرع، لا تستوعب هذه المساحة سوى ربع العدد الموجود فعلياً على الأكثر؛ و السبب جلّي ساخر ..

-مافيش مواصلات

-ولا ميكروباص فاضي ...

-تاكسي منين يا سيدنا ؟! غالباً هنمشي لحد ما يبان لنا صاحب ..

-يا بنتي مش قادرة ... اتصرفي ..

-الزحمة لُحمة ...

..........

المساحات الخالية حول الشكل البشري العشوائي لم تشجع أي فرد على التزحزح من مُستقره؛ فكل واحد قد تسمّر في موقع محدد بعد أن لفّ و دار و راح و جاء كثيراً ، بعد أن جرى خلف الميكروباص الذي يئن مماّ يحوي، أو هرول وراء السائق المندفع هرباً من القادمين بمركبته الفارغة، كل شخص قد جرّب واختبر تحركات ومواقف واندفاعات أوصلته لمكانه الحالي؛ سواء عن اختياره بعد اختبار الخيارات الفاشلة والناجحة والغير مجدية أو بإجبار الكتلة الجسدية الضاغطة من كل اتجاه له على أن يلزم حدوداً لا يتخطاها.

ولم يكن هناك انفراج أو انبساط في المستقبل القريب المرئي، كان الوضع المختلط للسيارات والميكروباصات و المركبات المتباينة يبدو بلا نهاية ؛ فالكل متداخل و الحركة بطيئة حتى أنها لا تكاد تظهر للفاحص الباحث المدقق .كان جنود شرطة متناثرين في الفجوة الضئيلة يحاولون بخطى عاجزة  أن يقتنصوا ثغرة لم ينتبه لها ” عربجي” عربة كارو أو فتى مغطى بالشحم و الغضب و هو يقود ” تيريسيكل” ثلاثي العجلات ، لكن الجميع قد اقتنصوا كل الفرص و أرباعها و أشباهها ، فلم تبق نافذة ولم ينج ثقب إبرة.

هذا ما كان واضحاً أمام الشاب الممتلئ عريض الكتفين الذي فَرَقَ شعره اللامع من الجانب، كان يضغط على أصابع قديمه بكل جسده ليتثبت بالموقع الممتاز الذي يجعله اقرب لاقتناص أول فرصة تلوح، كان يضغط أصابع يديه في بعضهما ضامّاً بينهما جهاز اتصاله الحديث الذي يظهر من بينهما و كأنه حيوان أليف محاصر  يحاول الافلات ولا يستطيع حتى التنفس، بينما هو ينسج سيناريوهات متنوعة لمحاولات سرقة جهازه الأثير و كيف سيمنع هذه الكارثة، كان يضغط أصابع قدميه وأصابع يديه وأسفل جبهته فوق حاجبيه، كانت رأسه مضغوطة بشكل تلقائي فبدا كجِوال منتظم مضغوط غريب الهيئة؛ بينما لمعان شعره النائم هو مؤشر وجوده ، و الومضة التي تُشير لحيز يشغله.

كانت العِبارة تتأرجح أمام عينيه …

-مافيش مواصلات …

كانت العِبارة تققفز من أمام عينيه نحو رأسه و اذنيه ؛ تتراقص فوق لسانه ، يجب أن يتكلم .. شفتيه تتحركان رافضتين ضغطه عليهما و جزّه بأسنانه كي يمنع لسانه من الخروج ، لكن ضغوطه الواعية على أعضاء جسده وعلى نفسه للصمت لم تصمد أمام ضغط الجسد العشوائي الضخم ، كانت اصوات المنتظرين، همساتهم وصراخهم و تنهداتهم تضغط أكثر.

يجب أن ينطق ، سيضيع صوته حتماً في الصخب و الزحام ، لن يسمعه أحد ، فليُسر عن روحه بكلمتين لن يسمعهما أحد ، ربما لن يسمع نفسه من الضوضاء المتواصلة . كان خوفه و الكتلة البشرية يتصارعان رأساً برأس، ولأول مرة في حياته يرضخ خوفه المغطى بأمان مأمول سيحدث إن لم يسمعه أحد ، تحركت شفتاه ؛ و تركهما يتمتمان بحُريّة ..

-مافيش … مواصلات …

قالها بصوت منخفض ؛ ثم أعادها مرة أخرى كتمتمة لتعويذة أسطورية، لم يسمعه أحد كما توقع وتمنى، هو نفسه لم يسمع صوته ، لكن كلماته رنّ جرسها في رأسه ، أعادها مرة أخرى بصوت أكثر ارتفاعاً …

-مافيش مواصلات .

حين أعادها بصوت عالٍ في المرة الثالثة ، انتبهت له المرأة ذات الخِمار البني الفاتح و النظارة السميكة .. انتبهت له البنت التي ترتدي نقاباً أسوداً مغبراً ممتداً على الأرض تحت قدميها … انتبه له الرجل الأصلع صاحب البطن العظيمة التي تبدو جزء مستقل عن جسده .

……….

-و لا ميكروباص فاضي …

قالها الرجل وهو يضع كفيّه حول ” كرشه” و كأنه يسنده أو يحدد محيطه الحقيقي. أزمة الرجل تفوق أزمة الفتى ذي الشعر اللامع ؛ بل تفوق مجموع أزمات الواقفين جميعهم ؛ فالرجل يحمل كتلة ضخمة ملتصقة به يجب أن يحملها في ركضه نحو الفرصة ، و أن يُجلسها و أن يحميها .. كان يبدو كامرأة سمينة حبلى في شهورها الأخيرة ، لكن المرأة المُتَخَيَلة ستُوفد روحاً جديدة في هذه المعركة ، روحاً تحلم و تحب و تلعب و تحيا، أما كتلته الضخمة الصديقة  فلن تجلب شيئاً نافعاً لأحد و لا حتى له هو.

ربما انفكّ الكرب فعَبَر ميكروباص أو أكثر ينقصهم راكب أو ركاب ، لكنه علم أن حتى هذه المعجزة  ستزيد حسرته و تُضاعف أمله ؛ فهو سيندفع مع المندفعين و يهرول بين الراكضين ، ثم سيتوقف فجأة ليمسح عرق جبينه ووجهه و أذنيه بكف غليظة أقرب للأحمر منها للون جلد انسان عادي ، كان يمسح عرقه بكفيه ثم يجففهما في بنطاله أو قميصه القطني كيفما اتفق ، حين لمحته المرأة صاحبة الخِمار انتفض جسدها جزءاً من ثانية لرؤيته يمسح عرقه بيده و في ملابسه ، ثم وجهّت نظرها للفتاة المنقبة المغمضة عينيها حالمة بانتهاء  الوضع السيء بأي شكل .

-يا بنتي مش قادرة … اتصرفي …

………

فتحت الفتاة عينيها ببطء ونظرت لأمها في استغراب ساكن، و لم تنطق؛ فقد كانت عبارة أمها غير منطقية و لا مفهومة  في هذا الحدث الخانق المحيط بهم بأشكال متباينة من شتى الاتجاهات ، لكنها لاحظت نظرات أمها المضطربة نحو الرجل ذي الكرش الواسع ؛ فنظرت إليه بخمول و فكّرت كيف سينتهي اليوم الذي لا بد له من نهاية ، نهاية اليوم تحمل لها الحلم والعاطفة المشتعلة. في النهاية يجب أن ينتهي هذا الحشد و تختفي هذه الكتلة الانسانية اللانهائية لتستطيع العودة مع أمها لشارعهم المحبوب، لبنايتهم المعشوقة، لتعبر أثناء صعودها للأعلى طابق الولد النحيف ذو الشعر الكثيف الملفوف حول بعضه ، لنظرته النافذة التي تُدفئها و تُلهبها، استفاقت فجأة على صوت يعلو الهمهمات والضحكات والزعيق المختلط، كان صوتا قوياً متبجحاً شعرت برذاذ الفم الذي أطلقه ينفذ من نقابها لأسفل رقبتها ..

-الزحمة لُحمة …

………

كان يطلق العبارة مرات بصوت جهوري صاخب يبدو كرقصة  كائن بدائي يستعد لذبح رفيقه ، كان صوتاً مزعجاً ومقلقاً في النهاية، وكان يقترب من جسدها وهو يمد شفتيه السائلتين باللعاب الواضح …

– الزحمة لُحمة يا بشر …

لم ينه الموقف المرعب سوى لقطة فجائية لأمها وهي تهبط بحقيبتها الواسعة الثقيلة كصخرة فوق ظهر الفتى المهلهل ، كانت ضرباتها تزيده صراخاً و هو يهرب تاركاً الزحام.

…….

-تاكسي منين يا سيدنا ؟! غالباً هنمشي لحد ما يبان لنا صاحب ..

بصوت هادئ واضح تماماً عبّر الولد الأقصر لرفيقه -الذي يشبهه تماماً لكنه أطول – عن القرار الذي وصل إليه بعد مناقشات و استنتاجات وتخمينات و تطلعات مختلفة عبثت في رأسه.

 كانا يحملان بالتبادل كيساً بلاستيكياً ضخماً يفوق القصير حجماً ؛ ليس ثقيلاً لكنه يشغل حيزا ضخماً يعيق الذي يحمله عن الحركة الصحيحة ، فكانت وظيفة أحدهما الدخول في السباق من أجل حجز مقعدين له و لرفيقه ثم يضعان الكيس فوق أرجلهما باي وضع يكون ، يقف الذي يحل دوره حاملاً الكيس لا يقدر على وضعه على الأرض كي لا يضيع جزءاً من فرصة قد تلوح في الأفق الباهت ، و يقف الآخر في وضع الاستعداد يراقب و يستنتج و يحاول الحصول على افضل الأماكن المتاحة لنيل مقعدين من مركبة تستطيع عبور ملحمة الزحام اللا نهائية .

استمر كفاحهم ما يزيد على الساعتين حتى أن كل الأفكار والتخمينات والاقتراحات قد طُرحت ونوقشت ، ولم يتبق غير الحل الوحيد المتاح ، الحل الأكثر صعوبة . أن يتحركا ، يبدأان في السير نحو هدفهم البعيد، كان قراراً حاسماً ولا وقت للنقاش فيه، فتكفي الساعتان اللتان ضاعتا في الانتظار والكر والفر دون أي عائد أو فائدة .

اقتراح التاكسي و رفضه لم يستغرقا سوى لحظات الكلام ، فقد كان اقتراحاً مرفوضاً من طارحه نفسه قبل أن يحوله لكلمات بلا هدف سوى الكلام.

-تاكسي منين يا سيدنا ؟! غالباً هنمشي لحد ما يبان لنا صاحب ..

كان رداً كأمر بوجوب البدء في المسير .

مارس 2018

 

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون